القدّيس طاليلاوس المظلّل بالروح القدس.
090109
القدّيس
طاليلاوس كان رجل العجائب بدون منازع. وكلّ الذين عرفوه في حياته كانوا
يأتون إليه لينالوا الشفاء من أمراضهم النفسيّة والجسديّة.
لقد حطّ رحاله على بُعد عشرين غلوة من مدينة جبلة الصغيرة الرائعة. ذلك
فوق تلّة حيث كان هناك قديماً هيكلٌ لعبادة الشياطين. وقد ابتنى له هناك
صومعةً صغيرةً حيث كان الوثـنيّون يُقرّبون الكثير من الذبائح. ويُقال
إنّ هؤلاء كانوا يكرّمون تلك الأَرواح الشرّيرة ليُبعدوا عنهم تعدّياتهم
المتواصلة، لأَنّهم بالفعل كانوا يُلحقون الأَضرار بكثيرين من عابري
السبيل والمجاورين، وذلك ليس بالأَشخاص فحسب، بل أيضاً بحميرهم وبغالهم
وبقرهم وغنمهم، وغايتُهم ليسَ محاربة الحيوانات نفسها، بل من خلالها
البشر. وعليه لمّا رأى الشياطين أنّ طاليلاوس قد وافى إلى ذلك المكان،
حاولوا أن يُخيفوه، لكنّهم لم يستطيعوا لأَنّه كان محصّناً بإيمانه وكانت
النعمة تصونه. فاستشاطوا حينئذٍ غضباً جنونيّاً، وتحوّلوا عنه صوب
الأَشجار المغروسة هناك، لأَنّ تلك التلّة كان حولها عددٌ كبيرٌ من
أَشجار التين والزيتون تزهو بنضارتها. ويُقال أنّ أكثر من خمسمئة منها قد
اقتُلعت فجأةً. وهي حادثةٌ رواها الفلاّحون من المنطقة كانوا في ما مضى
أسرى لظلام الكفر. وقد نالوا نور المعرفة الإلهيّة بفضل تعليمه وقدرته
على إجراء المعجزات.
ولمّا تبيّن للشياطين الأَردياء أنّهم لا يتمكّنون بأَساليبهم هذه أن
يُخيفوا بطلَ الإيمان هذا، عمدوا إلى حيلٍ أخرى، فكانوا يبعثون حوله
أَنيناً ويُظهرون مشاعل. أمّا هو فكان يسخر من خزعبلاتهم هذه. حينذاك
تركوه وفرّوا هاربين.
يقول تيودوريتوس أسقف قورش قد ذهبتُ مرّةً لزيارته، فوجدته يقتطف الفوائد
من الأَناجيل المقدّسة ويجمعها بعنايةٍ جزيلة. ولكنّي بادرته بالإعراب عن
رغبتي في أن أَعرف الداعي إلى أن يسلك هذه الطريقة الجديدة في الحياة.
فأَجابني : "أنا واقعٌ تحت عبءٍ ثقيل من الخطايا الكثيرة. ولمّا كنتُ على
يقين من العقابات التي تنتظرني، فقد استنبطت هذا النوع من العيش فاخترت
لذاتي عذابات تلائم قواي الطبيعيّة لأُخفّف شيئاً من تلك التي تنتظرني،
لأَنّ تلك العذابات هي في الحقيقة أشدُّ إيلاماً، ليس لكثرتها فحسب، بل
لصفتها ذاتها، لأَنّها مفروضة والمفروضُ علينا ضدَّ إرادتنا شديد الوقع
علينا. أمّا الذي نريده نحن، ولو كان أَشدَّ إيلاماً، فنحتمله بصعوبة
أَقلّ، لأَنَّ هذا الأَلم طوعيّ وليس مفروضاً بالقوّة". فلمّا سمعتُ منه
هذا الكلام أخذني العجب العظيم، لأَنّه لم يكن يجاهدُ فوقَ القياسات
المعتادة ويستنبط جهادات أُخرى من عنده فحسب، بل كان يعرف أيضاً لماذا
يتصرّف هذا التصرّف ويعلّمه غيره.
ويعتقد الذين عرفوه عن قرب أنّ عجائبه لا تعداد لها قد جرت بوساطة
صلواته. وقد نعم بفوائدها ليس البشر فحسب، بل الجِمَال والحمير والبغال
أيضاً، لذلك فإنّ الشعب الذي كان رازحاً كلُّه تحت وطأة الكفر قد نبذ عنه
ضلال أجداده ليتقبّل بهاءَ النور الإلهيّ. وهو قد بذل كلّ اهتمامه ليهدم
معبد الشياطين ويشيّد مزاراً فخماً للشهداء الظافرين، فاستبدل الآلهة
الكَذَبَة بإله المسيحيين الذي أعطاه جميع النعم ليستمرَّ في حياة الجهاد
والتضحية.
أمّا بلدة جبلة التي أَقام بجوارها فهي برأي العلاّمة الأَب فيستوجيير
المدينة المعروفة بهذا الاسم الواقعة على شاطىء سوريا، ثلاثين كيلومتراً
جنوبيّ اللاذقيّة. ولقد جمع بين طريقة مار مارون النسكيّة القائمة
بالحياة في العراء وبين حياة الحبساء ضمن مكانٍ مُقفل. ويُستدلّ من وقائع
حياته أنّ البقعة المجاورة لجبلة كانت لا تزال في أواسط القرن الخامس
وثنيّة، وقد كانت لطاليلاوس اليد الطولى في اهتدائها إلى المسيحيّة. |