كلمات و أقوال في
الفقيد
الملفونو نعوم فائق (1868-1930)
كلمة
الاديب جان آشجى
كاتب لجنة تأبين الفقيد
بالولايات المتحدة – اميركا
سيداتي وسادتي الكرام:
بصفتي كاتب لجنة تأبين
المرحوم نعوم فائق، الذي نحتفل اليوم بتخليد ذكره، كنت القيت على اديب كبير
من ابناء طائفتي، هذا السؤال، وهو: - هل ان شخصية الرجل العام محصورة
بطائفته؟ و هل على الامة اكرام نوابغها البارزين، دون النظر الى مذاهبهم
الدينية؟
القيت هذا السؤال علّه،
نظراً لوثوقي به، و لاعتقادي انه خير من يجيب على مثل هذا السؤال، و يعالج
هذا الموضوع الدقيق، لا سيما و هو من ارباب الشرع و القانون، ضليع من الآداب،
غيور على بني قومه، له خدمات تذكر فتشكر، غير انني لم احظ منه بجواب، لعلة
مجهولة قد تكون وجيهة، فقد تخلص من سؤالي بلباقة، دون ان يتحمل ادنى مسئوليه،
مؤجلا الجواب الى وقت آخر مناسب، فلم ار بداً من الخوض في هذا الموضوع بنفسي،
وان كنت من المشاة في ميدان الادب، بعد ان امسك الاديب المومأ اليه عن
الكلام، فسبب لي السقوط في شبكة بحث هو من خصائص حملة الاقلام المفكرين، اما
وقد اخذت البحث على عاتقي ، فوجب علي ان اجهد قريحتي لأفي الموضوع حقه على
قدر المستطاع، و لاتخلص منه بسلام، راجيا غض النظر عما يبدر مني، و العفو من
شيم الكرام.
تعلمون ان الدين عبارة
عن مجموعة عقائد وفرائض تقوم على علاقات موجودة بين الله و الانسان، و هذه
العلاقات واجبة لازمة، كما ان الحقائق و الفرائض القائمة عليها واجبة ايضاً.
وقد كان الدين و مازال
العامل القوي لزجر الناس عن ارتكاب الموبقات، و اتيا المنكرات، لانه ما من
دين الا و يأمر بالمعروف، و ينهي عن المنكر، و لم تجيء الرسل و مبلغوا
الشرئع، الا لحفظ النظام و ايجاد الالفة بين جميع الانام، ولكن هناك قوماً
حرّفوا و بدلوا و اتبعوا الهوى والشهوات، فضلّوا و اضلّوا، واتخذوا الدين
شبكة للاصطياد، و احبولة للعبث في البلاد، و لبثّ روح الانقسام بين البشر
والعباد.
و لزرم الدين امر لا
يختلف فيه اثنان، و قد قال احد مشاهير الشرق في هذا المعنى ما يأتي:- " ان
الدين هو السبب الفرد لسعادة الانسان، فلو قام الدين على قواعد الامر الالهي،
و لم يجالطه شيء من اباطيل من يزعمونه و لا يعرفونه، فلا ريب انه يكون سنناً
في السعادة التامة، و النعم الكامل". و صدق افلاطون كل الصدق اذ قال: - " ان
من دكّ دعائم الدين، فقد دكّ دعائم المجتمع الانساني". و اصاب فولتر بقوله:
- " لو لم يكن اله، لوجب ان نصنع الهاً".
غير أن الانسان الاناني
الطَّموح الى السيادة و الحكم و السلطة، اتخذ من الدين ذريعة لمحاربة اخوانه،
توصلا الى مقاصده الذاتية، و غاياته الشخصية، و لا يخفي ان اصول الاديان نبتت
في الشرق، فكان تاثيرها في عقول ابناء البيئات التي نشأت فيها عظيماً، و لهذا
كانت الاديان في الشرق سبباً لانقسامات و نزاعات شتى، و حروب و انقلابات
عديدة، غيرت معالم المدنية. خذ المسيحية مثلاً، فان ديانتها في الاصل واحدة،
و لكن ابناءها قلبوا اسسها رأساً على عقب، و اقتلعوا اصولها، و قسموها
تقسيما، مع ان الله واحد، و المسيحيون اخوة بالمسيح، و المسيح ما قال ابداً
بالكثلكة، و لا نادى بالارثوذكسية و لا دعا الى البروتستانية، و انما نادى
بتعاليمة الالهية في الكمال والسمو، على اساس ثابت لا يقبل التحوير و
التبديل. و قد كانت هذه التعاليم السامية في غنى عن فلسفة اللاهوتيين، و
تفاسير المجادلين، الذين فسروها بحسب مقاصدهم و اهوائهم فابتعدوا بذلك عن
المسيح، الذي اوصى قبل كل شيء بالمحبة و الاتحاد و السلام. قال احد مشاهير
الاميركان: - " لواتخذت الشعوب برنامج يسوع الحقيقي دستوراً لها، لزالت في
الحال انقساماتها، واضمحلت خصوماتها، و انزوت فاجعاتها في زاوية النسيان، و
لطويت خيام الاهتمامات العالمية، التي تكدّر صفو راحنها كما تطوى خيام البدو
في الصحراء، و انسّلت خلسة من هيكل المجتمع الانساني".
اجل ان جوهر
الدين المسيحي واحد، و لكن وكلاء المسيح على الارض، لغايات سياسية و اجتماعية
و شخصية، استطاعوا بذكائهم ان يخلقوا خلافات و فروقات مذهبية اوجدت اتباعاً،
انقسموا مع الايام الى فئات، و هي التي نسميها طائفة بالمفرد، و طوائف
بالجمع، و قد انقلبت الطائفة الى مبدأ ثابت، و اخذت مكانها في عالم الدين و
استقرت في ادمغة المجتمع الانساني فبات القضاء عليها صعباً.
لقد
كانت امتنا السريانية او
الآرامية التي لنا شرف الانتساب اليها امة واحدة في سالف
الايام، عظيمة الشأن، شديدة البأس ، تحتل قسما كبيراً من قارة آسيا،
وحسب هذه الامه فخراً وشرقاً،
انها منسوبة الى آرام بن سام بن نوح، وقد انتشر ابناؤها قديماً
في سائر انحاء العالم و استوطنوها و خلّفوا فيها آثاراً جليلة تنطق بفضلهم، و
كانت لغتهم قديما واحدة ايضا، و لكن ما لبثت هذه اللغة ان اخذت تتفرع
تبعاً لتفرع الجنس. و لما جاءت المسيحية، كانت هذه الامة اول من اعتنقها، و
عمل على نشرها، فسبقت بذلك جميع الشعوب في التبشير والارشاد، فرفعت للدين
مناراً عالياً في سائر الأصقاع، غيران الخلافات المذهبية التي ثارت في
الكنيسة بعد انتشار المسيحية بقليل، قسمت هذه الامة العظيمة الشأن الى فرق،
ومزقتها الى طوائف، وكان للسياسة الغاشمة يد في هذه النزاعات والخلافات، لان
بلاد السريان، كان القسم الشرقي منها تحت حكم الفرس، و الغربي تحت حكم الروم،
وقد خافت الحكومة البزنطية عاقبة اجتماع كلمة القسمين بدافع الرابطتين
القومية والدينية، فعملت على تمزيق هذه الوحدة، بدس السائس، والقاء الفتن،
فنجحت نجاحا منقطع النظير، اذ جعلت ابناء الامة الواحدة يشتبكون في منازعات
لا طائل تحتها.
فالسريان
الارثوذكس، والسريان الكاثوليك، والكلدان، والنساطرة، والموارنة، جميعهم
ينتمون الى العنصر السرياني
الآرامي الكريم
فهم اشبه بالكف الواحدة المركبة من خمس اصابع، و لكن الخلافات
المذهبية، هي التي اقامت حواجز بينهم، وقسمتهم الى طوائف وفرق...
ولو اقتدت هذه الطوائف
المتحدرة من اصل واحد بالطبيعة نفسها لحافظت على وحدتها واتحادها،
فمجتمع المواد الطبيعية مركبة ومؤلفة من جواهر وعناصر ودقائق متعددة مختلفة
بالحجم و الهيئة والقوة والكيفية والمادة والتركيب والنوع، ومع كل هذا
الاختلاف العظيم ، والمباينة الكلية من كل وجه، تراها متحدة اتحاداً يأخذ
بالالباب، ومتصلة بنوع يفوق الادراك البشري، بحيث يعسر جداً انفصالها، اذ
يقتضي لذلك وقت طويل، واستعمال وسائل عديدة مختلفة، وعمليات عسير شاقة، فاذا
كانت هذه الخليقة غير العاقلة والعديمة النطق مع اختلافها المتباين، تحثنا
على وجوب الاتحاد حرصاً على سلامة كياننا، أفلا يجب ان نقتدي بها، ونترك
النزاعات والمشاحنات جانباً، و نرتبط برباط اخوة لا تنفصم؟
وليس بخافٍ ان الأمة
عبارة عن افراد ينتمون الى عنصر، او جنس واحد يتوالدون فيه و يتسمون به
ويدافعون عنه ، والافراد آحاد ميستقلون بذواتهم، منزلتهم من الامة كمنزلة
الاعضاء من الجسم، او الاغصان من الشجرة، او الحجارة من البناء، و الفرد
الواحد وان كان منفصلا من حيث الذات، لكنه متصل من ناحية دمه ولغته وشعوره
وجنسيته بامته، على هذا فلكل فرد شخصيتان، شخصية ذاتية، وشخصية قومية، و كذلك
لكل امرء مهمتان في هذه الحياة عليه ان يؤديهما بكل امانة، مهمة فردية خاصة
به يعود نفعها على شخصه وعائلته وبيئته، ومهمة قومية عامة ترجع فائدتها الى
شعبه وامته، وعواطف الانسان نحو جنسه فطرية غريزية، كما ان عواطفه لذويه
فطرية، والارواح الشريفة تحنّ ابداً الى سعادة جنسها وترقية امتها، وتلك، هي
لذتها الكبرى.
ان المرء لا يكون شأن في
المجتمع اذا حصرمهمته في الحياة بنفسه فقط، و انفصل عن امته، و اراد ان يعيش
بمعزل عن جنسيته، فقد يفقد قيمته، و تضيع شخصيته، و تقل اهميته، و يكون مثله
مثل الغصن المنفصل عن الشجرة الكبرى الباسقة، و العضو المبتور من الجسم القوي
الكامل، لابد ان يتلاشى، وقد قيل: المرء قليل بنفسه وكبير باخوانه.
والرجل الحقيقي من قام
بالمهمتين في الوقت ذاته خير قيام، فافاد نفسه و افاد بني جنسه معاً، ولما
كان ابناء الجنسية الواحدة، اعضاء متفرقة في جسم واحد، وجب عليهم تكريم كل
نابغة يظهر بينهم مع صرف النظر عن مذهبه.
لقد كان الفقيد نعوم
فائق الذي نحتفل بذكراه في هذه الساعة مخلصاً لطائفته وعنصره في آن واحد،
فكان يدين بالعقيدتين الدينية والقومية، ويعطي لكل منها حقها، ولذلك فهو جدير
باجماع كافة ابناء الامة على
اختلاف مذاهبهم، على تكريمه وتعظيمه، لان شخصيته لم تكن في
جهادها محصورة بطائفته فقط، بل كانت ملكاً لابناء عنصره، الذي لم يكن يريد
الانفصال عنه، لاعتقاده ان العضو اذا بتر من الجسم تحوّل الى عدم، فهو بخطته
هذه للعلى، قد ضرب لنا مثلاً شريفاً يجدر بنا ان نقتدي به.
ايها السادة: اننا لو
فهمنا معنى الالفة والاتحاد، و الاخاء والمساواة، لكنا قضينا على الطائفية
التي مزقتنا، و لكنا اتخذنا خطة الفقيد شعاراً لنا، و لكننا ويا للاسف
سائرون على خلاف ذلك، و قد صح فينا قول الشاعر: -
و نار ان نفخت بها
اضاءت و لكن انت تنفخ في رماد
لقد اسمعت لو ناديت
حياً و لكن لاحياة لمن تنادي
اجل ان التعصب
الطائفي قد اعمى بصرنا و بصيرتنا، ومن اين لنا أن نستعير روح الفقيد التي
كانت فوق الطائفية، فحبذا لو اقتفينا خطواته السديدة، ونظمنا صفوفنا و
استعدنا قوتنا، ودخلنا في مصاف الامم الحية الراقية، ان مشاريعنا ومدارسنا و
صحفنا وجمعياتنا كلها قائمة على اساس الطائفية، ولن تقوم لنا قائمة مادمنا
على هذا المبدا السقيم.
ان فائقاً كان فريد
عصره في امته من حيث المحبة افائقة التي كان يكنها نحو جنسيته
ولست اغالي اذا قلت انه احتكر
لنفسه محبة اللغة والامة في القرن العشرين، فلم يترك لسواه شيئاً منها،
فكان فذاً في مجتمعنا، و كان خير من انجبت الامهات لصالح قومه، ومن يستطيع ان
ينكر عليه فضائله الحسان، ومزاياه الفريدة، وتضحياته الجمة، التي عزّ نظيرها.
الا كفاه فخراً انه هو الذي وضع حجر الزاوية لتجديد كيان الامه في القرن
العشرين، و خلد له ذكراً ناطقاً على صفحات التاريخ، عوضنا الله في الختام
بعمال ماهرين يشيدون صرحا شاهقاً فوق الاسس التي وضعها الفقيد ليصح فينا قول
الشاعر: اذا مات منا سيد قام سيد فعول.