عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب الخوري يعقوب طحان   

الحضارة الآرامية السريانية بين الماضي والحاضر

 بتاريخ : الخميس 17-06-2010 

الأب الخوري يعقوب طحان

ما هي الحضارة ؟... الحضارة هي تاريخ شعوبٍ اتسمت بالمدنية والتقدم والازدهار، فالحضارة مشتقة من فعل حَضَر أي وُجِدَ واسم الحضور أي الوجود،

فالذي يعمل بجدٍّ ونشاطِ من أجل أن يُثبِتَ وجٌوده بهذا العالم الذي هو أشبه بالغابة المترامية الأطراف ويجتهد أن يكون فيها شجرة مثمرة وارفة الظلال يأوي إليها الطير ويغرِّد على جمالها ويهنئ بالنوم على أغصانها ويأكل الإنسان من ثمارها ويتلذذ من طيبها. لا أن يكون مثل بنات آوى يتردد بين جدرانها بدون جدوى ويعمل جاهداً لكي يؤذي الآخرين ولا نفع لوجوده.

لو قلَّبنا صفحات التاريخ وتعمَّقنا بكلمات صفحات الزمن لرأينا بأن هنا شعوب عبروا  على سفوح هذا العالم مثل غبار الصحراء دمّروا أكثر مما بنوا وخرّبوا أكثر مما أفادوا، فكانوا أشبه بالغيوم الفارغة التي تسبح في الفضاء من دون ماء وتغلق طياتها بوجه العطاء. فهذه الشعوب سوف ينساهم التاريخ  لئلا يتألم ويبكي عندما يذكرهم.

وهناك أقوام  كرامٌ نسجوا من الآلام أثواب الأمل والسلام. سعوا إلى تحقيق الأحلام من صدق الكلام، ساروا مسرعين لاقتناء العلم والمعرفة ، وعملوا جاهدين على خدمة الإنسان ورعايته، فحافظوا على ثقتهم بأنفسهم، وعلومهم وفلسفاتهم ، وحكمهم واكتشافاتهم، وقبل كل هذا اتشحوا بثوب التمسك والحب الإخلاص للغتهم وتاريخهم . فأصبحوا مثل المنارة التي أنارت العالم بنورها ، ومثل الينبوع الصافي الذي روى الأرض بمياهه العذبة، فأقولها وبكل ثقة بأن مثل هذه الأقوام والشعوب فهي تحيَ إلى الأبد ولو أنها توارت عن الأنظار إلاّ أنها تعيش بشعاعها و وازدهارها وبحب الناس الغير متناهي لها. ومن هذه الحضارات المتألقة الحضارة الآرامية السريانية.

الساميون وتاريخهم: من هم الساميون؟.: لقد اختلف الباحثون  والمستشرقون بتحديد موطن الساميين ولا سيما الآراميين. ويهذا الصدد قال المستشرق الفرنسي (جان شابو): ولسنا كذلك نعرف بالتأكيد موطن الساميين الأولين، فبعض العلماء من ذوي الخبرة يزعمون أن منشأهم ألأقطار الواقعة في جنوب بحر قزوين وفي جنوبه الغربي، وأنهم رحلوا من هناك وانتشروا من ثمَّ شيئاً فشيئاً في كلِّ الأقطار  التي نصادفهم فيما بعد من الأزمنة. ويرى آخرون أن صفات الساميين العنصرية ومنها: الإيمان الشديد والتعصّب والتصور تتم على أصل صحراوي. وزعم سايس  أنهم من بلاد العرب ووافقه الكثير من المستشرقين على هذا الرأي. ولا زالت آراء العلماء في نشوء الأمم السامية وموطنها الأصلي غير ناضج حتى وقتنا هذا. وربما يكشف لنا المستقبل عن أجوبةٍ شافيةٍ وحلول كافيةٍ لهذه المعضلات (تحقيقات لغوية في حقل اللغات السامية للمطران غريغوريوس بولس بهنام مطران بغداد والبصرة، ص:10) . ويرجع أهم ما قيل بهذا الصدد إلى ستة آراء:

1: يقول فون كريمر... وغودي.. وهومل.. : إن المهد الأصلي للأمم السامية كان جنوب العراق، وهذا الرأي يتفق على ما ذكرته التوراة من أن أقدم ناحية عمَّرها أولاد نوح هي أرض بابل، ويرون أن الساميين هاجروا قديماً إلى شمال بلاد العرب، ثمَّ استوطنوا تلك البلاد، ومن تلك الجهة هاجروا إلى بابل قبل أن يهاجر الآريون إليها، وأقدم موطن لأدب الساميين في نظرهم هو وادي دجلة والفرات، ويستدلون على رأيهم هذا بكلمات مشتركة في جميع اللغات السامية تتعلق بالعمران والحيوان والنبات، ويتخذون من هذا الاشتراك دليلاً على رأيهم، ويقولون إن أول من استعمل هذه الكلمات هي أمم تلك المنطقة ثمَّ أخذها عنهم جميع الساميين، وحجة غودي في ذلك هي أن المعاني الجغرافية والنباتية والحيوانية التي عبَّر عنها الساميون في لغاتهم منذ شُتتوا وتفرقوا، تطابق تمام المطابقة الخواص الطبيعية لنهر الفرات الأسفل وحده. بيد أن المستشرق الألماني ( نولدكه) يعارضه في هذا الرأي معارضة شديدة ويقول: إن من العبث أن نعتمد في إثبات حقيقة كهذه على جملة كلمات ليس ما يثبت لنا أن جميع الساميين أخذوها عن أهل العراق. ويسرد أسماء عن الحيوان والعمران تختلف تسميتها من لغةٍ إلى أخرى مع أنها جديرة أن يكون لها لفظ واحد مشترك في جميع اللغات السامية. لأنها كانت موجودة عند الجميع حين كانوا أمةٌ واحدة  وحين تفرَّقوا أمماً شتى.

2: ويرى بعض العلماء أن المهد الأصلي للأمم السامية كان بلاد كنعان و يستدلون من هذا بأن ألأقوام كانت منتشرة في البلاد السورية القديمة منذ أزمنة متوغلة في القدِم ، وأن مدينتهم فيها قديمة لا يُعرف مبدأ نشأتها، وإن الكنعانيين هم أقدم في الوجود والنشأة من ساميي العراق، وعلى ذلك فالأخيرون قد نزحوا من بلاد كنعان مباشرة إلى العراق أو بعد نزوحهم إلى بلاد العرب، إذن فبلاد كنعان في نظرهم هي المهد الأول للأمم السامية، فأما بلاد العراق التي يرى أصحاب المذهب الأول أنها المهد الأول للساميين فقد كان يسكنها من قبلهم الشعب السومري، وكانت له فيها مدينة زاهرة قبل المدينة السامية وكان نزوح الساميين إلى العراق في عصر كانت فيه بلاد كنعان معمورة باسم سامية متمدنة.

3: ويرى البعض أن الساميين قد نشأوا في بلاد الحبشة ونزحوا من ثم إلى القسم الجنوبي من بلاد العرب ومنه انتشروا في مختلف أنحاء الجزيرة العربية.

4: ويرى آخرون أن الصلة بين اللغات السامية والحامية تدل على المهد الأول للساميين يجب أن يكون في شمالِ أفريقية ، وأن قلة الشبه الجسمي في الشعر وفك الأسنان بين الجنسيين السامي والحامي إنما هي ناجمة عن كثرة اختلاط الساميين والحاميين بالشعوب المختلفة، وهم يرون أن الأمم السامية نزحت من شمالِ أفريقيا إلى آسيا عن طريق قناة السويس. وأصحاب الرأيين الثالث والرابع ليس لهم من دليل سوى الصلات اللغوية بين اللغات السامية والحامية، والزعم بناء على ذلك بأن الجنسين السامي والحامي كانا في أفريقيا منذ أقدم العصور.

5: ويرى البعض الآخر أن المهد الأول للساميين هو في جهات معينة من أرمينية استناداً على ما جاء في سفر التكوين من أن الشعوب السامية انحدرت من مدينة ( ارفكساد) إلى حدود أرمينية وكردستان، وفريق من هؤلاء يرى أن بلاد أرمينية كانت المهد الأول للشعبين السامي والآري معاً.

 6: ويرى الكثير من كبار المستشرقين من قُدامى ومحدثين أن المهد الأول للساميين كان القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، ويؤيد هذا الرأي الأستاذان رينان الفرنسي وبروكمان الألماني، ودي غوجه الهولندي ورايت الإنكليزي، وهذا هو أصح الآراء وأكثرها اتفاقاً مع حقائق التاريخ ويعضد سايس في كتابه ( الأجرومية الآشورية ) هذه النظرية قائلاً (( إن جميع التقاليد  تدل على أن بلاد العرب هي الموطن الأصلي للساميين، فهي الأرض التي ظلت منذ زمان متوغلة في القِدَم خاصة بهم. (1): دروس اللغة العبرية للأستاذ ربحي كمال ص : 10و11و12)). ونصراء الرأي الأخير يستدلون على صحة رأيهم بأن الهجرة في هذه البلاد كانت تتجه دائماً من بلاد نجد والحجاز واليمن وما إليها إلى سورية والعراق وما إليها. فمن القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية نزح الساميون إلى جنوب العراق وغزوا بلاد السومريين وأقاموا فيها مملكة بابل الزاهرة، ومن هذا القسم نزح الساميون شمالاً حيث نشأت من سلالاتهم الشعوب الكنعانية حوالي القرن السادس والعشرين ق.م. ويبدو أن قبائل عاد وتمود لم تنزح مع النازحين، وتركت هذه البقعة آثاراً ونقوشاً قيِّمة ساهمت إلى حدٍ كبيرٍ في إماطة اللثام عن تاريخ اللغات السامية عامةً واللغة العربية خاصةً، ومن هذا القسم نزح في مستهل التاريخ الميلادي بعض القبائل المعدية من الحجاز إلى الشام، وبعض القبائل القحطانية من اليمن إلى الحجاز والشام والعراق. مما يزيد هذا الرأي تأييداً ما نلحظه من الظواهر اللغوية، ووحدة الفكر ، وميزة العقلية السامية القديمة التي تعتمد على الحس المشاهد لا على المعنوي الدخيل، واصطباغ ذلك كله بصبغة مشتركة أصلها وحي الصحراء وقوامها حياة البداوة، مما يدل على أن الجماعة السامية الأولى التي توارثت الأمم السامية عقليتها ولغتها وخيالها قد نشأت بادئ ذي بدء في بيئة صحراوية فقيرة في المظاهر الطبيعية كالحجاز ونجد، وعليه جاز لنا أن نقول بأن أصل جميع الشعوب السامية هو القسم الجنوبي  الغربي من شبه الجزيرة العربية، أو الشمال الشرقي من الجزيرة العربية أي المنطقة الواقعة في أسفل الفرات.

الآداب السامية  ومكانتها في الآداب العالمية:

اهتم العلماء الباحثون والآثاريون بالآداب السامية منذ نشأت العناصر الأساسية المميزة للحضارة، كالمدن وأنظمة الحكم والكتابة والتدوين والشرائع المدونة، والفنون والأنظمة الدينية، وأسس العلوم والمعارف إلى غير ذلك من مقومات العمران والمدنية، حيث شرع الإنسان ببناء الحياة الاجتماعية  ومعانيها وقيمها، وأخذ يُعَبِّر عن تصوراته وأفكاره وانطباعاته وذلك على ضفاف الرافدين ، ويتسم هذا الأدب بالصفات الأساسية التي تميزت بها الآداب العالمية الناضجة، وسواء أكان من ناحية الأساليب وطرق التعبير أم من ناحية الموضوع والمحتوى، أم من ناحية الأخيلة والصور الفنية. وقد اكتشف المنقبون الآثاريون في ((أوغاريت: تقع على الساحل السوري شمال اللاذقية وتُسمى أيضاً { رأس شمرا} )). المدينة الكنعانية القديمة، أدباً كنعانياً، يرُجَّح تاريخه لحوالي منتصف الألف الثاني ق.م. أي إلى ما بعد العهد الذي دُون في أدب وادي الرافدين بأكثر من خمسمائة سنة. ومثل هذا يقال في الأدب العبراني الذي تضمنته التوراة فهو متأخر كثيراً بالنسبة لأدب وادي الرافدين، إذ لا يتعدى زمن تدوين التوراة القرنين السادس والخامس ق.م. ونذكر على سبيل المقارنة أيضاً الألياذة والأوديسة المنسوبتين إلى هيرونيموس، واللتين تمثلان أقدم نماذج للأدب اليوناني، ونذكر أيضاً ال"" رج ــ فيدا "" الممثلة لأدب الهمد القديم ، وال"" أفستا "" (( الابستاق )) المتضمنة أقدم  آداب إيران، فمن هذه الآداب القديمة ما دُونَ قبل منتصف الأول من الألف الأولى ق.م.أي في زمن تدوين آداب السومريين والبابليين قد جاء إلينا على هيئته الأصلية دون تحوير ولا تبديل ولا إضافة، أي كما كُتبَ ودُوِنَ بأقلام الكتبة على الواح الطين قبل أربعة آلاف عام:S,N,Kramer,Sumerian,Mytholage)1961). وأشهر النصوص الأدبية السومرية والبابلية تدور حول أصل الوجود والخليقة وأصل الكون والآلهة والحضارة (( Cosmogony and Cosmology))  وعلى رأسها قصة الخليقة البابلية ومجموعات أخرى تدور حول أعمال الأبطال وأشباه الآلهة قبل ملحمة جلجامش وقصة "" إبتانا "" الراعي وقصة "" آدابا " وغيرها من مجاميع تتناول العالم الثاني كأسطورة نزول الآلهة عشتار (( أنانا السومرية )) إلى ذلك العالم. ثم القطع النثرية الأدبية التي تضمنت الرسائل وأعمال الملوك والأخبار والتراتيل والأغاني الدينية والصلوات والأدعية وغيرها، ولهذه الآداب قيمة عالمية كبرى لأنها تُعد أولى الآداب العالمية الناضجة.

 الشعوب الآرامية السريانية وآدابها المزدهرة:  لمّا كانت اللغة الآرامية السريانية من أقدم اللغات ، فبالضرورة المحتمة يكون أدبها من أقدم الآداب وأقربها إلى الينبوع الحقيقي الذي تدفقت منه الحياة الفعلية للأمم الشرقية. فالأمة الآرامية السريانية عاشت في كل عصورها والعلم والأدب ينيران لها طريق الحياة . لهذا فنحن متأكدون من قِدمِ  وغزارة وعمق أدب لغتنا الآرامية السريانية. لأنها نابعة من غزارة تفكير جدودنا الأقدمين وكثرة علومهم ووفرة معارفهم.

 من هم الآراميون: لقد ذكر المثلث الرحمات البطريرك يعقوب الثالث في كتابه البراهين الحسية على تقارض السريانية والعربية: بأن الآراميين ينحدرون من آرام وهو الابن الخامس لسام بن نوح الجد الأعلى لجميع الشعوب السامية، كما ذكر سفر التكوين ( 22:10) . ويذكر نيافة الحبر الجليل مار سويريوس اسحق ساكا في كتابه السريان إيمان وحضارة الجزء الثالث صفحة 13: بأنه هناك رواية أخرى في سفر التكوين ص: 2:22 إننا نجد آرام هو ابن قموئيل بن ناحور، وناحور هو أخو إبراهيم الخليل. وفي سفر أخبار الأول ص:34:7 نجد بأن آرام من نسل أشير الجد الأعلى لقبيلة أشير . والمهم.... أن آرام من صلب الشعوب السامية.( أنيس فريحة: دراسات في التاريخ ص224... ونستنتج  مما ورد في سفر التكوين بأن المشرق : أي بلاد العراق اليوم هو الوطن الأول للدوحة السامية، ولا سيما عندما ذكر بأن الأرض كانت كلها لغة واحدة وكلاماً واحداً، ورحلوا كلهم من المشرق ووجدوا بقعة في شنعار، فأقاموا هناك حيث بلبل الله لغتهم حتى لا يفهم بعضهم بعضاً لغة بعضٍ، وبدَّدهم وشتَّتهم على وجه الأرض لذلك سميت بابل( تك: 1ـ9) لهذا رأى المستشرق الإيطالي غويدي ومعه بعض أعلام الفكر بأن الجزء الأسفل من نهر الفرات هو المهد الأول للساميين.

عزيزي القارئ : لست عالماً ولا مؤرخاً ولا أحمل في جعبتي معلومات تؤهلني لذلك ، إنما أنا إنسان بسيط مازلت بالدرجة السفلى من هذا كله . و ما نشر ت هذه المعلومات إلا بعد بحث وتدقيق .

 ولست سوى عاملاً بسيطاً جمعت من بيادر العلماء والفقهاء وأصحاب المعرفة والأدباء من نجوم كنيستنا السريانية وغيرهم ممن درسوا وتعمّقوا بتاريخ حضارتنا السريانية حبَّات قمحِ تراثنا الجميل والذي ليس مثيل ، لأقدمه للمتعطشين لمعرفة أسرار هذه الحضارة الرائعة لأنها ما بُنيَت لا بمال ولا بسلطان لكنها بُنَيت بسواعد مجدولة ومن أحجار مجبولة بدماء زكية سُفكت بأساسات هذا الحضارة و جرت من عرقهم المُتَصبب جداول رقراقة روت العالم ما قبل الميلاد و بعده حتى أنه كثير من الناس أو المستشرقين الذين هم ليسوا من أبناء هذه الشجرة أصبحوا توَّاقين ليعرفوا ويعملوا وينهلوا من أصالتها ليرسلوها للعالم أجمع لما فيها من صفحات ناصعة مضيئة وأعمال مُستَضيئة.

 لهذا فأنا بدوري شربت هذه الملومات من آباء كنيستي الميامين الذين نذروا حياتهم من أجل تاريخ كنيستهم وحضارتها. ومنهم المثلث الرحمات العلامة مار غريغوريوس يوحنا ابن العبري كوكب السريان مقدام ملافنتها . والمثلث الرحمات البطريرك مار إغناطيوس أفرام الأول برصوم باعث مجد الكنيسة والوطن . والمثلث الرحمات البطريرك يعقوب الثالث الصوت الصارخ في العالم من أجل إضاءة شمعة أمجاد السريان . والمثلث الرحمات المطران مار غريغوريوس بولس بهنام القلم الدافئ والبحر الوافر . قداسة الحبر الأعظم سيدنا مار إغناطيوس زكا الأول عيواص حجر الزاوية وباني قلوب البشر قبل الحجر أطال الله بعمره . والمرحوم الخوري برصوم أيوب حامل لواء اللغة السريانية حتى الرمق الأخير من حياته وهو معلمي وأنا أعتز به رحمه الله .

 والكاتب الرقيق الذي أصبح لمحبي العلم والكنيسة صديق، الجدول الهادئ والراهب الصادق الذي كرَّس حياته للعلم بروضة العلماء وللصداقة بحقل الأصدقاء وتألق بالعلم وأصبح عالماً بصفوف الفقهاء هو المطران مار سويريوس اسحق ساكا أطال الله بعمره وأبقاه سنداً أدبياً وثقافياً للكنيسة والإكليروس جمعاء ، وإنني بكل فخر أقول بمقالتي هذه حملت أنوار شمعة كتابه وأضأت بها هذه المقالة . إذا هو المطران اسحق ساكا يتكلم معكم بهذا المقال . اعتمدت به على منهاج اللغة السريانية للمرحوم الخوري برصوم أيوب وكتاب السريان إيمان وحضارة للمطران اسحق ساكا وكتيب مخطوط نقلته عندما كنت طالباً في معهد إكليريكية مار أفرام الكهنوتي في العطشانة وهو تأليف المطران الخالد الذكر بولس بهنام .

فأحببت أن أنوِّه لك عزيزي القارئ لئلا يغرك كثيراً وتفتكرني صاحب علم ، لا .. أقولها .. لا.. وبكل افتخار أنا ما زلت طالباً بسيطاً و سأبقى طالباً حتى ساعة القبر وأفتخر بذلك .

الآرامية لفظاً وتسمية وتاريخاً

إن ضبط لفظ آرام وكتابة هذا الاسم فهو بمد الألف والراء مَفتوحتين كما هو ثابت وشائع في اللغات العربية والسريانية والعبرية ،(أنيس فريحة : دراسات في التاريخ ص 322 ) .

ويجب التمييز بين لفظتي آرام و إرم وبين الآراميون والإرميين ، قال العلاَّمة ابن العبري :

(إن الآراميين يأنفون من الاختلاط بالإرميين) ولا صحة لما ادَّعى البعض قديماً وحديثاًُ أن كلمة إرم ذات العماد الواردة في القرآن الكريم في سورة الفجر 6 مًشتَقَّة مِنَ الآرامية (من أصحاب هذا الرأي الأب أنستاس الكرملي وطه باقر : مقدمة في تاريخ الحضارات مج 2 ص : 268) . إن لفظة آرام لا علاقة لها بإرم ذات العمارت ، لأن المُراد بإرم في القرآن اسم مدينة وللمُفسرين في تَعيين أصلها ومركزها أراء عديدة وآرام في التوراة اسم علم ، وهو الابن الخامس لسام كما علمنا وذكرنا سابقاً .وهي لفظة سريانية مُستَقَّة من جذر سامي مُشترك ( رُم ) يعني المُرتَفِع أو العالي كما سيأتي شرحه .

أما معنى التسمية : فإن لفظة آرام هي سريانية مُشتَقَّ من جذر سامي مُشتَرَك ( رُم روم ) يَعني الُمرتَفِع والعالي ، وقيل أنه يعني الجبل أو الوعر فهو عكس مَعنى آشور الذي مَعناه السهل ( الخوري عيسى أسعد لتاريخ حمص ص 127 نقلاً عن دائرة البستاني 2: 761). وقال ألأب مرتين: إن آشور مَعناها خطوة ومَشية ( الأب مرتين ـ تاريخ لبنان ص 93 ترجمة رشيد الشرتوني ـ طبعة بيروت 1889) . أما آرام فهو لفظ عبراني مُشتَقّ من روم لا يُعرف أصل مَعناها بحسب

زعم البعض ، ويقرب من روم العبرانية أي ارتفع أو ( ورم ) بالعربية أي انتَفَخْ وسُمي كذلك إما لأن الآراميين سَكَنوا المُرتفعات والجبال على حد قول البعض ، ولئن كان هذا الأمر غير وارد جغرافياً . أو لأنه يشير إلى علو المكانة وسمو المنزلة نظراً للقدُّم الحضاري الذ أحرزه الآراميون بانتشار لغتهم ، و بالمقابل إن اسم كنعان تَعني الأرض المُنخفضة وهي مشتقَّة في العبرية من فعل ( كنع ) أي ركع وانخفضَ وتواضع ، وهو لفظ ميت في الكلدانية بمعنى خزي، وفي العربية (خضَعَ) ( فيليب حتي ـ تاريخ سورية ص 85 ومحمد عطية الأيراشي ـ الآداب السامية ص) . وجاء في مُلحَق قاموس مَنَّا (كنَع كنُعُا كنٌوعيُا كلدانية قديمة يجب إثباتها بمعنى كنع (ملحق قاموس مَنَّا ـ طبعة بيروت 1975 ص 922) . وزعم بعض المفسرين المحدثين لا يراد بِه إلاّ وصف الهيئة المكانية وإنَّما عدلوا في ذلك على أصل اشتقاق هذه اللفظة التي معناها السافل . فكنعان بحسب هذا الزعم البلاد السافلة بعكس آرام أي العالي أو البلاد العالية .ويستدل من كلام العلاَّمة أوغسطينس قوله: (( سبب تسمية أرض الميعاد بأرض كنعان يُعرف من معنى هذا اللفظ معناه المُنخَفِض {القديس أوغسطينس في شرحه المزمور 104 })) . العلاَّمة هيرونيمس ذكر نفس المَعنة المُشار إليه مستشهداً باثنين غيره مِمَن تَقدم ( القديس هيرونيموس في كلامه عن الأسماء العبرانية في كلمة كنعان) .وكان هدفهما للدلالة على حقيقة حال كنعان الأدبية بما نزل عليه من لغة جده نوح ، وما عنوا بذلك وصف الجهة التي سكنها لأن هذه التصورات الجغرافية لم تخطر على بالهم.

تاريخ ظهور الآراميين و ظهور تسميتهم

ظهر الآراميون على مسرح التاريخ في ألألف الثالث ق.م .على شكل قبائل رحالة عديدة.

ولم يتوصلوا الباحثون والمؤرخون إلى تشخيص أسمائهم بضبط ودقَّة على الرغم من البحث والتحري المتواصل والدقيق .فزعم قوم ٌ: أنهم كانوا يسمّون ب ( سوتو أو سوتيو ) ومعناها الرحل ، وذلك في الألف الثالث ق.م . وذهب آخرون أنهم كانوا يُدعون بقبائل ( أحلامو ) في عام 1500 ق.م . وكان الآموريون المقيمون في منطقة الفرات أول من أطلق عليهم هذه التسمية وتعني ( الرفاق أو الأحلاف ) . ثمَّ ظهرت قبائل آخرى إلى جانب أحلامو سُميت بالخبيرو أو العبيرو واقترنت اللفظتان فصارت ( أحلامو أو الخابيرو ) .

أمَّا لفظة آرام فقد وردت في كتابة مسمارية ترجع إلى عهد الملك الآكادي نرام سين ( القرن الثالث والعشرون ق. م.) ثمَّ وردت في كتابة أخرى تشير إلى مدينة أو دويلة باسم آرام قرب مملكة أشتونا في جنوبي العراق (الدكتور أحمد سوسه : العرب واليهود في التاريخ مج 1 ص 98 نقلاً عن

Moscati,Ancient semitic Civilizatations ,P168) ). وبرزت آرام كتسمية للشعب الآرامي وعرف بها سياسياً وعسكرياً وحضارياً في آخر الألف الثاني قبل الميلاد ( المطران صليبا شمعون : الممالك الآرامية ـ سلسلة دراسات سريانية ( 4 )حلب 1981 نقلاً عن مجلة التراث الشعبي العراقية عدد حزيران سنة 1971 مقالة للأستاذ طه باقر )) . مقترنة بلفظة أحلامو . ثمَّ تغلَّبت التسمية (آرام) على كل القبائل الآرامية في القرن الحادي عشر ق. م واستمرت وتعزَّزت وكان لها شأن هام في التاريخ .وقيل إن الآشوريين أطلقوها أولاً على إحدى قبائلهم ، ثمَّ عمَّت القبائل الأخرى .( ألبير أبونا :أدب اللغة الآرامية ص 12 ـ 13 ) .

أما عن تاريخهم السياسي : فإن التاريخ التوراتي ولاسيما التكوين يشير: إلى أن المشرق أي بلاد العراق اليوم هي الوطن الأول للدوحة السامية . قال الكتاب : {{ وكانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاماً واحداً . وكان أنهم لما رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في شنعار فأقاموا هناك . هناك بلبل الله لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض وبَدَّدَهم وشَتَّتَهم على كل وجه الأرض ولذلك سُميَتْ بابل }} ( تك : 11 : 1 ـ9 ) .

من هنا رأى بعض العلماء وفي طليعتهم المستشرق الإيطالي إغناطيوس غويدي ( Guidi Della Sede Dei popoli Sem ) . إن الجزء الأسفل من الفرات هو المهد الأول للساميين ، وكان مُعظَم سكان هذا الجزء من الآراميين( إغناطيوس يعقوب الثالث : الحقائق الجلية ص 8 ). ومن المؤكَّد أنهم قبل الميلاد بألفي سنة كانوا متواجدين في جنوب العراق ( وادي الرافدين ) أو سهل شنعار بدليل وجود إبراهيم الخليل في مدينة أور العراقية ( تك : 11 : 21 ) ومن الثابت أن إبراهيم كان آرامياً ، وكان قبل الميلاد بألفي سنة ( تك : 26 : 5) .

ومهما يكن الأمر فقد ظهر الآراميون منذ الألف الثالثة قبل الميلاد كقبائل رُحَّل وحوالي الألف الثانية قبل الميلاد اجتاحوا قسماً كبيراً من بلاد الرافدين وسورية الشمالية والوسطى كما زحَفَ بعضهم إلى مصر وبرية سيناء . وتُعرف هجرة الآراميين بالهجرة السامية الثالثة التي تركَّزت أحداثها داخل سورية .( اعتمدنا في تلخيص تاريخ الآراميين السياسي على : 1 : الكتاب المُقدس . 2 : تاريخ سورية لفيليب حتى . 3 : دراسات في التاريخ لأنيس فريحة . 4 : التاريخ السياسي للآراميين للأستاذ محمد جلب .).

الهجرة السامية الأولى كانت : هجرة الآموريين الذين تركَّزت أحداثهم في شمالي سورية ،

الهجرة السامية الثانية كانت : هجرة الكنعانيين الذين دارت أخبارهم على الساحل .

الهجرة السامية الثالثة كانت : كانت هجرة العبرانيين .

 أما الهجرة السامية الرابعة فقد كانت: هجرة الآراميين ، وكانت مركز أحداثهم في جنوب سورية أي فلسطين ، وليس غريباً أن تكون قبائل الخبيرو الآرامية ذاتها العبراني الذي قدم فلسطين غازياً عن طريق شرق الأردن . فإن التقليد العبري يصر على أن أصل بطاركتهم آراميون من العراق القديم ومن حرَّان على وجه التدقيق . وفي سفر التثنية 26 : 5 ، كان على اليهودي أن يتقدم إلى مذبح الآلهة وبيدهأوائل أثماره ليقدمها للرب وأن يقول: ... آراميّاً تائهاً كان أبي ... ) ويقول الدكتور أحمد سوسه : ( وصارت كلمة عابيرو بعد أن صحفت إلى عبري وعبراني تُطلق على أتباع موسى بعد ظهورهم ) ( العرب واليهود في التاريخ مج 1 ص 99 ) .

 وقد بلغت الغزوات الآرامية أشدها من حيث العنف والحجم في القرن الحادي عشر ق. م. مُغتَنمين فترة ضعف الآشوريين ، وتقهقر النفوذ المصري ، فتمكَّن الآراميون من اختصاص الشعوب المتواجدة هناك وطردهم كالآموريين والحوريين والحثيين ، وتوجهوا نحو الحياة الحضارية ، وثمَّ لهم إنشاء كيان سياسي وسيادة مستقلة ، إلاَّ أنهم لم يستطيعوا أن يكونوا دولة آرامية موحَّدة ، بل ظلّوا دويلات و إمارات صغيرة في سورية وحاران وفي الأقطار الشمالية للهلال الخصيب ، وبذلك يدخلون التاريخ بشكل بارز يلفت النظر ، وكشعب ذي كيان وسيادة ، وفرضوا لغتهم على المنطقة بأسرها ، وغدوا سادة البلاد نحو خمسة قرون متواصلة ، وأشهر دويلاتهم :

الدولة الآرامية في ما بين النهرين

ظهرت الدول الآرامية الأولى في منطقة الفرات الأوسط وهي الممر بين بلاد الرافدين وسورية . ومن تلك الدول : آرام صوبا ( صم 10:6) وآرام معكة ( 1 أي :19 :6 ) وآرام النهرين ( تك 24 : 10 وتث : 23 :4 وقض : 3 :8 ). والنهران المقصودان هما الفرات ورافده الخابور ، وليس الفرات ودجلة . ودولة فدان آرام ( تك 25 : 30 و 28 : 2 ـ 7 ) . ويعني اسمها الطريق وكانت فعلاً واقعة على طريق تجارية كبيرة الأهمية وكان مركزها مدينة حرَّان التي أصبحت من أعظم مراكز الحضارة الآرامية وهي موطن إبراهيم الخليل بعد نزوحه من أور الكلدانيين . وآرام بيت رحوب : ( صم 10 : 6 ـ 8 ). وإن كلمة رحوب كان يُسمَّى من قبل رحوبوت ( تك 10 : 10 1.)  ولما وقعت بأيدي الآراميين في الألف الثاني ق .م . سوها بيت رحوب تبعاً لأصول اللغة الآرامية. ( مجلة لسان المشرق مج 2 ص 237 مقال للمطران بولس بهنام بعنوان رحبوت أور حوبوت) .

 آرام دمشق : أشهر الدويلات الآرامية على الإطلاق وأقواها وأرقاها حضارياً . ومركزها دمشق . تأسست في أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد وتطورت بفضل موقعها وأصبحت كمحطة للقوافل التجارية تتمتع بمركز اقتصادي أو عسكري ولعب دوراً في إنهاك الامبرطورية الآشورية وقضى مضجع العبرانيين حتى أصبحت مملكة كبرى تمتد إلى الفرات من جهة وإلى اليرموك من جهة أخرى . ومنطقة دمشق هذه هي التي يعنيها العهد القديم حين تشير إلى آرام أو سورية وقد كان هؤلاء الآراميون في سورية في عهد ملكها رصين الذي هرب ودخل باب مدينته . وهناك أصبح محاصراً  وأخيراً فُتحت دمشق في عام 732 وقتل ملكها وقطعت أشجار بساتينها ، ونُفي أهلها ، وهكذا انتهى أمر آرام دمشق وانتهت معها السيادة الآرامية إلى الأبد .

 إن وجود الآراميين على شكل دويلات متعددة ومستقلة عن بعضها البعض دون أن تتمكَّن من توحيد قواها تحت لواء واحد كما مرَّ أدَّى إلى نشوب فتن وخصومات بينها مِمَّا فتَّ في ساعدها الأمر الذي سهَّل للآشوريين القضاء على استقلالهم الذاتي . ففي منتصف القرن التاسع ق. م . هَبَّت آشور واكتسحت الإمارات الآرامية الواحدة تلو الأخرى ، فاستطاع آشور ناصر بال الثاني فرض سيطرته على كل بلاد ما بين النهرين تقريباً إلى حدود بابل نحو سنة 860ق .م . فقسَّمها إلى ولايات صغيرة وفرض على أهلها الجزية . ولم يبقَ للآراميين إلاَّ ( بيت ديني) على المنعطف الكبير من نهر الفرات وكانت على اتصال دائم مع جارتها آرام بيت آحوب ، إلاَّ أنَّ آشور ناصر بال هاجمها وطوَّقها فاستسلمت له صاغرة وأجبر ملكها على دفع الجزية ونقل سكانها الآراميين 2400 نسمة إلى كالح على نهر دجلة. ثمَّ زحف إلى هذه الربوع الملك الآشوري شلمناصر الثالث مرتين متعاقبتين في سنتي 858 و 857 ق.م . فأخضع مات تَبقًَّى من المُدن الآرامية ومن جملتها بيت ديني وبيت رحوب ، وهناك نص آشوري ورد فيه ما يأتي من كلام شلمناصر هذا : (( تلقيت الجزية من ملوك عبر الفرات ، ملوك كركميش { كركميش كانت في موضع جرابلس الحالية ، وهي كلمة آرامية مركبة من كلمتين ألولى ( كراك أو كرخ ) ومعناها مدينة . والثانية ( كميش ) وهو اسم أحد آلهتهم فيكون معناها ( مدينة كميش ) } .

 وكومة ( كومة كلمة آرامية معناها الأسود ) وبيت أغوشي ( بيت أغوشي كلمة آرامية معناها ( معسكر ) أو موضع الجيش ). ومليد (مليد كانت في موضع ملطية أو هي ملطية ) . وبيت غاباري ( بيت غاباري { زنجرلي } وهي كلمة آ{امية معناها موطن الجبابرة ) . وهي فضة وذهب ونحاس وأوعية نحاسية إلخ) ( مجلة لسان المشرق ـ مج : 3 ص :238 ـ 239 ) .. ولئن قُضي على نفوذ الآراميين السياسي ، و زال كيان سيادتهم ، إلاَّ أن لغتهم الآرامية تمكَّنت من أن تعوض عن السيادة والسياسة ، فقد سادت اللغة الآرامية ثقافياً وحضارياً ، وهيمنت على سائر مرافق الحياة الاجتماعية . خلف الآراميين بالسيادة الآشوريون ثمَّ الكلدانيون ، وفي عام 538 ق.م. انقضى الحكم الكلداني لاستيلاء الفرس ، وسقطت بابل ، وبذلك انتهى عصر وهو العصر السامي الذي بدأ حوالي سنة 2500ق.م. وانتهى بسقوط الامبرطورية البابلية الثانية ( الكلدانية ) في 538ق.م. وتبعته سيادة الفرس ، ثم اليونان ، ثم الرومان . وهكذا انقضت أيام الإمبراطوريات السامية ولم تعد إلاَّ بعد أكثر من ألف عام بظهور العرب في أوائل القرن السابع الميلادي . شهدت هذه البلاد خلال حكم اليونان السلوقيين والرومان ظهور انتفاضات وثورات مطالبة بالاستقلال الذاتي كالفرثيين الذين استولوا عام 240 ق.م. والمكابيين اليهود عام 141ق .م. وتبرز في هذه الفترة أربعة ممالك آرامية مستقلة وهي : الرها ، الأنباط ، تدمر ، الحضر .

مملكة الرها : شيّ ضد مدينة الرها سلوقس نيقاطور سنة 304 ق.م. وفي عام 132 استقرت فيها قبيلة آرامية, أسست دويلة فيها واتخذت الرها عاصمة لها و1ذلك بهمَّة أريو أول ملوكها ( أريو : كلمة آرامية تعني الأسد ) وتسلسل فيها الملوك حتى أواسط القرن الثالث بعد الميلاد .حيث انقرضت مملكتها سنة 244م . وقد عُرف ملوكها بالأباجرة لأن معظمهم كان يُسمّى أبجر . فهنالك أحد عشر ملكاً عُرفوا بهذا الاسم . (( وأبجر كلمة آرامية سريانية معناها الأعرج) .والأسماء كلها سريانية وعلى اللهجة الرهاوية الغربية . نحو أريو : الأسد . عبدو : عبد . بوخرو : البكر . أبجر سوموقو : أبجر الأحمر . أبجر أوكومو : أبجر الأسود . وقد أطلق السلوقيين على الرها أديسا وسمَّاها الأتراك في القرن الخامس عشر أورفا . وسُميَّت أحيانا كاليرهوي وتاويله الينبوع الحسن لكثرة الينابيع والمياه فيها . فاختصر الآراميون هذا اللقب وقالوا : أورهوي . وأخذ العرب عنهم وقالوا : الرها ( ابن العبري :تاريخ مختصر الدول

ص 7 طبعة صاكاني )) . وتقول المصادر السريانية : إن المدينة سُميت أورهوي نسبة لأورهوي بن حويا أحد ملوك الآراميين القدماء . وهناك احتمال عند بعض المستشرقين إن تسمية المدينة ترجع إلة قبيلة آرامية سكنت في هذه المنطقة . وقد جاء لهذه القبيلة ذكر في الخطوط المسمارية باسم :Ruha: ( ولفنسون : تاريخ اللغات السامية ص 146 ). ولقد لعب الصراع الفارسي الروماني دوراً في تاريخها السياسي حتى فتحها العرب المسلمون عام 637 م. وقد بسط الصليبيون نفوذهم عليها لمدة قصيرة ما بين 1097 ـ 1146 وحعلوها عاصمة لمملكتهم في الشرق . واشتهرت الرها كمركز هام للكنيسة السريانية منذ فجر النصرانية سيَّما منذ بداية القرن الثالث حيث أضحت قاعدة اللغة والأدب .

الأنباط : للأنباط جذور آرامية تمتد إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد . وبدؤوا بالبروز منذ القرن السادس ق. م . في البادية التي في شرقي المملكة الأردنية الحالية ، أو شبه جزيرة طور سينا . و أنشئوا دولتهم في القرن الرابع ق.م . وبلغت ذروتها في عهد الحارث الرابع

سنة 90 ـ 40 ق.م. وامتدت مستوطنات هذه الدولة من نهر الفرات في المنطقة المتاخمة لبلاد الشام و تنزل حتى تتصل بالبحر الأحمر. وسرعان تحضَّرَ الأنباط وأنشئوا القرن وامُدن ومنها عاصمتهم ( سلع ) ومعناها بالعبرانية الصخرة وباليونانية ( بتراء ) وفي العربية الفصحى الرقيم . وكانت بعض المُدن الآرامية مثل عمان تتناقل بين يد الرومان ويد الأنباط طيلة الفترة ما بين 61 ق.م. لغاية 106م. حيث استقرَّت عمان نهائياً بعد فناء دولة الأنباط إلى يد الرومان عام 106م. وكانت لغتهم إحدى اللهجات الآرامية ، يصفها ابن العبري (واسمها الكلدانية النبطية { مختصر تاريخ الدول للعلامة مار غريغويوس يوحنا ابن العبري } . وأقدم النقوش النبطية المُكتَشَفَة يرجع إلى سنة 33 ق.م.

تدمر : على أثر انهيار دولة الأنباط برزت في الميدان دولة أخرى تمتد بجذورها إلى ألآراميين هي تدمر ، التي نالت مركزها بدءاً من أوائل القرن الثاني للميلاد . وبلغت أوج عزِّها في القرن الثالث للميلاد . وأضحت مركزاً تجارياً هاماً وكانت روما التي خضع لنيرها أغلب أمم العالم القديم تهاب قبائل تدمر وتتودد غليها وتُقدم لها الهدايا وتوفد إليها الوفود . وكانت مدينة تدمر عاصمة ملكهم ، وهي لفظة سريانية معناها : ( ألأعجوبة ) . وكانت الآرامية هي اللغة الرسمية لهم . واتخذ التدمريون القلم المُسمَّى بالقلم التدمري وهو مشتق من القلم ألآرامي . وأقدم الكتابات التدمرية يرجع إلى القرن الأول ق .م. ومن أشهر رجالات تدمر أذينة بن أذينة الذي لقب بملك الملوك واشتهرت امرأته زنوبيا التي كانت تنوب عن زوجها في الحكم ، وفي سنة 271 أعلنت زنوبيا استقلال تدمر عن الرومان وتولت قيادة الجيش وفي أواخر القرن الثالث انتهت السيادة التدمرية على أيدي الرومان .

الحضر : كانت مدينة الحضر في زمن الدولة الفارسية إمارة آرامية مستقلة ، وسميت

إمارة ( حطارا ) واشهر ملوكها ( برشيما ) وهي كلمة آرامية تعني ابن الفضة .في أواخر القرن الثاني للميلاد ثم حرقها العرب ودعوها (الحضر) وتُعد لهجة أرامية شرقية .

عزيزي القارئ : ها إنني وبكل فرح وسرور أقدم لك المقالة الثالثة من سلسلة الحضارة الآرامية السريانية وأتمنى أن تكون قد استفدت منها وأعجبك ذلك وإنني أفرح إذا كُنتَ قد وجَّهت لي انتقاداً أو ملاحظة أكثر من أن تثني علي لأنه كلما نحتَّ بالحجر القاسي فسوف تبدع بلوحه جميلة وكلما انتقدتني تعلمت أكثر وصار لي الرغبة بالمطالعة والفضول لاقتناء المعلومات أكثر وأكثر .

وها إنني اليوم سوف أمضي برحلة جميلة بين ثنايا الأدب الآرامي السرياني وأمعن النظر بثمار أشجاره اللذيذة المذاق وأقبل تراب جنائنه لأنه خصب وقد خصَّبه عرق ٌ تصبب على حباته فرواه وتعبٌ سُكب على سواقيه ورطوبة أعطاه وهو شمعة كانت مضاءة منذ الخليقة خبأه الزمن برعونته وغدره تحت المكيال و إطالته غيوم الغزوات والطمع فتوارت شمسه بين طيات ظلام هذا العالم الدامس . ها إنني أيوم وقد وجد أناسٌ حملوا معول الجهاد ومظلات الصبر وجعلوا نور الإيمان وساروا بمعركة ضارية ضد طمس مظللي الحق ومخبئي الحقيقة وبذلوا الخالي والنفيس من أجل كشف حقيقة هذا الأدب وتبيان نور شمعته من جديد . واليوم اليوم العبد الضعيف حملت قصبة صغيرة وبدأت أدون بها ما عمله هؤلاء الناس وأكشف معهم لكم اليوم وعلى وسائل الإعلان وقائع تاريخنا الآرامي السرياني الغني بالحضارة والمشعشع بالاستنارة .... فإلى هناك وهيا معي إلى سفر التكوين وإلى فدان آرام وإلى عائلة نوح وإلى مابين النهرين وإلى تاريخ سوريا العظمى موطن الآراميين السريان لنتعرف على أدب الآراميين السريان ونتغنَّى به ونبكي أطلاله ونعيش ذكراه ونضعه بين قلوبنا ونعمل بكل غيرة لاسترجاعه إلى حياتنا وإلى ذاكرتنا ونجعله الأمل لتحقيقه إذا ما اختمر ذكراه بأذهاننا.

الأدب السرياني ما قبل السيد المسيح وما بعده

الأدب السرياني بشكل عام :

إن كلمة آداب تعني علم الواجبات والأخلاق . فالأدب هو علم الخلق . فلان أديب فلان ذو خلق رفيع . فلان مؤدب أي هو من يعرف واجباته و يعمل بحسن أخلاقة . والأدب السرياني هو من الآداب السامية التي أهدت العالم الحضارات والعلوم بشتى أقسامه ولا سيما علم الفلك والعلم الطبيعة والطب والفلسفة والشعر والترجمات وكان له الفضل الكبير بنقل العلوم من اليونانية إلى السريانية ومن ثمَّ إلى العربية . فيها عزيزي القارئ ننطلق إلى بحر الأدب السرياني لنسبر غوره ونغوص أمواج أطواره ونتعرف على أصالته ونتأكد من غزارته .

لمَا كانت اللغة السريانية من أقدم اللغات السامية ، لذا يكون أدبها ضرورة من أقدم آدابها وأقربها إلى الينبوع الحقيقي الذي تدفقت من الحياة الفعلية للأمم الشرقية . فالأمة السريانية عاشت في كل عصورها والعلم والأدب ينيران لها طريق الحياة . فإننا متأكدون أن آداب لغتنا السريانية قديمة وغزيرة جدا كغزارة تفكير جدودنا الأقدمين وكثرة علومهم ووفرة معارفهم : و ما أجمل ما قاله المعلمين السريان عندما حصروا الحضارة السريانية ما بين النهرين فقالوا :

) قُل لي يا نَهرُ ... إلى أين الرحلة .... إمَا للفرات وإمَّا لدجلة ... لأرض الأجداد... لمكان الأمجاد . مسكن ألآباء ..السريان القدامى).

فللكنيسة السريانية فضلٌ كبيرٌ على الآداب والحضارات ، لنشر العلم وتأسيس المدارس والمعاهد الكبرى والمكتبات والأديرة ، وكفاها فخراً تفوق الآراميين القدامى واستنباطهم صناعة الكتابة وتلقينهم إياها لسائر الشعوب . ومهما دققنا في التواريخ ، وطالعنا من أخبار الأمم والشعوب فلا نجد عصراً كالعصر الذي اشتهر فيه السريان باستنباطهم و تصانيفهم وآثارهم ونقولهم الطبية والفلسفية والتاريخية ، فقد أنجبت الكنيسة عدداً كبيراً من نوابغ الأعلام تسنموا عرش العلم والأدب ، وبرزوا في كل علمٍ وفنِّ ، فكان منهم الفلاسفة والأطباء واللاهوتيون وفحول الشعراء والمؤرخون والحكماء والبلغاء، والكتبة المجودون والفنانون البارعون الذين ذاع صيتهم في الآفاق وطبقت شهرتهم الخافقين . فكانوا نجوماً ساطعة في سماء المعرفة ، ورفعوا للدين والعلم مناراً عالياً ( اللؤلؤ المنثور طبعة ثانية ص : 25 ). والفضل في انتشار الآداب السريانية يعود إلى انتشار هذه اللغة التي ليست من أقدم لغات العالم فحسب بل أقربها إلى الينبوع الحقيقي الذي تدفقت منه الحياة العقلية للأمم الشرقية . فلذلك لم يكتفِ أهلها بنشر هذه العلوم والآداب التي هي ثمار العقول الكبيرة و الأدمغة المتوقدة في أقطارهم بل أدخلوها كافة الأقطار التي وطئتها أقدامهم . أي في حدود بلاد الأرمن والروم شمالاً وتخوم بلاد العرب جنوباً وأقصى بلاد مصر والصعيد غرباً ، وفي البلاد التركمانية والتترية بين سنة 636 ـ 781 م كما يشهد التاريخ إذا اعتبرت ثقافة اليونان حكمية وثقافة العرب بيانية فإن ثقافة السريان دينية ، لذا فخواص الأدب

السرياني هي كتابية وطقسية وجدلية ولاهوتية وتاريخية ونقلية ( اللؤلؤ المنثور ص : 26). ويمكننا تقسيم هذا الأدب إلى قسمين :

الأدب السرياني قبل الميلاد أي في العصر الوثني :

إن كل المعلومات التي تفيدنا في موضوع أدبنا السرياني قبل الميلاد نستقيها من آثارهم التي تركوها منقوشة على الحجارة والقرميد في خرائب مدنهم القديمة المتوفرة ونصب آلهتهم الباقية إلى يومنا هذا في خرائب تلك المدن والمنقولة منها إلى بعض المتاحف العالمية ولولا هذه النصب والحجارة والدلائل المذكورة لضاع تاريخ أُمةٍ بأسرها بل لفقد العالم معرفة كيفية بزوغ المدنية العالمية .

وقد عني أصحاب هذه اللغة العريقة قبل السيد المسيح بأجيال سحيقة بمختلف العلوم ووضعوا أسُسها ، فهم الذين رصدوا الأفلاك وقسَّموا السنة إلى الأشهر والأيام والساعات ، واخترعوا أصول الطب والحساب والهندسة وابتكروا حروف الهجاء وعلومها بقية الأمم كما مر معنا. (( مخطوط الأدب السرياني للمثلث الرحمات المطران مار غريغوريوس بول بهنام . وكناب منهاج اللغة السريانية للمرحوم الأب برصوم أيوب)(. وما وصلَ إلينا من تراثهم لدليل كافٍ على وفرة علومهم ، وغزارة معارفهم ، ورَفعَة أدبهم ، وكل ما استطعنا أن نَستفيده من ذلك هو ما استقيناه من آثارهم المنقوشة على الحجارة والقرميد والنصب ، لفقد العالم معرفة كيفية بزوغ فجر المدنية العالمية. وأما السبب ألأكثر أهمية في خلو أيدينا من آداب تلك العصور ومصنَّفات علمائها هو أنه لمَّا اعتنق السريان المسيحية أخذوا ينظرون نظرة احتقار وكره إلى كل ما تنبعث منه رائحة الوثنية، وبسبب تعلِّقهِم بالمسيحية أبادوا كل ما يخص جدودهم الأقدمين ، فحطَّموا التماثيل، وكَسروا النُصًب التذكارية ومحقوا جميع الكتابات .

المكتشفات الحديثة التي تخبرنا عن ألأدب السرياني القديم :

ظَلَّت آثار الأدب السرياني القديم مدفونة تحت طيَّات التراب حتى قيَّض الله لها من أخرجها إلى عالم الوجود في أواخر القرن المنصرم وأوائل القرن الحالي فقرأها العلماء وقرروا أن الأمم العظيمة التي عاشت في هذا الشرق الواسع كانت سامية التفكير ، باذخة الحضارة، وفوق ذلك كان لها قبل المسيح بأجيال طويلة أدبٌ رفيعٌ وثقافة غزيرة أما الأدب ، وهو هدفنا الآن ، فقد كان زاهراً بين أبناء هذه الأمة. فقد امتاز حكامها وكهانها الأقدمون بالشعر ، فنظَّموا القصائد الرائعة لتمجيد آلهتهم وتركوا أشعاراً رقيقة لتمجيد القوة العظيمة المحيطة بهذا الكون .ولم يبقى لنا من ذلك الأدب الرفيع الغزير إلاَّ الشذرات البسيطة المنتشرة هنا وهناك على الصخور والتماثيل المكتشفة التي قرأها العلماء الأقدمون وترجموها إلى لغاتهم وكتبوا عنها تعليقات كثيرة ، وأيَّدوا بالأدلة الراهنة أن معظم العلوم والآداب كانت بين أيدي تلك الأمم القديمة الضاربة ما بين النهرين وسوريا .

وأما ما وصل إلينا من هذا العصر فيشهد على أن السريانية كانت لغة نهمة مهذَّبة ولَم يطرأ عليها أي تبديل منذ استقرارها ، وما يشهد على ذلك ما ورد في كتاب التوراة ، وما بقي من شعر الفيلسوف الآرامي ((وافا)) ، يطابق كل المطابقة لحالتها اليوم ، ولا تزال على غضارتها ، وإنَّما نُسيَت منها ألفاظ بعُنق الزمن ، وأساطير يسيرة منقوشة على بعض أضرحة الملوك الأباجرة في ولاية الرها ، أضف إلى هذا رسالة لطيفة لفيلسوف اسمه مارا بن سرافيون كتبها للتثقيف في أواسط القرن الثاني للميلاد . ولكن لم يصل إلينا من ذلك التراث الفكري سوى كتاب وزير سنحاريب ملك آشور (681 ق .م) وهو كتاب ينطوي على إرشادات ونصائح قيِّمة وحِكَم ، ويُظَن وَضَعَهُ نحو ذلك الزمان أو حوالي القرن الخامس قبل الميلاد . يمثل أحيقار الرجل الحكيم الذي يحسن المشورة ويصوغ الحكمة قي قول موجز بليغ، وأحيقار واضع الأمثال، وكثير من أمثاله لا يزال حيَّاً شائعاً على ألسنة الناس حتى يومنا هذا ، ويتردد أحيقار في كثير من الآداب العالمية وفي كثير من الكتب المقدسة . وكتب الأبوكريفا ،فقد ورد ذكر اسمه في سفر طوبيا ، ولأقواله وحِكَمِه شبه كبير بالأدب الحكمي في سفر الأمثال وسفر الجامعة ويشوع بن سيراخ ، وإذا ذكرت خرافات أيسوب ذكر معها أحيقار ، وقد ورد اسمه في الأدب الأغريقي الكلاسيكي: ديقريطس ، وثيوفراست وسترابو ، وفي العهد الجديد أمثال وحِكَم تشبه أحيقار الحكيم ، فلا غرابة إذا استأثرت قصة أحيقار بكثير من الاهتمام والبحث التاريخي . وإذا ألقينا نظرة سريعة على كل ما كُتِبَ عن أحيقار من كتب ومقالات وتعليقات لوجدنا مكتبة ضخمة بمختلف اللغات الأوربية . (أحيقار ـ حكيم من الشرق الأدنى القديم ـ للدكتور أنيس فريحة ـ المقدمة ص 8 و 9) .

الأدب السرياني في العصر المسيحي

أما في العصر المسيحي ، فقد خلَّفَ الأدب السرياني آثاراً قَيِّمَة في سائر العلوم ، ويمتاز بكونه أدباً مسيحياً نَشَأ وارتَقَى مًتأثراً بالمسيحية مدينا لها بالصبغة الدينية. لأن المصنفات التي في يكاد مؤلفوها يكونون بلا استثناء من رؤساء الدين ومن علماء اللاهوت الذين تخرجوا من مدارس الأديرة. وقد أخذت العلوم والآداب السريانية في الازدهار منذ القرن الرابع حيث أنشأ السريان المدارس الشهيرة والمعاهد الفخمة ، والمكتبات الزاهرة ، وظلَّ يسطع نورهم حتى القرن الثالث عشر وسًمي عصرهم ذلك بالعصر الذهبي .

قال البحاثة المدقق أحمد أمين وغيره من المؤرخين الثقات في كتابه (( ضحى الإسلام )) {{ كان السريان في ما بين النهرين نحو خمسين مدرسة تعلم فيها العلوم السريانية واليونانية وكانت هذه المدارس تتبعها مكتبات }} , وقال أيضاً: {{ إن السريان كانوا نقلة الثقافة اليونانية إلى الإمبرطوية الفارسية ثم إلى الخلافة العباسية ، وقد اتسع نطاق الثقافة عندهم حتى أناف عدد مؤلفهم في العصر الذهبي على أربعمائة كاتب أو مؤلف }}.

 أما المؤرخ الكبير جرجي زيدان فقال عن الآداب السريانية قبل الإسلام: {{ والسريان أهل ذكاء ونشاط فكانوا كلما اطمأنت خواطرهم من مظالم الحكام وتشويش الفاتحين انصرفوا إلى الاشتغال في العلم وأنشئوا المدارس للاهوت والفلسفة وتعلموا علوم اليونان ونقلوها إلى لسانهم وشرحوا بعضها ولخصوا بعضها >.ثم يتكلم عن مدارسهم الشهيرة فيقول: ((وأشهرها مدرسة الرها وفيها ابتدأ السريان يشتغلون بفلسفة اريسطو في القرن الخامس للميلاد, وبعد أن تعلموها أخذوا في نقلها إلى لسانهم ,فنقلوا المنطق في أواسط القرن المذكور, ثم أتم دراسة المنطق سرجيس الرأسعيني الطبيب المشهور , وفي المتحف البريطاني بلندرا نسخ خطية من ترجمة الايساغوجي إلى السريانية وكذلك مقولات أريسطو لفورفوريوس وكتاب النفس وغيرها)) .تاريخ آداب اللغة العربية ~ جرجي زيدان ـ ج 1و2 ص 335}}

 وقد اشتهرت مدرسة قنسرين (قنشرين : قن النسور) على الفرات منذ أواسط القرن السادس للميلاد وعلا شأنها في أوائل القرن السابع بتعليم فلسفة اليونان باللغة اليونانية، فتخرَّجَ فيها من أكبر علماء السريان ومن جملتهم الفيلسوف الكبير مار سويرا سابوخت النصيبيني أسقف قنسرين (667+) الذي تعمَّقَ في درس الفلسفة والرياضيات واللاهوت وعلَّمَ فيها . وتلاميذه البطريرك مار أثناسيوس الثاني والعلامة الكبير مار يعقوب الرهاوي الذائع الصيت في كل علم وفن، ومار جرجس أسقف العرب وغيرهم من جلة العلماء كالبطريرك ديونيسيوس التلمحري وأخيه ثاودوسيوس مطران الرها.

أما في الطب فقد كان لهم فيه حظ وافرٌ ، واشتهر فيهم من أهل هذه الصناعة كثيرون منهم سرجيس الرأسعيني في النصف الأول من القرن السادس الذي ترجم مؤلفات جالينوس ، ناهيكَ عن مؤلفات آل بختيشوع وآل حنين وغيرهما، أما ابن العبري فعُدَّ من مشاهير الأطباء وقد وضع ميحثاً في العقاقير وشرحاً لكتاب (( المسائل الطبية )). يقول المستشرق شابو: (( إنه كان للسريان ميل كبير للأدب الحِكَمي وقد خلَّفوا لنا مجموعات من الحِكَم الحقيقية أو المفترضة كَحِكَم فيثاغوروس، ووصايا أفلاطون ، ونصائح تيانو ، و؛ِكَم منانرس، وكذلك مباحث كثيرة لأفلاطون وسقراط ولا سيما بلوتراك )) ( اللغات الآرامية وآدابها ص 46 ). ولم تهمل العلوم الطبية والرياضية، فهناك ترجمات عن اليونانية لعلم وظائف الأعضاء ( فسيولوجيا ) وعلم الفلاحة . وقد كتَبَ سرجيس الرأسعيني عن ألأبراج وتأثير القمر وحركة الشمس ، وكتب مار سويرا سابوخت عن الاسطرلاب، وعلى يده وصلت الأرقام الهندية إلى العرب ، وأما ابن العبري فقد وضع مبحثاً في الحساب وآخر في الفلك في كتابه (( الصعود العقلي )) . وما بقي مما كتبه علماء السريان في علم الكيمياء ، جمعه المستشرق الفرنسي روبنس دوفال في المجلد الثاني من كتاب (( تاريخ الكيمياء في القرون الوسطى)) لبرتلو . وإنك لتجد عناصر علمي رسم العالم (( كوزموغرافيا )) والجغرافيا في شروح السريان لسنة أيام الخلقة كشروح يعقوب الرهاوي وموسى ابن كيفا ، وفي كتابه ((الكنوز)) لسويريوس يعقوب البرطلي مطران دير ما متى وأذربيجان .

 أما ترجمات الكتاب المقدس العديدة التي أنجزها علماء السريان ومنها البسيطة والفلكسينية والحرقلية و السبعينية ، فضلاً عن دياطسرون الفيلسوف ططيانس والتفاسير والشروح القيِّمة التي علَّقوها على الكتاب العزيز ، فحَدِّث عنها ولا حرج.

من أشهر المفسرين: مار أفرام ( 373+) ومار يعقوب السروجي ( 521+) ومار فلكسينوس المنبجي ( 523+) ومار دانيال الصلح(542+) ومار يعقوب الرهاوي ( 708+) و مار ايوانيس الداري ( 860+) ومار موسى ابن كيفا ( 903+) ومار ديونيسيوس يقعوب بن صليبي ( 1171+) ومار غريغوريوس ابن العبري ( 1286+) وقد كَتَبَ هؤلاء العلماء وغيرهم في اللاهوت مجلدات ضخمة .

 أما التاريخ فهو أكبر فروع الأدب السرياني وأعمَّها فائدةً ، وهناك تواريخ عامة تبتدئ من أول الخليقة ، وأشهر المؤرخين لدى السريان هم ماريوحنا ألأفسسي ( 587+) ومار يعقوب الرهاوي ، ومار ديونيسيوس التلمحري بطريرك أنطاكية ( 845+) والراهب القرتم (819+) و الراهب الزوقنيني ( 775+) ومار ميخائيل الكبير ( 1199+) وابن العبري . ومن المعاصرين الذين جَوَّدوا في التاريخ الكنسي الطيب الذكر البطريرك مار اغناطيوس أفرام الأول برصوم (1957+) والطيب الذكر مار اغناطيوس يعقوب الثالث البطريرك الأنطاكي (1980+).

أما شعراء السريان فأشهرهم مار أفرام السرياني ومار بالاي أسقف بلش ومار يعقوب السروجي ، ومار اسحق الأنطاكي، و أنطون التكريتي وابن العبري ، وقد طرقوا أبواباً عدة مت الشعر : التزهيد في الدنيا ، والدعوة إلى التوبة ،والوصف والمديح والرثاء واهجاء والقصائد الفلسفية والأخوانيات والفخر والحماسة والنسب .

ممن كتبوا في تاريخ الأدب السرياني من شرقيين ومستشرقين : جرجي زيدان ومحمد عطية الأبررش ، ومراد كامل والبكري ، والسمعاني والأب يوحنا شابو الفرنسي ، وأنطون بومشترك الألماني ، ووليم رايت الإنكليزي ، والبطريرك الرحماني والمطران يوحنا دولباني ، والخوري اسحق أرملة والقس ابراهيم كوناط الهندي وغيرهم ، بيد أن الذي يزين الجميع هو البطريرك أفرام الأول برصوم في كتابه اللؤلؤ المنثور الذي هو أدق وأضبط مؤلف في تاريخ العلوم والآداب السريانية.

وأمَّا المستشرقون فقد كتبوا في الأدب السرياني بعد أن انصرفوا إلى درس السريانية، فنشروا ما راق لهم من المصنفات ونقلوها إلى لغاتهم ، ولا تزال مكتبات الشرق والغرب تتمخض بألوف من مخطوطات تراثنا السرياني العريق .

 أما عصرنا هذا فهناك جمهرة من رجال الدين والعلمانيين السريانيين يعنون بآداب اللغة السريانية بعد أن أتقنوها كتابةً وتكلماً وترجمة، فضلاً عن الذين يتكلمونها على لهجات متعددة باعتبارها لغتهم الأم .

وبالتالي فإن البحث في امتداد هذا التراث ووصوله إلينا منذ أجيال سحيقة في القِدَم يتطلب دراسات وافرة طويلة، ومجلدات كبيرة إذا استهدفت كل ناحية من نواحيه على انفراد .(مقال للمرحوم : الأب برصوم أيوب (( تراثنا الفكري في الأدب السرياني في المجلة البطريركية بدمشق السنة الأولى 1962 ـ العددان الثاني والثالث ص 74 و 76 , 126 , 129). وهنا أنهيت المقال وسنكمل البحث في العدد القادم وشكراً لقراءتكم .

  http://attarik.com

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها