عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

بقلم: جان جبران لحدو

فهو الاديب العريق، والشاعر اللامع، والصحافي الشهير، والخطيب المنبري، والمحاور المبدع، والمدافع الجري عن التاريخ والهوية واللغة والحضارة الآرامية الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته.


الفكر الماروني العريق ركيزة أساسية للفكر المسيحي المشرقي

 رغم قراءاتي المكثّفة، للعشرات من المؤرخين الاقليميين والعالميين، علمانيين كانوا أم لاهوتيين. وغوصي العميق بين أمواج التاريخ والحضارات واللغات والمدنيات. وابحاثي الشاقة بين عرائس الماضي البعيد، للامساك بدرّة التراث، والمتروكات الآثارية التي تؤكّد الحقائق.. وتسّند الوقائع.. إلاّ أنني لا أستطيب البتة، التحدّث بالامور المنقرضة والميتة، بلّ في الامور الحالية والمستقبلية الحيّة، لأن عالم الألفية الثالثة، ما عاد بوسعه التفاؤل بيوم سعيد جديد.. فكيف به ينظر إلى الوراء، لاستلهام الأمل والفرح؟ حيث أن الأحداث المؤلمة الجسيمة، التي تطفر يوماً بعد يوم، وبشكل مرعب مخيف.. فوق قشرة الكرة الأرضية، لم تترك مجالاً للنظرة الحنونة، كي تحدب على الأحداث التاريخية المصيرية، التي ذهبت مع الرياح!

   أنا كإنسان آرامي سرياني، أحمل الجنسيتين اللبنانية والسويدية، والاقامة الأمريكية الدائمة "كرين كارت"، طبعاً الجنسية اللبنانية، هي جنسية الوطن الحبيب الذي وُلدتُ فيه، وترعرعتُ على أرضه، وأكلتُ من خيراته المباركة، وشربتُ من ينابيعه الدافقة، ونهلتُ من مشاهير معاهده وجامعاته، وعاهدتُ الله الدفاع عنه حتى الرمق الأخير. والجنسية السويدية هي جنسية الوطن العزيز، الذي احتضنني ساعة الضيق، ومنحني حق العلم والعمل، وطعّم شبابي بمصل الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، ثم احترم شيخوختي كإنسان له حقه في الحياة الكريمة. أما انتمائي القومي والروحي، للآرامية السريانية، فقد أكّدتُ صتحته، بممارساتي اليومية التي اتنفّس فيها تحت قرص الشمس، ودراستي الجدّية لباقة من المشتغلين بكل أطياف الماضي، وفي مقدمتهم كتاب "اللؤلؤ المنثور" في تاريخ العلوم والآداب السريانية "للبطريرك أفرام برصوم" وعدة أجزاء من كتاب السريان إيمان وحضارة "للمطران اسحق ساكا" ومجلات لسان المشرق  للعلاّمة "المطران بولس بهنام" وكنيسة أنطاكية "للبطريرك زكا الأول عيواص" ومقدمة كتاب غرامطيق اللغة الآرامية السريانية "للأب بولس الكفرنيسي" وكتاب أصدق ما كان عن تاريخ لبنان "للفيكونت فيليب دي طرازي" وكتاب تاريخ "زكريا البليغ السرياني" وكتاب "تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من الآثار" وكتابي الهدى، وتاريخ مختصر الدول "للملفان ابن العبري" و "تاريخ الرهاوي" وكتاب الآداب السريانية "لروبنس دوفال" وكتاب اللمعة الشهيّة "للمطران يوسف داوود" وكتاب المروج النزهية في آداب اللغة الآرامية "للأب أوجين منّا" وكتاب مختصر تاريخ الرها "للسمعاني" وكتاب أخبار الشهداء والقديسين "للأب بيجان" وكتاب "تاريخ ميخائيل الكبير البطريرك" وعشرات الكتب والمجلات التاريخية الهامّة، التي يضيق مجال تسميتها في هذه العجالة.

   ولما كان تاريخ الشعب الماروني الشقيق، هو امتداد حضاري لتاريخ الشعب الآرامي السرياني العريق، حيث أن الشعبين يشتركان في وحدة الجنس والأرومة والمشاعر القومية والشعائر الروحية، وخاصة موضوع الولاء غير المشروط للوطن اللبناني المفدّى، حتى حدّ الاماتة والشهادة.. فمن غير المعقول، ترداد وتكرار الحقيقة التاريخية الوضّاءة، فوق سطور الوثائق والمستندات وجميع الأدلة والبراهين القاطعة.. انما المعقول جداً، أن يبقى تعاوننا وتضامننا قائماً ومستمراً، واشتراكنا على السرّاء والضرّاء حيّاً مشرقاً محببا، رغم تراجع الأسم الآرامي السرياني أمام عواصف الإرهاب، التي مازالت تمزّق تواجده ظلماً وعدواناً.. يبقىعزاؤنا صمود الأسم الماروني، أمام الملمات الوحشية المتربصة به.. ومحافظته المتينة على رسوخه ومناعته وتقدمه، حيث أن سلامة الأسم الماروني، هو سلامة الأسم الآرامي السرياني ذاته، ولا مشلكلة لدينا أو حساسية بهذا الموضوع المصيري الهام.. حيث أنه لم يحدث في التاريخ ولا مرة واحدة، أن غادرنا اعتزازنا باشقائنا الموارنة الأعزاء، كنا ومازلنا وسنبقى معهم، في كافة الشؤون المصيرية، التي تصون سيادة واستقلال لبنان، ووحدة أرضه وشعبه ومؤسساته الشرعيّة. وللأمانة والتاريخ أقول: إن الفكر الماروني الخلاّق، هو ركيزة أساسية ثابتة، للفكر المسيحي في الشرق كله، وكلما تعاظم الفكر الماروني، وحلّق شأواً في معارج الإبداع والمناعة والكمال، كلما تعاظم شأن الفكر المسيحي المشرقي، وحلّق شأواً في معرج الإبداع والمناعة والكمال.

   لذا يمكنني اختزال البحث هذا، بزبدة الأدلة ونتيجة البراهين، توطيداً للحقيقة وليس إلاّ.. اذ لا مجال للشكّ، في أن الآرامية السريانية، كانت لغة قدماء اللبنانيين، مما أجمع على هذا، معظم المؤرخين والمشتغلين بشؤون الحضارات واللغات والمدنيات.. ورغم اجتياحات الدول والشعوب للبنان، وفي مراحل متتابعة ومتفاوتة، فقد واظب سكانه الآراميون، على المخاطبة بلغتهم، في شؤونهم الدينية ومعاملاتهم المدنية، وخاصة في بدايات القرن السابع الميلادي، حيث انقرضت معالم الوثنية، وتحوّلت هياكلها في لبنان، إلى كنائس ومعابد وأديرة مسيحية، بفضل الرهبان الآراميين السريان، الذين اشتهروا بالزهد والعبادة وجلائل الأعمال.

   ففي العصور المسيحية الأولى، لم يكن من المسيحيين في أعالي لبنان ووسطه، سوى سكانه السريان. ومنذ بداية القرن الخامس الميلادي، انقسم سريان لبنان إلى فريقين: فريق خلقيدوني يؤمن بطبعتين للسيد المسيح، وفريق منوفيزيتي يؤمن بطبيعة واحدة للسيد المسيح. ولم يتبدّل موقف المسيحيين في لبنان، إلاّ بدخول الموارنة اليه.

   إن المتتبع لتاريخ الموارنة دينياً وقومياً، يعرف جيداً أنهم ينتمون الى القديس مار مارون، الذي عاش كراهب آرامي سرياني، في شمال سوريا والبقعة الجغرافية الواقعة بين أنطاكية وقورس. وبعد انشقاقه القومي عن الآراميين السريان، واصل أتباعه الموارنة سيرهم في وادي العاصي، وحطّوا رحالهم في الجهات الشمالية لجبل لبنان ووسطه وجنوبه، بعدما اجتازوا أفاميا وحماة وحمص. وفي القرون الثامن والتاسع والعاشر، تزايد عديدهم فوصل امتدادهم الى اقصى الجنوب، حيث لاقوا ترحيباً حاراً، من اشقائهم الآراميين السريان، سكان لبنان والاكثرية الساحقة الهامّة، من ابانئه الأصليين. ولما كان الآراميون والموارنة يتكلون اللغة الآرامية السريانية الواحدة، ويقيمون فيها طقوسهم الدينية، فقد تمّ تفاهمهم وتقاربهم وتعاونهم بسهولة تامة، وبعد فترة زمنية متلاحقة، نرى الآراميين السريان، يمتزجون رويداً رويداً بأشقائهم الموارنة، امتزاج الماء بالراح "تسريح الأبصار جزء 2 ص 51 ـ 53".

   يقول المؤرخ الشهير الفيكونت فيليب دي طرازي، في مجلده الكبير "أصدق ما كان عن تاريخ لبنان ص 42، نقلاً عن المجلة البطريركية المارونية ـ مقالة الخوري بولس قراألي ـ مجلد 5 سنة 1930": "يتلخص مما سبق أن الموارنة، الذين نشأوا في أواخر القرن السابع الميلادي، ونزحوا الى لبنان، استأنسوا بالسريان ابناء البلاد الأصليين، الذين رحّبوا بهم ترحيبهم بإخوان لهم في اللغة والجنس، فآلفوهم وصاهروهم وآكلوهم وشاربوهم وامتزجوا بهم، تلك حقيقة تاريخية راهنة، يصدع بصحتها كل من له إلمام بتاريخ الأمم الشرقية، ويقرّر أن سكان لبنان عند دخولهم النصرانية لم يكونوا إلاّ  سرياناً، وبالتالي أن السريان المسيحيين، سكنوا لبنان قبل سائر الأمم النصرانية".

 وعندم استتبّ الأمر للموارنة في لبنان، تمكنوا من تأسيس كيان سياسي عسكري اقتصادي ثقافي اجتماعي متين، تميّز بسرعة تطوّره وانفتاحه على الشعوب الشقيقة والصديقة، متمسكاً بروح الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، تمخّض عن هذا الكيان الحضاري، بعد حوالي 1200 عام، نشوء أجمل وأشهر دولة نموذجية في الشرق، هي لبنان الحبيب. هذا الوطن الذي صار مثالاً للتعايش بين ابنائه من الدينين الروحانيين والمذاهب والطوائف والانتماءات السياسية والحزبية المنوعة. اضافة الى هذا كله، نرى الموارنة الذين ساهموا ومازالوا الى حدّ بعيد، في بناء معظم دول الخليج العربي، كما مدّوا يد العون على طولها لجميع القضايا العربية المصيرية، وشاركوا في تأسيس الجامعة العربية، ومؤتمرات القمة العربية، ولجنة حقوق الانسان في هيئة الأمم، والمؤتمرات العالمي للدول الفرانكوفونية، ومؤتمر الدول الاسلامية.. نرى الموارنة في طليعة المقاتلين الشجعان، ضدّ الاحتلال العثماني والفرنسي، والداعين دوماً وابداً لاحترام حقوق الانسان، والحرية الشخصية في التعبير عن الرأي والمبدأ. هكذا نفهم المارونية، كوطن وحضارة وفكر إنساني وثّاب، ارتبطت عناصرها الحية بلبنان، ارتباطاً مارونياً لا يقبل الطلاق، لا بلّ ارتباطاً عضوياً لا يمكن سلخ أحدهما عن الآخر، لأنه ارتباط شعب بوطن، وارتباط وطن بشعب. 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها