المؤرخ السرياني الفكونت فيليب دي طرازي
امين داري
الكتب والآثار في بيروت وعضوالمجمع العلمي العربي بدمشق
الموضوع المقترح: "آلام
المفكر وتضحيات الذائب في خدمة الامة"
كلمات و أقوال في
الفقيد
الملفونو نعوم فائق (1868-1930)
لا غرو ان اشرف
الرجال غاية و اعلاهم
همة و اعزهم نفساً رجل يواصل اعمال الفكرة في اصلاح امته و اسعاد وطنه و
تعزيز لغته شاحذاً قريحته في معالجة ما عضل من دائها و النهوض بها من حضيض
الذل و الدمار الى اوج العز و الفخار. فرجل كهذا على رأيي اجدر بالذكر بل احق
بالثناء من كل انسان على اختلاف المشارب والمآرب.
اجل ان الاديب الحكيم لغني عمن سواه من البشر بعلمه وذكائه، اما هم فليس لهم
غنى عنه باموالهم او مناصبهم او نفوذهم، و المثل في بيدبا الفليسوف و دبشليم
و مثل ارسطو الحكيم و الاسكندر ذي القرنين و مثل تولستوي و قيصر الروس و
غيرهم من اساطين الفلاسفة و ملوك الارض في غابر الازمنه و حاضرها.
بين الرجال الخالدين الذين
زينوا امتهم بنبوغهم و فضلهم واصالة رأيهم
فقيد الامة الآرامية واحد اعلامها
اللامعين في القرن العشرين، الاستاذ نعوم فائق طيّب الله ثراه،
فبكل حق وصواب اجمعت كلمة ابناء جنسه على وجوب تكريمه بعد وفاته اعلانا
لمآثره، و اقراراً بحسناته، و قد رأيت ان
اضم صوتي الضئيل الى اصواتهم لئلا ينسب الي التقصير في تأدية فروض الرثاء
لهذا الرجل الجليل الذي كان مثال المروءة و الدعة و الغيرة، كيف لا و هو الذي
جاهد قولا و عملا في سبيل لغته بل انعش في ذويه روح التجدد والنهضة القومية.
شاهدت المعلم نعوم فائق
للمرة الاولى 1896 عند ما جاء من ديار بكر مسقط رأسه برفقة مطرانها السيد
غريغوريوس عبدالله سطوف الذي ارتقى بعد ذلك الى الكرامة البطريركية
الانطاكية، وحلاّ كلاهما ضيفين موقرين في داري ببيروت شهوراً كثيرة تيسر لي
في خلالها ان اعرف الاستاذ نعوم فائق معرفة حقيقية واختبر بنفسي فضائله
ومزاياه الفريدة، ومن ذلك الحين لم تنقطع المراسلات بينه وبيني بل استمرت تلك
العلائق الطيبة حتى انطفاء سراج حياته.
نبت نعوم فائق في بلاد
حفت بالفتن والمخاوف، وقحطت فيها رجالات المعارف، وخيم الجهل على حكامها
الذين استحكمت فيهم حلقات الجور والغدر، قام نعوم وقعد و أكل وشرب بين اقوام
عششت في رؤوسهم اغربة الخراب والفناء، فتتابعت على ابناء جنسه حوادث الدهر و
صروف الزمان حتى تفرقوا في مختلف الاصقاع و البلدان، فأمسوا كالسائر في ليلة
دهماء غاب قمرها واحتجبت كواكبها.
ادرك الاستاذ نعوم ان
تواريخ امته الآرامية
وآدابها اصبحت أثراً بعد عين وان لسانها القديم الشريف كاد يدخل في خبر كان،
وانها ان هي نهضت نهضة الناشط الى درس آثار اسلافها والوقوف على مأثر
جهابذتها تحققت آمالها و ارتقت احوالها و تجدد رونقها و جمالها،
فانتبه لهذا الامر الجلل ودلته فكرته ان اقوى ذريعة لبلوغ ضالته هو التذرع
بالصحافة، تلك الصناعة الشريفة التي تقف دونها كل الصناعات، فانشأ في ديار
بكر جريدة " كوكب الشرق" التي كان
يطبعها في اللغات الثلاث
الآرامية و العربية و التركية بحروف سريانية.
ولما رأى
هذا الصحافي
الآرامي الفاضل ان النجاح لا يتوفر لمهنته في دائرة وطنه تحت
لواء الدولة العثمانية حول نظره الى العالم الجديد ليشتغل في بلاد الحضارة
تحت سماء الحرية، فسافر الى الولايات المتحدة وهناك استعان بما رزقه الله من
النشاط و توقد الذهن على دعوة امته الى التنبه من غفلتها لاسترجاع سابق عزها،
و لم يلبث ان جدد هناك نشر جريدته المار ذكرها و هي باكورة الصحف السريانية
التي ظهرت في البلاد الاميركية.
ولا يخفى ماعاناه السيد
نعوم في هذا السبيل من التضحيات الجسيمة التي بثباته وتفانيه في خدمة امته،
فانه على رغم جهله لغة تلك البلاد وعلى رغم قلة ذات يده استجلب من الشرق الى
تلك الديار النائية كل ما كان محتاجا الية من الوثائق الملية و الكتب
المختلفة للقيام بعمله المحفوف بالمصاعب، و
لما اكتملت معدات الجريدة اخذ ينشىء فيها المقالات الشائقة والخطب الرائقة
لانهاض الامة الآرامية
وتعزيز لغتها، لا يشغله من امر اذاعة جريدته و تعميم فوائدها ما بين
قومه، وكأني بقلمه السيال يستمد مداده من قلبه فيبث في صفحاتها عواطفه
القومية وآيات ولائه المنزهة عن كل منفعة شخصية.
لاقى الاستاذ نعوم في
مشروعه هذا من الضيق وضروب المشقات ما لا يعلمه الا الله العليم، لانه لم يكن
ذا حول و طول و لا ذا ثروة مالية كسائر الصحافيين اقرانه، بل كانت ثروته كلها
في الحياة محصورة بالذكاء والاقدام والعلم و يت الدماغ، ومع ذلك كله مضى في
سبيله غير هياب لانه سبق فسجل على نفسه الخوض في ميدان الجهاد حتى آخر رمق من
الحياة. فكان يبلغ صوته ابناء امته في مشارق الارض ومغاربها حاثاً اياهم على
اقتفاء آثار اجدادهم و صيانة جنسيتهم والتثبث بلغتهم الجليلة الجميلة، تلك
اللغة التي كانت لغة اقدم دول الارض حضارةً بل كانت ايضاً لغة السيد المسيح
جل شأنه ولغة رسله الكرام .
لم يكتف الاستاذ نعوم
بذلك بل اخذ يختلف الى الجمعيات
الآرامية في العالم الجديد يحدث القائمين بها عن تواريخ آبائنا
الكرام وآداب أئمتنا الاعلام مبينا اصلهم و فصلهم غابرهم وحاضرهم سابقهم
ولاحقهم، كان يناجي بني قومه
الملتفين حوله ليوحدوا صفوفهم ينبذوا الانقسامات بينهم و يمتنعوا عن
المجادلات الدينية مع سواهم، لان ذلك ادى في القرون المنصرمة الى التباعد
والتباغض والتشاحن فكان مدعاة الى فقدان الارث النفيس الذي خلفه لنا اجدادنا
الميامين، هكذا كان الاستاذ نعوم يحرض ابناء جنسه على توثيق
عرى الوئام لاعتقاده الراسخ ان ذلك فرض عليهم لا زم بل واجب مقدس صيانة
لكيانهم القومي بين سائر الامم الراقية.
رجل مقدام غيور نقي
السريرة رضي الاخلاق متصف باحلى الخلال كفقيدنا الحميد الاثر قد اصابت
الجامعة الآرامية في الولايات
المتحدة الاميركية ان تحتفل بتكريمه في مظهر لائق بادبه
العالي، فمع اسدائي الشكر لها على هذه الاريحية الجنسية يطيب لي ان اشترك
معها على بعد الديار في احياء ذكرى الاستاذ نعوم فائق والمجاهرة بفضله
والاعجاب بشهامته أدبه، فلئن توارى شخصه الوقور عن ابصارنا فان ذكره الخالد
يظل مرسوما على صفحات قلوب محبيه ومريديه وذويه، يرددون مآثره الغراء بالفخار
على كرور الاحقاب و الاعصار.
فيليب دي طرازي
بيروت- لبنان