السريان
الأرثوذكس والسريان الموارنة
مطران جبل لبنان للسريان الارثوذكس ثاوفيلوس جورج صليبا
كلما دنا موعد عيد مار مارون في 9 شباط من كل عام، تطالعنا
وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة وسواها من الكتب
والنشرات بسيرة هذا القديس الجليل والناسك المتعبّد، وهو
سرياني أصيل ابن أنطاكيا العظمى وأحد أركان الرهبنة في
المسيحية.
وكذلك إذا دنا موعد 31 تموز من كل عام، وحسب الكلندار
الماروني، يطالعنا هؤلاء الناس وسواهم ببدعة نكراء خلاصتها
اتهام مار سويريوس الكبير بطريرك أنطاكيا وتاج السريان بقتل
350 راهباً في دير مار مارون بواسطة "المونوفيزيين" بحسب
إصطلاحات اللقب الذي أطلقه الخلقدونيون من بيزنطيين ولاتين على
الكنائس الأرثوذكسية الشرقية (السريان، الأقباط، الأرمن،
الأثيوبيين، والهنود) الذين رفضوا مجمع خلقيدونية المنعقد عام
451، والذي كان سبباً في انشقاق المسيحية، وبالتالي سبب مآسي
المسيحيين في الشرق.
فهذا
المجمع تبنى العقيدة النسطورية نكاية بمار كيرلس الأسكندري
ومار ديوسقوروس الإسكندري البطريرك العظيم، وأركان النصرانية
أمثال:
مار يعقوب النصيبيني 338، ومار أفرام السرياني373، ومار
أثناسيوس الرسولي 373، ومار باسيليوس الكبير 379، ومار
غريغوريوس اللاهوتي الثاولوغوس 389، ومار اسطاثيوس الأنطاكي
رئيس مجمع نيقية المسكوني الأول 325، ومار ملاطيوس الأنطاكي
رئيس المجمع القسطنطيني الثاني 381، ومار كيرلس الإسكندري رئيس
مجمع أفسس المسكوني الثالث 431، حيث لم يكن لكرسي روما أي سلطة
واعتبار في هذه المجامع المسكونية الثلاثة (نيقية –
القسطنطينية – أفسس).
وحتى يجد كرسي روما لنفسه مكاناً في هذه المجامع، اتفق لاون
أسقف روما مع الملك مرقيان الذي اغتصب السلطة من الأمبراطور
تيودوسيوس الكبير بواسطة شقيقته بلخاريا التي تزوجها مرقيان
قائد جيش تيودوسيوس، فصار امبراطوراً متنمراً ومتنكراً لما كان
يؤمن به تيودوسيوس وأسلافه من القياصرة العظام.
وبعد أن حرم مجمع أفسس 431 نسطور بطريرك القسطنتينية لتطاوله
على العذراء مريم والدة الإله وتبديله إيمان المجامع المقدسة
التي سبقته، عقد المجمع الخلقدوني 451، وحلّ الوبال الكبير على
المسيحية.
إن المؤرخين الموارنة نالوا توجيهات من مدربيهم ومعلميهم
البيزنطيين واللاتين الذين أوغروا صدورهم على رافضي مجمع
خلقيدون وتعاليمه وقراراته، وافتروا على آباء هذه الكنائس
المعترضة على إيمان خلقيدون، لن أدخل في تاريخ الكنيسة
المارونية من أي زاوية حاقدة أو مغرضة حباً لهؤلاء الذين
يشتركون معنا في الدم والجنس والشهادة والتراث والإيمان لكلمة
ربنا وإلهنا وملكنا، بل مخلصنا وفادينا الأوحد.
لكنني ألفت القرّاء الأعزاء إلى مقال كتبه الرئيس الفخري لنادي
بيت الدين إميل أبي نادر "عيد تلامذة مار مارون وعيد جيش
لبنان" بتاريخ 23/7/2016 في جريدة "النهار"، وفيه تجنٍ على
السريان الأرثوذكس الذين يسميّهم المنوفيزيين، والذين يتهمهم
غلاة الموارنة بأنهم قتلوا 350 راهباً مارونياً في دير مار
مارون، وهذه تهمة نكراء ومرفوضة، لأنّ مار سويريوس وكنيسته لم
تكن بمقام من يضطهِد، بل كانت مضطهَدة من الخلقدونيين والسلطة
السياسية.
وأتباع هذه الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الذين يسميهم
أعداؤهم المنوفيزيين هم الذين يؤمنون (إن الأقنوم الثاني من
الثالوث الأقدس الإبن الكلمة هو إله كامل بلاهوته وإنسان كامل
بناسوته) ومن هنا تدعوه الكنيسة الإله المتجسد
(Incarnated God) بل
هو الإله الذي أخذ صورة آدم وصار مثلنا في كل شيء ماعدا
الخطيئة، وله طبيعة واحدة من طبيعتين متحدتين، ومشيئة واحدة من
مشيئتين متحدتين، وفعل واحد من فعلين متحدين، وأقنوم واحد من
أقنومين متحدين، من دون استحالة وتبلبل ولا مبالاة، بل إله حق
من إله حق، والذي يخالف هذه العقيدة وهذا التعليم هو الهرطوقي
والمبتدع.
أمّا أنّ رهبان دير مار مارون ال350 المزعومين فهي خرافة
استنبطها أعداء الأرثوذكس الشرقيين ليزيدوا في كره هؤلاء
والتجني عليهم قدر ما يستطيعون.
ونحن لم نترك مناسبة في كل المقامات واللقاءات والإجتماعات
العامة والمسكونية، إلاّ وشرحنا لأحبائنا الموارنة هذه
الحقيقة، وعلى الرغم من اقتناع كثيرين منهم، ولا سيما
المتمتعين برجاحة العقل وبُعد النظر والأفق ورحابة الصدر،
ينبري من وقت لآخر أناس يتجنون على التاريخ والحقيقة بما يرضي
نزعاتهم.
وفي قلوبنا كل المحبة والتقدير للكنيسة المارونية العزيزة
وأحبارها وإكليروسها ومؤمنيها، ترى هناك من يزيد الطين بلّة في
زرع الكراهية التي لا تنفعهم حيث لا تضيء فتيلاً ولا تنقع
غليلاً.
وللحقيقة والتاريخ نلفت الى بيان أصدرته البطريركية المارونية
بمناسبة انتهاء اجتماع المطارنة الموارنة في لبنان، إنهم
سيحتفلون في العام المقبل 2017 بعيد الشهداء الموارنة اعتباراً
من عام 517 وإلى الوقت الحاضر، قاصدين بذلك شهادة 350 راهباً
من دير مار مارون.
هذا الأمر الذي يثير حساسية أكثر في صفوف مؤمنيها والذي نرفض
أن يكون متداولاً في الأوساط عامة وفي علاقة السريان بقوميتهم
وتراثهم وتاريخهم الطويل.
إذا تمعّن القارئ الحصيف في التاريخ الكنسي عامة، سيجد حفراً
كثيرة ومطبات عديدة وافتراءات متنوعة لحقت بهذه التواريخ،
وندعو أصحاب الإختصاص والمهتمين الى أن يطالعوا كتب آبائنا
والمؤرخين السريان الأرثوذكس خاصة، وهم من كبار مؤرخي الكنيسة،
على سبيل المثال ولا الحصر:
مار
يوحنا الأفسوسي 587 الذي كان قريباً من عام 517، ومار
ديونوسيوس التلمحري 845 وهو المؤرخ العظيم، ومار ميخائيل
الكبير الذي كتب تاريخ العالم المدني والكنسي من بداية الخليقة
وحتى عام 1193، ومار غريغوريوس يوحنا ابن العبري دائرة معارف
القرن الثالث عشر ونور الغرب والشرق الراقد عام 1286، والذين
كتبوا اعتباراً من القرن الرابع عشر حتى اليوم لم يتطرق أحد
إلى هذه البدعة لا من قريب ولا من بعيد، ولا يوجد لها أثر في
كتابات آبائنا وعلاقتنا، ولو تلميحاً.
إننا نؤكد لكل الناس، ولاسيما للموارنة، أنّ السريان الأرثوذكس
لم ينعتوا الموارنة يوماً بصفات لا تليق بالكنيسة، علماً أن
بعض مؤرخي الموارنة يطلقون على كنيستنا لقب البدعة اليعقوبية،
وهي مرفوضة، لأنّ مار يعقوب البرادعي الذي ينسبوننا إليه هو
إبن الكنيسة البار وليس مؤسسها، وهو وريث مار أفرام السرياني
ومار يعقوب السروجي ومار فيلوكسينوس المنبجي ومار سويريوس
الأنطاكي ومار شمعون الأرشمي وسواهم، ولم يأتِ ببدعة، لأنّه
يؤمن بعقيدة الكنيسة الجامعة وهي عقيدتنا، وقد أشرنا إليها في
هذا المقال.
وأقود القارئ إلى قراءة كتاب "الحجج الراهنة في إبطال دعاوى
الموارنة" للعلامة الكبير اقليميس يوسف داوود مطران السريان
الكاثوليك في دمشق، وكتاب "أصدق ما كان عن تاريخ لبنان"،
و"صفحة من أخبار السريان" للعلامة كونت فيليب دي طرازي
السرياني الكاثوليكي، والبطريرك أفرام الأول برصوم بطريرك
السريان الأرثوذكس 1957 في كتابه "تاريخ الأبرشيات السريانية
واللؤلؤ المنثور". والبطريرك يعقوب الثالث 1980 في كتابه
"تاريخ الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الأنطاكية " الجزء
الثاني، وفي كتابه " نفح العبير في سيرة مار سويريوس الكبير"
عام 1970، وكتاب الدكتور العلامة متى اسحق موسى الذي طبعه
بالإنكليزية وتُرجم إلى العربية، وفيه تفاصيل تاريخ الموارنة،
وكتابي أنا المطران جورج صليبا" مائدة أنطاكيا" في فصل السريان
في لبنان، وتقرأ في هذه الكتب وسواها آراء غريبة وعجيبة. راجع
أيضاً البطريرك يعقوب الثالث "نفح العبير في سيرة مار سويريوس
الكبير" 1970 دمشق، وأفرام برصوم"اللؤلؤ المنثور" ص 296 – 310،
وقد جاء في "كتاب أنطاكيا" لمؤلفه خريسوستوموس بابادوبولوس
استاذ التاريخ في جامعة أثينا، تعريب الأسقف استفانوس حداد
ومنشورات النور 1984 ص348، بعد تذمره من معاداة مار سويريوس
لمجمع خلقيدونية يقول: " كان قد ذبح ثلاثمئة راهب في سوريا
ذبحهم اليهود وحرموا الدفن، وأمّا غيرهم فأودعوا غياهب
السجون"، فتأمّل المتناقضات في هذه الآراء والأقوال. ولكي نزيد
القارئ معرفة ومعلومات جديرة بالإهتمام، أوجه عناية المهتمين
إلى قراءة الدراسة المسهبة التي كتبها ونشرها في هذا الموضوع
المثلث الرحمات مار اغناطيوس يعقوب الثالث بطريرك أنطاكيا
وسائر المشرق الراقد عام 1980، وفيها عمق وخصوبة في المعرفة
ومهمة جداً في نقض هذه الإفتراءات، وإني مستعد لنشرها كاملة
إذا لم يتوقف المغرضون عن هذه الإفتراءات وإثارة الفتنة بين
السريان والموارنة.
إنني شخصياً وبكل محبة لا أقصد ولا أشاء أن تكون هناك خصومات
بين الموارنة والسريان، بل بين المسيحيين عامةً، لأنّ عصر
المجادلات انتهى، والعالم المسيحي اليوم يسير نحو الوحدة
المسيحية في الحركة المسكونية المباركة التي يقودها مجلس
الكنائس العالمي والفاتيكان ومجلس كنائس الشرق الأوسط وسائر
المجالس والمنظمات المسكونية التي تدعو إلى وحدة أبناء المسيح.
وكم بالأحرى إلى وحدة سريانية مقدسة التي هي أساس هذا الشرق
بكنائسها اليوم: السريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك
والموارنة والأشوريين والكلدان والروم الأرثوذكس والروم
الملكيين الكاثوليك جذورها وأصولها وتراثها سرياني أنطاكي.
نأمل أن تحرك هذه الكلمات ناشدي المحبة والوحدة المسيحية،
ولاسيما في الظروف القاسية التي يتعرض لها المسيحيون للإبادة
وقد اقتلع معظمهم من أرض آبائهم وأجدادهم في هذا الشرق،
والسلام على من يفتح قلبه وأذنيه وعقله وعواطفه يسخّرها
لمسيحيتنا المقدسة السامية لنكون جميعاً رعية واحدة لراعٍ واحد
هو ربنا يسوع المسيح رأس الكنيسة وفاديها ومؤسسها. |