090722
(اقوم بنشر هذه الدراسة المتواضعة هنا بعدة اجزاء،
لأسلط الضوء على عظمة هذه الكنيسة عندما كان ابناؤها جسماً واحداً
متحداً قبل ان ينقسم الى كلدان وآشوريين، حيث صنعوا امبراطورية كنسية
عظيمة امتدت من الشرق الاوسط الى سنترال آسيا والصين والهند.
الآشوريون والكلدان اليوم هم احفاد هؤلاء الأبطال الذي تلمذوا عشرات
الشعوب وادخلوها في المسيحية عندما كانوا كنيسة واحدة وشعباً واحداً،
فهل هناك اية فرصة لهم للتعاون والتآلف والتقارب وربما الاتحاد؟ ربما
تساعدهم هذه الدراسة على اكتشاف الأصل المشترك والتاريخ المشترك
فيتلاشى الانغلاق على الذات، وتخف حدة الاصولية وتزول الكثير من مشاكل
اليوم)
(ملاحظة: قمتُ باستعمال تسمية
"الكنيسة السريانية الشرقية" لان هذا هو اسمها العلمي الذي نستعمله في
العالم الاكاديمي، كما ان بقية الاسماء والاصطلاحات هنا اوردناها كما
كانت مستعملة حينها)
أثناء ظهور
التعاليم المسيحية كانت البلاد السريانية وهي سوريا القديمة والعراق
ترزح تحت حكم امبراطوريتين كبيرتين متنافستين هما الامبراطورية
الرومانية (البيزنطية بعدئذ) في الغرب والامبراطورية الفرثية
Parthia (أو الفارسية
الساسانية منذ القرن الثالث الميلادي) في الشرق، باستثناء بعض القطاعات
والجيوب التي كات تشغلها بعض الدويلات والامارات الارامية المتفاوتة
الحجم والاهمية ومنها: الرها (أورفا) وأمد (دياربكر، في تركيا)، الحضر
Hatra وسنجارا (في
العراق)، وتدمر وحمص ودمشق (في سوريا)، ودولة النبط (في الاردين)، الخ،
يحكمها امراء آراميين أو عائلات برجوازية ذات تبعية سياسية للفرس أو
الرومان.
وكانت العداوة
المستحكمة بين هاتين القوتين الجبارتين الفرس والرومان، قد أثّرت سلباً
على المنطقة السريانية الى حد كبير. فالحدود بينهما غير مستقرة وكثيرا
ما كانت عرضة للتغيير بين مد وجزر عند تخوم نصيبين والقامشلي في
الجزيرة السورية وشرقي تركيا الحالية، التي كانت تشكل ساحة المعارك
والصدامات بين الفرس والرومان، والتي كانت تخلف وراءها في كل مرة
الخراب والدمار وسفك دماء الشعب السرياني الذي لم تكن له يد في تلك
الحروب المدمرة على اراضيه.
وقد اثرت تلك
الحدود مع مرور الزمن بين الرومان والفرس على
السريان الآراميين الى حد كبير جداً لانها عملت على تجزئتهم
وتقسيمهم. وما زالت نتائج ذلك تتفاعل ليومنا هذا. ذاك ان تلك الحدود
قسمتهم جغرافياً الى سريان شرقيين (تقريبا في العراق الحالي وايران)
وسريان غربيين (الى الغرب منها ولغاية البحر المتوسط في سوريا)،
وسياسياً خضعوا لدولتين متعاديتين الفرس في ايران والرومان البيزنطيين
في سوريا، ودينياً الى كنيستين (على الاقل)، ولغوياً الى لهجتين
آراميتين (على الاقل). وابعدتهم عن بعضهم وزرعت في عقولهم انتماءين
وشخصيتين متباينتين. ان تلك الحدود التي عملت على تقسيم السريان تشابه
الى حد ما الحدود الحالية ما بين دولتي سوريا والعراق.
ولقد ازدادت
العداوة بين الامبراطوريتين بعد ان أصدر قسطنطين الكبير مرسوم ميلانو
الشهير عام 312م حين أطلق الحرية الدينية معترفاً بشرعية الديانة
المسيحية التي اعتنقها بعدئذ وجعلها دين الدولة الرسمي، مخلفاً بذلك
نتائج سلبية في المسيحية لاحقاً.
المسيحية في الشرق:
ان تاريخ انطلاق
المسيحية في المشرق يكتنفه الغموض تماماً. فلا نعرف بالضبط متى دخلت
المسيحية تلك المناطق، لان المصادر التاريخية التي بين ايدينا شحيحة في
هذا المجال ولا تزودنا بما يفي الموضوع حقه. إلا ان التقاليد السريانية
الشرقية (النسطورية والكلدانية) تفيد بانه منذ القرن الاول الميلادي
بدأت المسيحية تنتشر في المشرق على يد الرسل الذين بشروا هناك واسسوا
بعض الكنائس والمجتمعات المسيحية. وتحدثنا التقاليد السريانية عن
المجوس الذين زاروا الطفل يسوع في بيت لحم، وعددهم حسب التقاليد
المعروفة اثناعشر، كانوا في ثلاث مجموعات حيث آمنوا به ونشروا التعاليم
عنه اثناء عودتهم الى المشرق. وتحدثنا كذلك التقاليد عن توما الرسول
ونشاطه التبشيري ورحيله الى الهند وكذلك عن الرسول أداي وتلميذيه آجاي
وماري.
ويُعتقد ان بعض
التجار السريان المسيحيين الذين كانوا يقومون برحلات تجارية الى بعض
المناطق والمدن السريانية الشهيرة مثل الرها ونصيبين قد نشروا معلومات
عن الدين الجديد الذي ظهر في فلسطين سوريا ومهدوا الطريق امام المبشرين
من الرسل والتلاميذ أو سواهم من المبشرين. ففي تعاليم آداي
ܡܠܦܢܘܬܐ ܕܐܕܝ
نفهم ان أداي كان في الرها ونصر هناك بعض الرهاويين
وبنى كنائس. وعند وفاته تبعه في الاسقفية آجاي، وان بيث نهرين سمعت
البشارة من آداي.
كما هناك جملة
من الكتابات والنصوص القديمة، واغلبها بالسريانية، تعتبر مصدرا هاماً
عن انطلاق البشارة المسيحية في المشرق. غير انها تتراوح بين اشارة
خاطفة ولمحة عابرة الى ذكرِ موجز تفيد المؤرخين الكنسيين كمصدر هام عن
دخول المسيحية الى المشرق ولكنها لا تفي الغرض حقه، منها كتاب تعاليم
آداي المذكور، وقصة ذكر فيضان نهر ديصان في الرها، وكتاب شرائع البلدان
لبرديصان الرهاوي وغيرها.
القرن الثالث:
نعلم من خلال
الوثائق القديمة بانه كان هنالك ذكراً لمجتمعات مسيحية متفرقة في عدة
مدن ومقاطعات من بلاد ما بين النهرين، التي كانت ترزح تحت حكم
البارثيين. لقد دخلت المسيحية اليها في فترات مختلفة منذ القرن الاول
الميلادي وتوسع الانتشار في القرن الثاني، لكن لا تتوفر لديننا معلومات
دقيقة في هذا الشأن.
ان المجامع
الكنسية لكنيسة بلاد الفرس، وأولها مجمع عام 410 م وثقت تاريخ هذه
الكنسية منذ نهاية القرن الخامس فصاعداً، وقدمت لنا معلومات دقيقة عن
انتشارها الجغرافي وتنظيمها وكراسي اسقفياتها. لكن تاريخ هذه الكنيسة
قبل مجمع 410 م غامض بل غير معروف بشكل دقيق. كانت الكنيسة السريانية
في بلاد الفرس في القرون الاولى الاربعة جزءاً من المسيحية السريانية
الملحقة حول بطريركية انطاكية. وان هذه الكنيسة أخذت الكثير من مقومات
وجودها من الكنيسة الانطاكية مثل نظامها الاسقفي وليتورجيتها المصاغة
على نموذج انطاكي وكذلك رهبنتها ولاهوتها وقوانينها. كانت هذه الكنيسة
اثناء حكم الساسانيين في حالة دفاع عن النفس إزاء المجوس الذين كانوا
يطالبون الملوك باضطهاها، لذلك كانت تنمو ببطء لكن بثبات. أما رعيتها
الاولى بالاضافة الى السريان فكانت فيها ايضاً مجموعات من المتنصرين
الوثنيين والزرداشتيين ومن اسرى الحروب من العالم الروماني.
كان الملكان
أردشير الاول وابنه شابور الاول متسامحين دينياً. إذ أن شابور سمح
للأسرى من سوريا الرومانية حينها وخاصة من أنطاكية، ومعظمهم من
المسيحيين، بممارسة طقوسهم الدينية بحرية في عام 256-260 م. لكن في
نهاية حكم شابور قويت سلطة الكاهن الاعلى الزرداشتي وبلغ نفوذه الذروة
أثناء حكم هرمز الاول (272-273) وبهرام الثاني (276-293). وترجم ذلك
الى اضطهادات شنيعة ضد المسيحيين في تلك الفترة. وفي عداد الشهداء
الذين سقطوا "قنديرا" زوجة الملك بهرام الثاني المسيحية. (تم كشف حوالي
ستين قبراً على الضفة المرجانية لجزيرة "خرج" مقابل البحرين في الخليج
الفارسي تحمل نقوشاً سريانية. يعتقد العلماء ان هذه القبور تعود
لمسيحيين سقطوا ضحية الاضهادات في القرن الثالث الميلادي، ويُعتقد ان
هؤلاء الشهداء المسيحيين دفنوا هنالك بعيداً عن رقابة الكهنة
الزرداشتيين).
كان القرن
الثالث هادئاً نسبياً في حياة الكنيسة عدا بعض حوادث الاضطهادات التي
اثارها رئيس الكهنة الزرداشتي الاعلى. وكان لأسرى المسيحيين الذين اتى
بهم ملوك الفرس من سوريا دور بارز وهام في نشر وتقوية تعاليم المسيحية
في العراق وفارس. لقد احتل شابور الاول انطاكية مرتين، الاولى عام 256
م والثاني عام 260، وفي كلتا المرتين كان يجلب معه اعداداً كبيرة من
الاسرى المسيحيين واليهود والوثنيين. وكانت مجموعة من الاسرى الاولى
تضم في عدادها ديمتريانوس اسقف انطاكية والذي بمساعيه اصبحت كنيسة بيث
لافاط كرسياً اسقفياً هاماً في بلاد فارس. وكان اغلب الاسرى الانطاكيين
من المسيحيين السريان وقلة من اليونانيين، قد استوطنوا في عدة مناطق
مثل فارس وبارثيا وخوزستان وغيرها. وهذا ما يؤكده التاريخ السعرتي (Chronique
se Seert, in: Patrologia Orientalis 4, pp. 221-222)
حيث يروي بشكل رومانسي بان الاسرى قد منحوا أراض للحراثة ومنازل للسكن،
وان هؤلاء الاسرى أصبحوا طاقة بشرية هائلة بتصرف الدولة الفارسية لتحقق
بهم مشاريع عمرانية ضخمة كبنيانهم سد شوستار. ولقد سار شابور الثاني
على نسق شابور الاول عندما احتل سنجارا عام 360 جالباً الاسرى الى
فارس، وكذلك لما احتل بيث زبداي حيث وقع في الاسر مطران المنطقة ايضاً.
ان الاسرى
المسيحيين، عندما كانت تسنح لهم الظروف الملائمة، كانوا يتّصلون
بالمسيحيين من ابناء المنطقة مما ساعد على تقوية المسيحية ورسوخها في
بلاد فارس. ويشير التاريخ السعرتي الى اديرة وكنائس منها كنيستان في
أردشير، احداهما تعتمد اللغة اليونانية في ليتورجيتها والاخرى اللغة
السريانية.
ومن الاساقفة
التي وصلتنا اسماؤهم "حيران الأربيلي" ( من أربيل) (225-258 م)
الذي كان من اقليم بيث
آرامايى
ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ
"بلاد الآراميين"
الواقع في وسط وجنوب العراق، وكذلك الاسقف "شحلوفا الأربيلي" (258-273)
وكان ايضا اصله من اقليم بيث آرامايى
Beth Aramaye،
وكذلك "أحادابوي الأربيلي" (273-291) حيث
يرد في قصته "بان الشعب اختار بالاجماع فافا
الآرامي عام 310 لانه كان رجلاً حكيماً وفطناً" (القصة منشورة
في Sources Syriaques،
المجلد الاول، صدر في لايبزيغ عام 1908، صفحة 119).
القرن الرابع:
لا شك ان
المعلومات قليلة ايضا عن الكنيسة في القرن الرابع، غير أن الذي نعلمه
بالتفصيل هو خبر الاضطهادات التي تعرض لها المسيحيون بامر شابور الثاني
وبهرام الرابع، حيث تردد صداها في الغرب (سوريا). ان الوضع السياسي
العام وخاصة علاقة الروم مع الفرس كانت تؤثر سلباً او ايجاباً على
المواطنين المسيحيين في المشرق الفارسي. إذ كانت العلاقة بين قسطنطين
الكبير وشابور الثاني (309-379) ودية وطيبة، لذلك كان السلام يسود
المنطقة. ولما علم قسطنطين بوجود مسيحيين في الدولة الفارسية كتب الى
شابور يطلب منه حماية المسيحيين في دولته وان يشملهم برعايته
وانسانيته، غير ان اهتمام قسطنطين بمسيحيي المشرق سبب لهم الكثير من
المتاعب والاذى لأن مستشاري شابور أوهموه بان مسيحيي دولته يجدون في
قسطسنطين بطلاً للمسيحيين، وان ولاءهم للعرش الساساني هو موضع شك. لذلك
وبعد وفاة قسطنطين عام 337 م بدأ شابور باضطهاد الكنسية في حدود دولته
وقد استمر هذا الاضطهاد طوال عهده وذلك تحت تأثير النفوذ السياسي
المتزايد للمجوس.
بدأ الاضطهاد
عام 340 م في سلوقية بصدور الامر بتوقيف مار شمعون برصباعي اسقف
سلوقية-قطسيفون وهو ثاني جاثليق للمسيحيين في الدولة الفارسية. ثم عرض
عليه اطلاق سراحه شرط ان يجمع الضرائب من رهبانه ومن المسيحيين في
أقليم بيث آرامايى
ܒܝܬ ܐܪ̈ܡܝܐ
الذي كان يشمل وسط العراق وجنوبه (وكان فيه كثافة آرامية عالية لذلك
سمي باسمهم "بلاد الاراميين") كما ورد في التاريخ السعرتي (ص. 300).
ولما رفض مار شمعون هذا الشرط قطعوا راسه عام 341 (او 344؟). ثم أعلن
الملك اضطهاداً عاماً على جميع المسيحيين، وتقول قصة استشهاد مار شمعون
"ان شابور وجّه امره برسالة من خوزستان الى حكام
اقليم بيث آرامايى بهذا الخصوص"
(مخطوطة المكتبة الفاتيكانية Vat. Syr
رقم 161، عدد 3، صفحة A20)،
إلا انه عاد وخفف الاضطهاد وجعله وقفاً على الاكليروس المسيحي. وقد
تباينت قسوة الاضطهاد من اقليم الى آخر وذلك تبعاً لرغبات الحكام
المحليين ونزواتهم. لكن اكثر المناطق التي اصابها الضرر كانت بيث غرماي
ܒܝܬܓܪܡܝ
و حدياب
ܚܕܝܒ وذلك
بسبب الوجود المسيحي الكثيف فيها. وقد ذهب ضحية الاضطهاد بعض افراد
حاشية الملك والوجهاء والقادة الكنسيين. ففي العاصمة وحدها أعدمت
السلطة 120 شخصاً من أفراد الاكليروس. يقول المؤرخ سوزومٍن (ص 14،2)
بان عدد الضحايا كان ستة عشر الفاً.
كان الجاثليق
مار فافا الآرامي
Papa the Aramean
اسقف سلوقية يدرك أهمية مركزية كنيسة المشرق واستقلالها، لذلك تزعم
حركة لتحقيق هذا الهدف الا انه أُقيل من منصبه في مجمع 315م فالتجأ الى
كنيسة انطاكية التي ابطلت عزله وأُعيد الى منصبه. وكان مار شمعون بر
صباعي قد مثله في المجمع الكنسي النيقاوي 325م ثم خلفه على الكرسي بعد
وفاته. وعند استشهاد مار شمعون خلفه مار شاهدوست الذي استشهد ايضاً عام
342، ثم استشهد خليفته مار بربعشمين عام 346 كذلك.
(ملاحظة:
ربما
تساعده هذه الدراسة الاشوريين والكلدان اليوم على اكتشاف الأصل المشترك
والتاريخ والتراث المشترك فيتلاشى الانغلاق السلبي على الذات، وتخف حدة
الاصولية، وتزول الكثير من مشاكل اليوم)
(لقد قمتُ باستعمال تسمية "الكنيسة السريانية الشرقية" لان هذا هو اسم
الكنيسة العلمي الذي نستعمله في الاوساط الاكاديمية، كما ان بقية
الاسماء والاصطلاحات هنا اوردناها كما كانت مستعملة في زمن وقوع
الاحداث)
الكنسية في
القرن الخامس:
كان هناك
تنظيم وتوثيق لكنيسة المشرق منذ القرن الخامس ولغاية الثامن من خلال
المجامع الكنسية المحلية التي عقدتها منذ عام 410 ولغاية عام 775
وعددها ثلاثة عشر مجمعاً. ويُعتقد بان الذي عمل على جمع أعمال المجامع
المذكورة هو الجاثليق طيمثاوس الاول (780-823). وقد قام عالم
السريانيات جان باتيست شابو الفرنسي بنشر هذه المجامع تحت اسم المجامع
الشرقية Synodicon Orientale
عام 1902. مثلما نشر نظيره العلامة الاستلندي آرثور
فوبس مجامع الكنيسة السريانية الارثوذكسية 1975-1976.
في مستهل القرن الخامس كان هناك شخصان لعبا دوراً قيادياً وتنظيمياً
هاماً في حياة كنيسة المشرق وهما مار ماروثا أسقف ميافرقين (توفي 420)
ومار اسحاق جاثليق المشرق (توفي 410) حيث ترأس الاثنان معاً أول أهم
مجمع كنسي مشرقي عقد عام 410 ويعرف بمجمع مار اسحاق.
لكن
يبدو ان ماروثا بالاضافة الى مهامه الكنسية والاسقفية كان رجلاً
سياسياً كبيراً بدلالة قيامه بمهام سياسية رفيعة المستوى ادّت الى نشر
السلام بين الفرس والرومان. ذاك ان علو كعبه في العلوم اللاهوتية
والكنسية وتمرسه في مهنة الطب واتقانه اللغات الفارسية واليونانية
بالاضافة الى لغته الام السريانية وخبرته العالية في الادارة قد مكنته
ليقوم بدور الوسيط بين هاتين الدولتين. لقد حل مرتين في البلاط الفارسي
كسفير يمثل القسطنطينية وملوكها الاباطرة أركاديوس (395-408)
وثيودوسيوس الثاني (408-450) لدى الملك الفارسي يزدجرد الاول
(399-421). وكان في مهمته الاولى الدبلوماسية يمثّل الامبراطور
أركاديوس في حضور مراسيم تسلّم يزدجرد عرش دولته، واما تمثيله
الدبلوماسي الثاني فكان عام 408 لإبلاغ يزدجرد بتسلم ثيودوسيوس عرش
دولته ( (Socrates, VII, 8
، وكان
خلال احدى مهامه السياسية قد عالج الملك الفارسي من مرض خطير ألم به.
ومع الوقت توطدت بينه وبين يزدجرد صداقة متينة انعكست خيراً على حياة
الكنيسة. وقد نجح مار ماروثا حلال مساعيه السياسية في انهاء اضطهاد
الفرس للكنسية، واعتراف الملك الفارسي بسلطة الجاثليق مار اسحاق كرئيس
روحي عام لجميع المسيحيين في الدولة الفارسية، وفي اعادة تنظيم ترميم
واصلاح الكنائس التي دمرت اثناء الاضطهادات السابقة، وتأمين حرية
وسلامة تنقل الاكليروس المسيحي ضمن حدود الدولة. واستغل مار ماروثا
السرياني (اسمه بالسريانية
ܡܪܘܬܐ
يعني السيادة والجلالة) فرصة وجوده في الدولة الفارسية فقام بتجميع
أخبار شهداء الاضطهادات.
وبفضل ماروثا انتظت الكنيسة في سلطة مركزية بادارة مطران العاصمة
الفارسية الذي حمل لقب جاثليق وثم جاثليق بطريرك. وخلال سفره الى
الدولة الفارسية كان ماروثا قد حمل معه رسالة موقعة من بعض مطارنة
سوريا وبالاخص أساقفة انطاكية وحلب والرها وتلا وآمد يحثون فيها كنيسة
المشرق ان تتبنى القوانين والنظم السائدة في الكنسية الانطاكية. وعرضت
الرسالة على الملك يزدجرد فوافق على عقد مجمع لاساقفة الشرق عام 410 ضم
أربعين اسقفاً، وحضره ممثلان عن الملك، حيث اعلنا باسم الملك انتهاء
الاضطهاد والاعتراف بسلطة مار اسحاق ودعم سياسة ماروثا ومار اسحاق.
كان
هذا المجمع هاماً جداً في حياة كنيسة المشرق لانه تبنى قانون الايمان
المسيحي
ܩܢܘܢܐ
ܕܗܝܡܢܘܬܐ
الذي صاغه اللاهوتيون في مجمعي نيقية 325 والقسطنطسنية 381. واقر
المجمع الاحتفال بالاعياد الرئيسية في نفس المواعيد والاوقات المعمول
بها في الكنيسة في سوريا. كما سن المجمع 21 قانوناً هاماً كانت اساساً
في تنظيم حياة الكنيسة واكليروسها واسقفياتها وادارتها وتقسيم
المطرانيات. وربما اهم قوانين هذه المجمع كان قانون رقم 13 الذي يتضمن
توحيد الاعياد مع كنيسة الغرب، وكذلك القانون 21 الذي عمل على تقسيم
الكنيسة الى مطرانيات واسقفيات وهي:
1.الكرسي الاول وهو كرسي المدائن، يترأسه الجاثليق الذي هو رئيس
المطارنة والاساقفة، ويساعده في مهمته أسقف كشكر.
2. اسقف بيث لافاط وهو مطران مقاطعة بيث هوزايى (خوزستان)
3. اسقف نصيبين وهو مطران اقليم بيث عربايى
4. اسقف فرات وهو مطران اقليم ميشان (منطقة البصرة الان)
5. اسقف اربيل وهو مطران منطقة حدياب
6. اسقف كرخ سلوخ وهو مطران اقليم بيث غرمايى.
وفي نهاية جدول الاساقفة هنالك ذكر لأساقفة في مناطق نائية في فارس
وجزر الخليج الفارسي وفي ميديا وميديا العليا وحتى في خوزستان. ويتصدر
جدول التواقيع اسماء مار اسحاق ومار ماروثا، وبينهم تواقيع اربعة
مطارنة و 32 اسقفاً.
لقد
خلف ماروثا في مهامه السياسية بين الفرس والبزنطيين مار ياهبالاها
ܝܗܒܐܠܗܐ
الذي انطلق حوالي عام 418 على رأس وفد الى القسطنطينية ممثلاً يزدجرد
لدى الامبراطور البيزنطي. ثم تلاه في نفس المهمة السياسية أقاقيوس
مطران آمد الذي أرسل كسفير ممثلاً الامبراطور البيزنطي ثاودوسيوس
الثاني. ويعتقد ان أقاقيوس قد لعب دور الوسيط السياسي في المفاوضات
لانهاء الحرب بين الفرس والرومان عام 422. وذكر سقراط المؤرخ بان
أقاقيوس قد افتدى سبعة آلاف من الاسرى المحتجزين لدى البزنطيين بعد ان
باع امتعة الكنيسة وافتداهم وأرسلهم الى ديارهم في الدولة الفارسية (
(Socrates, VIII, 21
أما في المجمع الذي عقد عام 420 فنفهم من مجرياته بان سلطة الجاثليق
كانت تشمل 28 كرسياً اسقفياً. وقد درج في جدول اعمال هذا المجمع طلب
للتمسك بالقوانين الخاصة بكنيسة الغرب (سوريا) والعمل بها بناء لمقررات
مجامجع أنقرة وقيصرية الجديدة وغنغرة وأنطاكية ولاذقية فريجيا.
أما في مجمع عام 424 فكان هنالك 36 اسقفاً بالاضافة الى الجاثليق، وقد
ركز هذا المجمع على استقلالية هذه الكنيسة في معالجة أمورها بنفسها دون
طلب مساعدة من اساقفة بيزنطا. وفي هذا المجمع نسمع عن اساقفة على
ابرشيات بعيدة في آسيا مثل مرو، وهرات، وسجستان، واصفهان، واصطخر، الخ.
هذا كله يدل دون شك على مدى توسع هذه الكنيسة العظيمة وانتشارها في
آسيا.
وفي
مجمع ساليق 486 دُرست قضية رهبان أقليم بيث
آرامايى
ܒܝܬ
ܐܪ̈ܡܝܐ
(وسط وجنوب العراق) وتجوالهم ونشرهم التعاليم المخالفة لما هو معمول به
في الكنيسة. وكذلك جاءت مقررات المجمع في تفضيل زواج الاكليروس كله
استاداً الى رسالة.
طيموثاوس الاولى 3:1-5
بأن المطران ينبغي ان يكون متزوجاً. ويعتقد ان هذا قد جاء بناء لطلب
برصوما مطران نصيبين الذي كان متزوجاً. وفي مجمع عام 497 جاء تأكيد على
زواج الاكليروس المسيحي بدءاً من الجاثليق ونزولاً لأصغر رتبة كهنوتية.
وكان هذا تكراراً لافكار برصوما مطران نصيبين. وجاء في كتاب المجامع
الشرقية (Synodicon Orientale, p. 321)
بان الملك الفارسي أمر بعقد مجمع للنظر في مسألة زواج الاكليروس.
كان القرن الخامس مسرحاً لتصارع الافكار اللاهوتية المتنافسة. وكانت
المجامع "المسكونية" المنعقدة بين عام 431 و 451 في الكنيسة الانطاكية
محطات متباينة متميزة في تاريخها وفكرها اللاهوتي وخاصة بعد ان تبنت
كنيسة المشرق عقيدة الايمان النيقي سابقاً. والآن أخذت الصراعات
الفكرية المسيحية الدائرة في كنسية انطاكية تؤثر على كنيسة المشرق
ايضاً وخاصة في قضية الطبيعة الواحدة والطبيعتين في السيد المسيح.
كان المثقفون في كنيسة المشرق قد تخرجوا غالباً من الكليات السريانية
في الرها ونصيبين. وكان هؤلاء يدعمون الفكر اللاهوتي النسطوري. وبعد
تخرجهم تسلموا المناصب الكنسية العليا في كنيسة المشرق عمدوا الى نشر
هذا الفكر اللاهوتي في كنيسة المشرق. ومن هؤلاء نذكر أقاقيوس المدرّس
في معهد ساليق الذي أصبح رئيساً لكنيسة المشرق عام 485، ويوحنا الكرخي
وبرصوم النصيبيني وبولص من بيث ليدن، ومعنو من بيث أردشير، وابراهام من
بيث ماداي، ونرساي المدرس من كلية نصيبين. لقد كان فكر هؤلاء
خلقيدونياً يؤمنون بالطبيعتين، الا انهم كانوا يرفضون شجب نسطور.
الكنسية
في القرن السادس والسابع:
أخذت الكنيسة في مستهل القرن السادس تعاني من انشقاق في هيكلية ادارتها
على أثر قرار الجاثليق شيلا (505-523) بأن يخلفه على سدة الرئاسة صهره
إليشع الطبيب المشهور يومذاك رغم القوانين المرعية الاجراء في الكنيسة،
ومعارضة الاساقفة لهذا القرار. وعيّن الاساقفة مرشحاً من قبلهم هو
نرساي من خوزستان فاصبح للكنيسة بذلك رئيسان إليشع ونرساي وكل واحد
يلاقي دعماً وتأييداً من طرف أو أكثر.
في عام 540 خرق خوسرو الفارسي السلم المعقود بين الفرس والرومان
بتجديده الحرب ضد بيزنطا في اغارته على سوريا. ثم تلت ذلك فترات من
السلم التي اعقبها سلسلة حروب أخرى. وقد تميزت هذه الحروب بنجاح الجيوش
الفارسية في جلب الكثير من الاسرى المسيحيين من المناطق السورية ونقلهم
الى فارس. وكذلك لم تخلُ ولاية خوسرو من بعض الاضطهادات والتعسفات ضد
الكنيسة. وفي عام 544 عقد مجمع في كنيسة المشرق وافق الاساقفة على قبول
واستعمال مؤلفات وشروح ثيودور المصيصي عن عقيدة الايمان النيقاوي
(يعتبر ثيودور المصيصي بطل الفكر اللاهوتي النسطوري). وفي مجمع عام 554
ينال الجاثليق لقب بطريرك، وهذا بحد ذاته يعتبر حدثاً هاماً في
استقلالية كنيسة المشرق.
كانت
علاقة خوسرو الثاني (591-628) جيدة مع الامبراطور البيزنطي موريقي
(موريس) (انظر ابن العبري، مختصر الدول، طبعة صالحاني، صفحة 154)
لمساعدته ضد منافسه بهرام، قد انعكست خيراً وارتياحاً على كنيسة المشرق
السريانية. وكان لزوجتي الملك خوسرو المسيحييتين
"شيرين الآرامية ومريم الرومية" كما تسميهما المصادر السريانية،
دور في موقفه الايجابي من المسيحيين. لكن علاقة خوسرو تسوء مع
البيزنطيين فيستعدي المسيحيين في دولته، وخاصة أثناء حكم هرقل وحربه مع
خوسرو عام 612، الشيء الذي ساهم في سقوط الدولتين بيد العرب المسلمين
بعد حوالي عقدين من الزمن. لكن موقف خوسرو يعود الى ما كان عليه من
ايجابية نحو المسيحيين بعدئذ.
وعندما تسلم الملك الفارسي قواذ الثاني عرش الدولة عام 628 منح الحرية
التامة لمسيحيي دولته، وهذا ما افسح في اجتماع مجمع الاساقفة وانتخاب
جاثليق للكنيسة هو يشوعياهب الثاني المتخرج من جامعة نصيبين، وكان
مطراناً متزوجاً. وأثناء حكم الملكة بوران الفارسية (629-630) انطلق
الجاثليق النسطوري يشوعياب على رأس وفد متوجهاً الى حلب لملاقاة
الامبراطور البيزنطي هرقل، وذلك كتعبير ودّي من الملكة الفارسية بوران
للامبراطور البيزنطي هرقل اثناء وجوده في سوريا في صيف عام 630 (اي خمس
سنوات قبل احتلال العرب لسوريا عام 635). ومن خلال اللقاء اللاهوتي
اقتنع القيصر بارثوذكسية الكنيسة السريانية الشرقية. واشترك كل من
الامبراطور والجاثليق في تناول القربان معاً. كما يقول الكاتب السرياني
توما المرجي (كتاب الرؤساء، 2، 2، 4، صفحة 123-127). وقد عمد احد أعضاء
الوفد الى سرقة وعاء ذخائر الرسل ونقله معه الى دير عابي (توما المرجي
في نفس المصدر، صفحة 127).
كان
السريان المسيحيون في العراق وسوريا مضطهدين بشكل عام من قبل الفرس
والرومان، كما ان الكنيسة البيزنطية كانت تنظر لهم شزراً على انهم
هراطقة، لكن رغم هذا فانهم لم يستسلموا بل كانت الافكار النسطورية
واليعقوبية قوة دافعة لهم لمقاومة الاحتلال السياسي والديني؛ وعلى حد
تعبير المؤرخ البرفسور جون جوزف (وهو سرياني نسطوري مقيم في امريكا)
بقوله: "ان المسيحيين السريان الآراميين تحدّوا
الكنيسة الرومانية الاغريقية في سوريا باسم النسطورية واليعقوبية"،
انظر كتابه:
John Joseph,
Moslem-Christian Relations and Inter-Christian Rivalaries in the
Middle East, New York 1983, page 9.
(مقدمة:
تحدثنا في الجزء الاول من هذه المقالات عن الوضع
السياسي العام في الشرق الاوسط عندما ظهرت تعاليم الديانة المسيحية
وانطلاقتها الاولى، وتحدثنا عى الصراع بين الفرس والرومان واثره السلبي
على السريان وعن الاضطهادات العنيفة التي واجهها المسيحيون في فارس.
وفي الجزء الثاني تحدثنا عن الكنيسة بين القرن الخامس والسابع وعن بعض
الاشخاص السريان الذين ساهموا في احلال السلم بين الفرس والرومان؛
وتحدثنا عن مجامع الكنيسة التي ساهمت في تنظيم الكنيسة وتحديد سلطة
كراسيها المطرانية والاسقفية)
الكنيسة
السريانية الشرقية تحت حكم العرب المسلمين
المسيحية السريانية بين
القبائل العربية قبل الاسلام:
كانت المسيحية السريانية منتشرة بين مختلف القبائل
العربية في الجزيرة العربية وأطرافها. وكانت الدول العربية المتمدنة
قبل الاسلام كدولة الغساسنة في جنوب سوريا ودولة المناذرة في جنوب
العراق تدين بالمسيحية المرتبطة بالكنائس السريانية. وكانت هنالك
مجتمعات مسيحية عدة في الجزيرة العربية بين مختلف القبائل، وذلك قبل
قيام المذهب النسطوري. فمنذ بداية القرن الثالث كان هنالك اسقفية في
بيث قطرايى
ܒܝܬ ܩܛܪ̈ܝܐ
إزاء البحرين. وقد انتشرت المسيحية بين قبائل حِمْيَر وغسان وتغلب وبني
عقيل وبني شيبان (ثعلبة) وبني بكر بن وائل وتنوخ وطي وقضاعة وغيرها
بفترة طويلة قبل الاسلام، ويذكر المؤرخ سوزمن (Sozomen,
VI, 38) أن ملكة عربية مسيحية تدعى ماوية
(ربما مارية) استقدمت اسقفاً كي يرعى شؤونها وعشائرها المسيحية.
يُعتقد ان المسيحية السريانية النسطورية وصلت الى
الجزيرة العربية على يد المسيحيين السريان النساطرة الهاربين من اضطهاد
شابور الثاني الفارسي (310-379) عند لجوئهم الى الاقاليم المجاورة
لجنوب العراق. وفي القرن الرابع استحدثت عدة كنائس واسقفيات في سائر
انحاء الجزيرة العربية. يحدثنا كتاب الحميريين عن المجازر الفظيعة التي
تعرض لها العرب المسيحيون من نجران وحِمْيَر على يد الملك العربي
اليهودي مسروق عام 523، ما حملهم على طلب النجدة من الحبشة. فيهب
الاحباش المسيحيون لنجدتهم عام 525 ويُهزم مسروق. وفي القرن الخامس كان
هنالك، على ما يُعتقد، ستة مطارنة في الجزيرة العربية والعديد من
الكنائس في اليمن في صنعاء وعدن وظفار. وكان الملك اليمني العربي
المسيحي أبرها الأشرم في النصف الثاني من القرن السادس قد بنى
كاتدرائية في صنعاء وعمل على دعم المسيحية وتنشيطها كثيراً.
الكنيسة تحت الحكم
الاسلامي:
أثناء ولاية الجاثليق السرياني الشرقي يشوعياب
الثاني (628-644) خرج العرب المسلمون من جزيرتهم واحتلوا مدينة الحيرة
عام 635. وعلى اثر معركة القادسية عام 636 واندحار الفرس سيطر العرب
على المدائن عاصمة ملوك الفرس ومركز كرسي الجاثليق السرياني الشرقي.
وقد اعتقد الجاثليق يشوعياب بان سيطرة العرب ليست الا مجرد غزوة، ولم
يعلم ان معركة القادسية كانت مفصلاً تاريخياً في تاريخ العراق لأن
العرب جاؤوا ليبقوا في المنطقة ويصلوا بعدها حتى الى الهند عام 642.
لكنه بعد مرور عدة أشهر أيقن أن كنيسته قد دخلت فعلاً مرحلة جديدة
بعدما أصبحت تحت حكم العرب المسلمين. وسرعان ما وردته الاخبار عن وقوع
كنيسة انطاكية ايضاً في قبضة العرب المسلمين. كان الجاثليق يشوعياب
حذراً من التغييرات السياسية في حدود كنيسته ويتوقع أن يسترد الفرس
العراق. غير ان معركة نهاوند عام 641 كانت المعركة المصيرية والاخيرة
مع الفرس حيث قررت نهائياً مصير دولتهم وتحولها بالتالي الى جزء من
الامبراطورية العربية الاسلامية الجديدة.
لم يكن العرب المسلمون مختلفين كثيراً عن السريان
المسيحيين. إذ قبل ظهور الاسلام كان المسيحيون من العرب تحت ادارة
الكنائس السريانية، وبعد ظهور الاسلام أصبح جميع السريان اتباعاً في
دولة العرب المسلمين. ولغة العرب في الاساس
قريبة جداً من اللغة السريانية الآرامية. ودين العرب الجديد
قائم على تعاليم الايمان بالله كدين السريان المسيحيين. وكانت المسيحية
موجودة في مكّة والمدينة، وحتى أن رسول العرب محمد كان على علاقة طيبة
مع المسيحيين.
بعد حكم الخلفاء الراشيدين الذي استغرق حوالي
الثلاثين سنة من 633 لغاية 661، والحكم الاموي في دمشق ما يقارب
التسعين سنة من 661-750، سيطر العباسيون على الخلافة واسسوا عاصمة
جديدة لهم في بغداد، وقد دام حكمهم خمسة قرون تقريباً من 750 لغاية
1258.
أثناء الاحتلال العربي الاسلامي كانت الغالبية
المطلقة من سكان سوريا والعراق من الآراميين
المسيحيين (السريان): اليعاقبة والملكيين في سوريا، والنساطرة
في العراق. وقد اعتمد عليهم العرب في تسيير دفة حكمهم وخاصة في مجالات
الادارة والشؤون المالية وجباية الضرائب والتجارة ومهام القضايا
العلمية والطبية نظراً لافتقار العرب الى شتى هذه المجالات. وقد حدد
القرآن علاقة الاسلام مع غير المسلمين وخاصة أهل الذمة وأهل الكتاب من
المسيحيين واليهود وغيرهم. وقد فضّل القرآن المسيحيين على باقي الاديان
اذ اعتبرهم أقرب الناس الى الاسلام.
كان سكان البلاد الاصليين من السريان والفرس الذين،
على حد قول المؤرخين قد "حُملوا عن طريق القوة أو الضغط آو الاضطهاد
على اعتناق الاسلام وتمتعوا اسمياً بحقوق الرعوية الاسلامية. وكان
دأبهم ان يلتحقوا ببعض القبائل العربية عن طريق الولاء ليعتبروا من
أفرادها ويحسبوا من مواليها، فعرفوا بالموالي. وشكلوا الطبقة
الاجتماعية الدنيا في المجتمع الاسلامي. ولهذا امتعضوا من وضعهم
وانحازوا الى الشيعة في العراق والخوارج في فارس. وكان منهم من أصبح من
أقوى دعاة دينه الجديد وأشدهم اضطهاداً لأبناء دينه السابق. وعن طريق
هؤلاء الموالي انتقلت ايضاً علوم وفنون وآداب قومهم الى ابناء دينهم
الجديد|" (فيليب حتي، تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، ج2، ص 97-98).
وقد اعتبر القرآن المسيحيين "أهل الذمة" أي أهل
الكتاب وشملهم بالامان في عدة سور قرآنية (مثل سورة التوبة 29، وسورة
البقرة 99، وآل عمران، الخ)، لكن فرضت عليهم ضريبتا الجزية والخراج
المشابهة لتلك التي كان قد فرضها ملوك الفرس على المسيحيين لقاء منحهم
قسطاً من الحرية الدينية.
كان الاسلام بشكل عام دين العرب، لذا أُجبرت
القبائل العربية المسيحية مع مرور الزمن على اعتناقه، فمثلاً ان الوليد
بن عبدالملك قتل أمير قبيلة تغلب المسيحية لامتناعه عن اعتناق الاسلام
(كتاب الاغاني للاصفهاني، ج1، ص 99). وكان المهدي العباسي (775-785) قد
تعجب عندما علم بانه لا زالت هناك قبائل عربية تدين بالمسيحية وتقيم
بجوار حلب، فخيّرهم بين الاسلام والموت، فاعتنقوا الاسلام وهدم كنائسهم
وأحرق كتبهم.
ان وضع المسيحيين كان بشكل سلبي منتظماً الى حد ما
في الدولة الاسلامية الى أن جاء الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز الذي
فرض عليهم قوانين التمييز العنصري المهينة للانسان والمعروفة لدى
الجميع "بالشروط العمرية" الجائرة. كما ان بعض التقاليد السريانية
النسطورية تفيد بأن الجاثليق السرياني النسطوري يشوعياب الثاني كان قد
قابل نبي العرب محمداً فنال منه وثيقة تمنح السريان النساطرة جملة من
الامتيازات، وان الخليفة عمر بن الخطاب قد جدد هذه الوثيقة. إلا اننا
لا نستطيع الاخد بهذا التقليد الضعيف الذي لا يستند الى وقائع ثابتة.
لكن يمكن القول اجمالاً ان معاملة الخلفاء المسلمين للمسيحيين كانت
تقريباً معتدلة الى حد ما وتتسم باحترام رجال الدين، لكن معاملة الحكام
والولاة كانت متقلبة تخضع لأهوائهم ونزواتهم. لذلك كان التعدي على
المسيحيين واضطهادهم والتنكيل بهم يتكرر بين الحين والآخر خلال مسيرة
التاريخ الاسلامي.
ولما كانت القوانين الاسلامية قوانين دينية فحسب
فلم تشمل بالتالي في خصوصياتها غير المسلمين، لذلك بقيت قوانين ونظم
غير المسلمين سارية المفعول بين أهل الذمة. وبموجب هذه القوانين
الاسلامية أصبح المسلمون يمثلون الطبقة العليا في المجتمع بينما غير
المسلمين كانوا يمثلون الطبقة الدنيا. وقد زوّد الخلفاء رؤساء الكنائس
والاديان بوثائق تؤكد سلطتهم الرعوية على رعاياهم وكنائسهم، وبالمقابل
كان هؤلاء يضمّنون وعظاتهم مدح الحكام والاشادة بسياستهم.
لقد اعترف العرب بفوقية الثقافة السريانية العالية
وحاولوا الاستفادة منها في معاهدها العلمية وجامعاتها في جنديسابور
ومرو والرها ونصيبين وقنشرين وغيرها. وليس غريباً ان تكون حاشية أكثر
الخلفاء العلمية والطبية على الاغلب من السريان. ان كتب التاريخ
العربية والسريانية زاخرة باخبار العلماء والادباء السريان (نساطرة
ويعاقبة) الذين ساهموا فعلاً في بناء الحضارة العربية الاسلامية.
(ملاحظة: لأجل فهم الموضوع بشكل كامل ننصحك ايها القارىء اللبيب
بمراجعة الاجزاء الثلاثة الاولى من هذا المقال. كما انني استعملت تسمية
"الكنيسة السريانية الشرقية" لأنها التسمية التي نستعملها في الاوساط
الاكاديمية)
توسع
الكنيسة
السريانية
الشرقية وامتدادها:
التطور
الهيكلي لكنيسة المشرق واستقلالها:
كانت
المسيحية في بلاد المشرق حتى النصف الاول من القرن الخامس قد تأصلت
وتوسعت دون تنظيم هيراركي يدير شؤونها مستقلاً عن انطاكية. لكن منذ
نهاية القرن الخامس بدأت تنظم أمورها في كنيسة خاصة ضمن رقعة الحدود
السياسية للدولة الفارسية. اذ كان هناك ما يقارب الثمانين أبرشية منظمة
يتولاها أساقفة يخضعون إدارياً لستة مراكز متربوليتية، يديرها
المتروبوليت "المطران الحاكم" في المدائن عاصمة الدولة الفارسية.
ونظراً لموقع كرسيه في العاصمة وأهميته فانه ترأس جميع المراكز
المتروبوليتية والاسقفية المذكورة ونال لقب "جاثليق". ويبدو ان هذه
التنظيم الاداري في كنائس المشرق السريانية قد جاء نتيجة المجمع الكنسي
المحلي الاول الذي عقدته هذه الكنائس عام 410 في المدائن برعاية اسحاق
جاثليق المشرق وماروثا مطران ميفرقط، حيث سنّت فيه النظم والقوانين
الكنسية، ودرست وظائف الكهنة وسيامتهم وتحديد مهام الاسقفية، وسلطة
الجاثليق، واعتماد الاعياد المتداولة في كنيسة انطاكية (كتاب المجامع
الشرقية طبعة جان باتيست شابو Synodicon
Orientale, p. 262).
وهناك
بالاضافة الى النظم الادارية التي أقرّها المجمع الكنسي المذكور، فانه
حدد موضوع الايمان ايضاً، إذ وافق على قبول عقيدة الايمان المسيحي التي
نُظّمت خلال المجمعين الكنسيّين المسكونيّين النيقاوي عام 325
والقسطنطيني عام 381. وهكذا اخذت كنيسة المشرق تدريجياً تنتظم إدارياَ
لوحدها بمعزل عن سلطة كنيسة انطاكية. لكن هذه الاستقلال المعنوي عن
انطاكية لم يمنع اساقفة هذه الكنيسة في خلافاتهم مع جاثليقهم من طلب
المساعدة من بطريرك انطاكية، لأنه بنظرهم سلطة عليا نزيهة ومحايدة. لكن
بسبب ضغوطات وممارسات الدولة الفارسية ومنفذيها فان المجمع الكنسي الذي
عقد عام 424 حال دون طلب هذه المساعدات من البطريرك الانطاكي، اذ نصّ
المجمع بعدم الاتصال بأية سلطة خارج حدود كنيسة المشرق تجنباً لغضب
السلطة الفارسية السياسية التي أرادت أن تفهم المسيحيين السريان أنه لا
ينبغي ان يكونوا أصدقاء بيزنطة عدوّة الفرس. وبهذا القرار الذي اتخذ
لاسباب سياسية فقد اصبحت كنيسة المشرق ذات استقلال ناجز تماماً
بأمورها، يديرها رئيسها الجاثليق الذي اتخذ لنفسه بعدئذ اللقب المزدوج
"جاثليق/بطريرك" (Synodicon Orientale, pp.
43-53).
ان تبنّي هذا اللقب ايضاً مؤشر واضح في رغبة هذه الكنيسة باستقلالها
التام.
ولإعلان
المزيد من الولاء لحكّامهم الفرس كان السريان المشارقة قد اتخذوا في
مجمع كنسي عقد عام 486 موقفاً واضحاً وصريحاً ضد لاهوت الغرب (انطاكية)
يدعم
رأي
"البطريرك نسطور" الذي قطعت انطاكية شركته من الكنيسة وحرمته في مجمع
افسس عام 431. لكن رجال اللاهوت في كنيسة المشرق كانوا في الاساس وقبل
ظهور قضية نسطور، على موقف لاهوتي يتّفق مع موقف نسطور. وهكذا فان قطع
العلاقات مع انطاكية كان اسلوباً لنيل رضى الملوك والحكّام الفرس
لإثبات الولاء واخلاصهم لهم من جهة، ولإزالة شبهات السلطة حولهم
باتهامها لهم بانهم يتعاطفون مع بيزنطة المسيحية عدوة الفرس، فاضطروا
للاثبات بانهم يختلفون في ايمانهم المسيحي عن اعداء فارس، فهذه انطاكية
قد حرمت نسطور وهم الان يقبلوه. وأنهم بذلك أوجدوا عامل تفرقة وانفصال
عن اخوانهم في سوريا. فكان ان استقلت الكنيسة السريانية الشرقية نتيجة
لمبدأ الفعل ورد الفعل.
ونظراً لاضطهاد الفكر النسطوري في سوريا فقد لاذَ بالفرار البعض من
معلمي اللاهوت المؤيدين للفكر النسطوري الى بلاد فارس، حيث تجمع فيها
كوكبة من رجال اللاهوت النسطوري الذين أغنوا كنيسة المشرق. فعلى سبيل
المثال كان هيبا الشهير الذي خلف رابولا كمطران على ابرشية الرها عام
435 والمتورط في المجالات اللاهوتية، يعلّم في كلية الرها داعماً
العقيدة النسطورية حتى بعد أن حُرمَ نسطور ايضاً، لانه (اي هيبا) كان
من اتباع ثيودوروس المصيصي الذي اصبحت مؤلفاته اساساً لتطوّر
النسطورية. وقد ساهم "هيبا" في الترجمة الى السريانية كتب اساطين الفكر
النسطوري ثيودوروس المصيصي وديودوروس الطرسوسي وثيودوريطس القورشي
ونسطور، واعتمدت مؤلفاتهم كمواد للتدريس في الاكاديمية السريانية في
الرها. كل هذه الحوادث المقصودة وغير المقصودة أدت في النهاية الى تطور
محلي في الكنيسة الشرقية وعملت على تقوية طابعها وشخصيتها المستقلة
حديثاً. حتى أصبحت هذه الكنيسة مؤسسة تامة بلاهوتها وطقسها وكهنوتها
وادارتها.
أسباب
توسع كنيسة المشرق:
بعد ان انتظم التسلسل الكهنوتي الهرمي بمختلف درجاته بشكل ثابت في
كنيسة المشرق السريانية مع رسوخ العقيدة النسطورية، بدأت الكنيسة تفكر
بتقوية نفوذها العلمي والمعنوي وتوسيع مجال عملها ونشاطها وحدود كرسيها
وابرشياتها. كان هناك جملة عوامل داخلية وخارجية أدّت الى هذا التوسع
والانتشار وأهمها:
-
تجمُّع الكثير من السريان المشارقة الذين اعتنقوا الفكر النسطوري في
الدولة الفارسية (وضمنها العراق الحالي) واستقرارهم بعيداً عن الدولة
البيزنطية، وبعيداً عن انطاكية والقسطنطينية، وبعيداً عن التأثير
اللاهوتي والجدلي اليعقوبي والخلقيدوني، والنزاع الدائر ما بين
الخلقيدوني واللاخلقيدوني، اي أنهم كانوا الى حد ما، في مأمن من
الصراعات الفكرية التي ضربت كنيسة أنطاكية. وخاصة بعدما اغلق
الامبراطور زينون كلية الرها السريانية عام 489 بسبب التعاليم
النسطورية وأنشأ مكانها كنيسة سُميّت "كنيسة والدة الله" لان
النساطرة كانوا يرفضون هذا اللقب للعذراء مريم وكانوا يفضلون بدلا
عنه لقب "والدة المسيح"، وعلى أثر ذلك هاجر الكثير من المعلمين الى
داخل حدود الدولة الفارسية.
-
كانت الرقعة الجغرافية الكبيرة للدولة الفارسية مفتوحة أمامهم
للتبشير والتوسع الكنسي دون عائق أو مانع يحول دون ذلك.
-
كانت "المدائن" (أي سلوقية وقطسيفون) عاصمة الدولة الفارسية، نقطة
التقاء هامة لمختلف شعوب الدولة الفارسية، ومحطة عبور للقوافل
التجارية العديدة القادمة من وسط آسيا والهند والصين، الخ. حيث تعرّف
رجال الكنيسة السريانية الشرقية على تجّار وأغنياء من مختلف بلدان
الشرقين الأدنى والأقصى، ونجحوا في عقد صداقات وعلاقات مودّة مع
الكثيرين منهم أفادتهم أثناء حملات التبشير وخاصة على طريق الحرير
التجاري الشهير.
-
السريان سكان المدن في الدولة الفارسية كانوا من شريحة التجّار
والحرفيين الذين يتمتعون بوضع اقتصادي جيّد قياساً بفئات الشعب
الاخرى. وقد احتلوا مكانة هامة في حياة المدن الايرانية، إذ شكلوا
"تعاونيات" جماعية موحّدة كنوع من التنظيم الصناعي (تشبه نقابات
العمال والتجار والموظفين اليوم)، حيث ترأس كل جمعية تعاونية شيخ أو
معلّم يرعى هذه الحرفة أو تلك. وكانت جمعيات الحرفيين السريان هذه
تقدم الدعم المالي للكنيسة لقاء الرعاية الأدبية والدينية
والاجتماعية التي تقدّمها الكنيسة بدورها لهم. وكان رؤوساء الحرف
والورشات الصناعية الكبيرة وتجّار المدن المنضوية في تلك الجمعيات
التعاونية يضعون تواقيعهم وأختامهم في نهاية محاضر جلسات اجتماعات
الكنسية. وبهذا الدعم المالي كان يسمح بتنفيذ المشاريع التبشيرية
والتوسع.
-
الحماس الشديد لدى السريان المشارقة للإنتظام في سلك الرهبنة
والاخلاص لنظامه المحكم حسب الدرجات الكهنوتية وطاعة الاصغر درجة
للاكبر، والاستعداد النفسي العالي للعمل التبشيري لدرجة التضحية. كل
هذا كان له دوره الهام في توجّه هذه الكنيسة لتوسع نشاط عملها
متجاوزة حدود الدولة، وخاصة ان مجتمعات مسيحية مبعثرة في مناطق نائية
بعيدة كانت موجودة منذ قرون المسيحية الاولى.
-
بعد سيطرة العرب المسلمين على المنطقة، وجد السريان المسيحيون
المشارقة أنفسهم في وضع جديد حرج عليهم التأقلم معه وتطبيع عاداتهم
تبعاً لذلك. فالاسلام تعامل مع السريان المسيحيين على انهم أهل ذمّة،
اي انهم مواطنون من الدرجة الثالثة في المجتمع بعد العرب المسلمين
وبعد الموالي المسلمين. وسنّت قوانين اسلامية، تدريجياً، تمنع
التبشير والعمل على نشر الرسالة المسيحية. لذلك وجدت الكنيسة
السريانية أنها بدأت تخسر مواقعها رويداً رويداً، وتنتقل من كونها
أغلبية ساحقة في العراق لتتحوّل في النهاية الى اقلية. إزاء هذا
الطوق الضارب حول الكنيسة الشرقية، فقد ارادت ان تحوّل البعض من
نشاطها ذاك الى خارج حدود الدولة العربية المسلمة الجديدة، وأن تشرع
في فتح مناطق جيدة تكون مصدر قوة لها.
-
كان اشتغال السريان بالثقافة السريانية خاصة والثقافات العالمية
الاخرى كالفارسية واليونانية وغيرها، قد حمل اكليروسهم ومثقفيهم على
التفكير بالوصول الى مناطق مجهولة بعيدة عن مصادر الثقافات وذلك
لتعليم شعوبها مبادىء الدين الجديد كتابة وقراءة. إذ كان هذا بمثابة
التحدّي بين الثقافة والجهل، حين قبل السريان نداء التحدي النفسي
هذا، في نشر ثقافتهم بين الامم المعدومة الثقافة كبلاد منغوليا.
عمل
الكنيسة التبشيري في الشرق الاوسط وتوزيع كراسيها المطرانية
وصف أحد
المؤرخين الكنسيين نشاط الكنسية السريانية الشرقية التبشيري بقوله:
"كانت الكنيسة السريانية الشرقية الكنيسة الأكثر تبشيراً من كل الكنائس
الاخرى". وقال مؤرخ كنسي آخر: "ان التاريخ الكنسي يمنح لقب "الكنيسة
التبشيرية" الفخري للكنيسة السريانية الشرقية لأنها كانت الكنيسة
الاكثر نجاحاً في القرون الوسطى".
ان
المنطقة الرئيسية الواسعة التي كانت حقلاً للنشاطات التبشيرية
السريانية في آسيا كانت تقع بين نهر أوكسوس
Oxus river
(يسمى
اليوم نهر أمودارياAmu Darya
) وبحر
أورال في الغرب، وساحل الصين شرقاً، وجبال هيمالايا جنوباً، وسيبريا
الجنوبية وبحيرة بلخاش في كازخستان وبحيرة بايكال (في سيبريا الوسطى)
شمالاً. ان هذه المنطقة الشاسعة الارجاء من آسيا، بجبالها وهضابها
وسهولها وصحاريها وأوديتها الخصبة وواحاتها تتطابق اليوم مع الصين
(ضمنها التبت وسينكيانغ) وجمهورية منغوليا والجمهوريات الجنوبية
للاتحاد السوفيتي سابقاً، وخاصة كازخستان وأوزبكستان.
ان
المسيحية
بلونها
السرياني
بدأت
تقتحم
تلك
المناطق
منذ
القرون
المسيحية
الاولى.
يذكر
الفيلسوف"برديصان الآرامي"
الرهاوي
(222- 154
ميلادي)
في
كتابه "شرائع البلدان
ܢܡܘ̈ܣܐ
ܕܐܬܪ̈ܘܬܐ"
(طبعة
هان دريفرس، صفحة 60)
بعض
المجتمعات المسيحية في صفوف الشعب الكوشي عند نهر أوكسوس الاعلى في
الشرق الاقصى. (ان القديس الشاعر مار أفرام يطلق على برديصان لقب
"الفيلسوف الآرامي
ܦܝܠܣܘܦܐ
ܐܪܡܝܐ"
وكذلك يسميه "فيلسوف الآراميين
ܦܝܠܣܘܦܐ
ܕܐܪ̈ܡܝܐ"
لأن السريان لغاية أيام مار أفرام في القرن
الرابع
الميلادي
لم يكن يسمّون أنفسهم ’
سرياناً
ܣܘܪ̈ܝܝܐ ‘
بل ’آراميين
ܐܪ̈ܡܝܐ‘
لكن اليونان كانوا يسمونهم سرياناً،
(للاطلاع
على رأي مار أفرام عن برديصان راجع كتابي الذي صدر لي باللغة السويدية
في ستوكهولم عام 2005 بعنوان "مار افرام: حياته ومؤلفاته").
ويعطينا
التقليد السرياني فكرة عن انتشار المسيحية المبكّر بين القبائل
الجيلانية جنوب غربي بحر قزوين بين قبائل الحاجوج والماجوج. وأنه كان
في بلاد الديلم والجيلان كرسيان أسقفيان. ويذكر الكاتب السرياني توما
المرجي (القرن التاسع) أسماء اساقفة هذين الكرسيّين.
كانت
مدينة مرو منذ العصور المسيحية الاولى أهم مركز تجاري وثقافي ومسيحي
للكنيسة السريانية في جنوب نهر أموداريا، حيث كانت هذه المدينة تعدّ
المحطة الاساسية التي انطلق منها المبشرون السريان مجتازين هذا النهر
حتى وصولهم الى المواقع الهامة بخارى وسمرقند. وقد بشّروا بين الشعب
الصوغدي الايراني الاصل وبين الشعوب التركية القديمة التي استوطنت هذه
المنطقة. وكان ان تنصر البعض من هذه القبائل التركية والايرانية. وفي
القرن الخامس وصل المبشرون السريان الى جزيرة سيلان (سريلانكا) وبلغوا
اليابان وجزيرة جاوا
الإندونيسية. ومن تأثير المبشرين السريان ان استعملت بعض الشعوب
التركية والايرانية والمغولية الابجدية السريانة لكتابة لغاتها حينها.
تُحدِثنا
أعمال المجمع الكنسي المعقود عام 424 عن وجود اسقفيات في مناطق أصفهان،
الري، سجستان، نيشابور، هرات، مرو، أربشار، شوشتار، أصطخر، الخ. وان
الكنسية السريانية الشرقية كانت تضم أثناء عقد أعمال المجمع ستاً
وثلاثين أبرشية بادارة خمس مطرانيات تأتمر برئاسة الجاثليق. وفي اعمال
مجمع عام 554 كان توزيع الكراسي المطرانية
ܡܛܪܦܘܠܝܛܘܬܐ
التي تدير الاسقفيات العديدة على النحو التالي:
1. بيث
هوزايى (خوزستان)
2. نصيبين
3. فرات
ميشان
4. حدياب
5. بيث
غرمايى
6.
ريوأردشير
7. مرو
(أنظر كتاب المجامع الشرقية المذكور سابقاً، صفحة 367).
ويبدو ان
المطران
ܡܛܪܦܘܠܝܛܐ
المقيم في مرو (في تركمنستان الحالية) كان مسؤولاً عن كل اسقفيات الشرق
الاقصى. وفي عام 498، لما خُلع الملك الفارسي المتسامح دينياً قواذ
الاول (488-531) عن عرشه، فرّ الى تركستان مع حاشية تتضمن مطراناً
وأربعة رهبان وشخصين علمانيين. وعى اثرها قامت الحاشية المذكورة
بالتبشير بين الشعوب التركية حينها وحققت نجاحاً كبيراً بعد ان انضم
اليها فريق سرياني نسطوري يضم بعض الكتاب والمعلمين والاطباء، مقدماً
الدعم اللازم لهذا المشروع التبشيري. وتحققت بعض النجاحات في اعتناق
الكثير من الشعب الاويغوري التركي الاصل المسيحية (هناك نقش سرياني ضخم
في سيانفو في الصين يتحدث عى وصول الرهبان السريان الى هناك وعملهم
التبشيري "لقد زرتُ تلك المنطقة منذ حوالي 15 سنة وبحثتُ عن النقش
السرياني المذكور وصورته واجريت عنه دراسة نشرتها حينها). ومن أعمال
المجمع الكنسي عام 605 نعلم عن كيفية توزيع كراسي كنيسة المشرق
السريانية ونعلم ان هنالك مطرانية في أذربيجان. لكن لا تتضمن اعمال هذا
المجمع ذكراً لمطرانيات أو اسقفيات في آسيا الوسطى. ولعلّ مطران
أذربيجان كان المسؤول عن آسيا الوسطى.
عندما
تسلم الجاثليق السرياني يشوعياب الثاني (628-644) رئاسة كنيسة المشرق
خطّط، ولأول مرة لتنفيذ برنامج تبشيري منظّم في الصين.
وفي عام
781 كتب احد ملوك الاتراك الى البطريرك طيمثاوس (778-820) طالباُ منه
ان يعيّن لهم مطراناً ليدير شؤون شعبه التركي الروحية بعد تنصرهم معه.
وكان هذا البطريرك مهتماّ جداّ بمشروع التبشير، إذ ارسل مطارنته
ورهبانه بشكل منظّم جداً لم يسبقه اليه أحد للتبشير في مناطق مختلفة من
الشرق الاقصى. يحدثنا الكاتب السرياني توما المرجي (النصف الاول من
القرن التاسع) عن قيام الجاثليق طيمثاوس باختيار ثمانين راهباً ورسامة
مطارنة وارسالهم بمهمة التبشير الى الشرق. وكان احد مبعوثي الجاثليق
الى هناك ويدعى شوبحاليشوع (المجد ليسوع بالسريانية) يتقن اللغات التي
يتكلمها الترك والتتر وغيرهم. وقد عيّنه طيمثاوس المذكور مطراناً على
تركستان ليتمركز في سمرقند مع أسقفين يخضعان له في كل من بخارى (في
اوزبكستان الحالية) وطاشقند (في تركستان الروسية اليوم).
كانت
الارساليات السريانية تسلك الطريق التجاري القديم المعروف بطريق الحرير
الشهير في عالم التجارة الشرقية القديمة، من بلاد فارس الى مرو، ومن
هناك الى الصين برفقة التجار السريان الذين ساعدوهم في تحقيق رسالة
التبشير. ويحدّثنا توما المرجي عن الاساقفة السريان الذين سافروا برفقة
التجار سالكين طريق تجارة الحرير حيث كان للسريان عليه حركة تجارية
ناشطة مستمرة. إذ أفلح الآراميون المسيحيون،
المشهورون بالتجارة يومذاك، في تأسيس محطات تجارية ومراكز هامة على طول
هذه الطريق. وكان هؤلاء التجار السريان يقومون بتقديم كل المساعدة
والعون لاخوتهم السريان المبشرين في تحقيق رسالتهم. وكان المبشرون
الذين يتوجهون نحو الشرق الاقصى يلتحقون عادة بقوافل التجار السريان
المتّجهة نحو الصين مستخدمين في نفس الوقت تلك المحطات التجارية
السريانية، كمراكز لنشاطهم الديني والثقافي ومنها ينطلقون الى اماكن
أخرى.
ومن خلال
هذه الطريق عبرت الارساليات السريانية وقطعت نهر تاريم ووصلت الى واحة
طورفان في منطقة "أويغور" التركية شمال طريق الحرير حتى وصلت الى منطقة
التبت حيث اعتنق الكثير الدين المسيحي. وفي القرن الثامن والتاسع كان
هنالك مسيحيون عند الحوض الاعلى لنهر الهندوس ازاء المنطقة الحدودية
الحالية ما بية الصين والهند. وقد تمّ العثور على شذرات أدبية مسيحية
قرب بلاييق (Bulayiq)
بين الجدران المهدمة، والتي يعتقد انها آثار دير مسيحي قديم. وكان
لمسيحيي طورفان مركز ديني آخر على الاقل خارج السور الشرقي لمدينة
خوتجو (Idiqulshahri) Khotcho.
وكان هنالك كنيسة صغيرة مزخرفة برسوم جدارية تعود الى عام 900 ميلادي.
ان الآثار
المكتشفة باللغة الصوغدية (من اللغات الايرانية) والاويغورية (لغة
تركية قديمة) تجعلنا نستنتج ان اعداداً من السكان المنحدرين من اصول
ايرانية وتبتية كانوا قد اعتنقوا المسيحية وانهم استعملوا لغتهم
المحلية الى جانب السريانية لغة الطقوس؛ واكتشفت بالسريانية بعض
الكتابات في منطقة القبائل المنحدرة من الاصل التركي والمغولي، من
القرن الحادي عشر لغاية القرن الرابع عشر. وكان المركز الرئيسي
للمسيحيين في اقليم طورفان Turfan
شمالي المدينة القديمة عند سفوح جبال تينسهان
Tienshan.
غير ان طورفان كانت تخضع كنسياً لمطرانية هامي
Hami
أو ربما لمطرانية مدينة "المليق" Almaliq.
ومن الكتابات الادبية والدينية المكتشفة في طورفان كتاباً طبياً باللغة
المحلية لكن بحروف سريانية اسطرنجيلية.
ومن موقع
المراكز الدينية والتجارية السريانية الهامة في مرو، وبخارى، وسمرقند،
تقدم المبشرون السريان النساطرة شرقاً وبشروا بين قبائل التتر التي
اعتنق بعضها المسحية السريانية في القرن العاشر والحادي عشر امثال
قبائل كرايت، وأويغور، ونايمان، وماركيت، فكتب عبديشوع مطران مرو الى
جاثليقه في حدود عام 1077 يبشّره بنبأ تنصير ملك قبائل كرايت المغولية
واعتناقه المسيحية مع مائتي الف من شعبه.
((في هذا الجزء السادس ستتعرف ايها القارىء اللبيب على مدى انتشار رقعة
الكنيسة السريانية الشرقية في اصقاع بعيدة من آسيا الوسطى،
وعلى عدد كراسيها المطرانية حينها والذي بلغ اكثر من
200
كرسي اسقفي منتشرة في مناطق نائية، ربما سمعتَ عنها فقط في كتب
الجغرافيا وتاريخ الجغرافيا. ان هذه الكنسية البطلة تستحق كل اعتبار
وتقدير من القريب والغريب لماضيها العريق. وينبغي ان تكون مصدر فخر
للكلداني والسرياني والآشوري وغيره، ومبعث اعتزاز بتاريخ اجداده
السريان ليسير على خطاهم ويكتشف مجدداً تاريخه الحضاري وتراثه السرياني
المسيحي الغني، فيتعرّف على عظمة اجداده الذين غدر بهم الزمن فدمّر
حضارتهم المسيحية الراقية التي صنعوها، ونكل بالمآثر العظيمة التي
بنوها بعرق جباههم))
المبشرون السريان المشارقة وعملهم التبشيري:
كان
المبشرون السريان المشارقة يتبعون في عملهم التبشيري أسلوباً ناجحاً
جداً، اذ بالاضافة الى التبشير كانت ترافق عملهم جملة خدمات. فكلما
أنشأوا مطرانية جديدة افتتحوا هنالك مراكز ثقافية ومدارس للتعليم
ومكتبات ومشفى لخدمة السكان الدينية والثقافية والطبية. ان ذاك العمل
التبشيري وما رافقته من خدمات والذي قام به المبشرون السريان في القرون
الوسطى سبق في اسلوبه ومجاله الارساليات التبشيرية الكاثوليكية
والبروتستانتية (الاوروبية والاميركية) بعشرات القرون لانها تركز
بدورها على التعليم وتقديم الخدمات الطبية والتعليمية. ان السريان في
القرون الوسطى نالوا شهرة واسعة جداً في مجال التعليم والخدمات الطبية
لابناء قومهم وللشعوب التي عاشوا بينها ومعها وبجوارها. إذ كان
المبشرون/المعلمون السريان منتشرين في كل مكان بين الشعوب التي يبشرون
بينها ويعلموها لرفع مستواها الثقافي ليتمكنوا من دراسة الانجيل والكتب
اللاهوتية كما فعلوا مع المغول مثلاً. وكان هؤلاء الرهبان السريان
الذين اختيروا لمهام التبشير يسيرون وفق منهج موحد بعد ان تحدد مهام كل
واحد منهم ومنطقته ليبدأ بالتعرف عليها وعلى شعوبها، فينطلقون وهم
يحملون في جعبتهم الكتاب المقدس فقط. وكان المبشرون يسيرون على الاغلب
برفقة التجار السريان على طول طريق الحرير القديم مستفيدين من معرفتهم
بالمناطق وخبرتهم في الترحال. وكانوا يعيشون حياة تقشف بسيطة ومستقيمة
ومليئة بالايمان والمحبة والتواضع فيقدمون صورة صادقة جميلة عن السيد
المسيح وكنيسته، لذلك كانت حياتهم المسيحية تترك اثرها الايجابي اثناء
التبشير فيتبعهم الناس وينضمون الى المسيحية.
ان
المكتشفات الاثارية المتأخرة في مقاطعة سميريخنسك
Semiryechensk
في سيبيريا الجنوبية أكّدت بدون شك على ان المسيحيين في تركستان كانوا
باعداد ضخمة لغاية القرن الرابع عشر وان الكثير من القبور المسيحية
المكتشفة بجوار بلدات طوقمق Tokmak
وبشبك Pishpek
قرب بحيرة إسيك كول ، تحمل شواهد بالسريانية تتراوح ما بين عام 1249
وعام 1345، منها قبر يعود الى عام 1255 للخوري أسقف آما
Ama
، وقبر آخر عام 1272 لصاحبه ويدعى زوما Zuma
وألقابه: كاهن وقائد وامير وهو ابن القائد كافارديس
Gawardis،
وقبر من عام 1307 يحمل اسم جوليا زوجة الخوري الاسقف يوحنان. وهذا ما
يكشف عن عدم أخذهم بقوانين تبتّل الاساقفة هناك. ومن الاسماء التي على
القبور أيضاً سبريشوع عام 1315، شليلا 1326، فصوحا عام 1338،...الخ. ان
المقابر المسيحية المكتشفة شمال منعطف نهر هوانغهو
Hwang-Ho
منقوشة بالتركية لكن بعض المقاطع فيها جاءت بالسريانية. أما القبور
التي تعود الى نفس الفترة والمكتشفة قرب بحيرة إيسيكول
Issyk-Kul
وبالاخص في المنطقة التي تشغلها اليوم مدينة آلماآطا
Alma Ata
العاصمة القديمة لجمهورية كازاخستان (قبل انتقال
العاصمة الى آستانا عام 1997) فانها منقوشة بالسريانية بالخط السرياني
الاسطرنجيلي عدا شذرات قليلة باللغة التركية المدونة بالحرف السرياني
(كرشوني). وهذا يكشف بوضوح على ان الاتراك المسيحيين هناك استعملوا
اللغة السريانية لاغراض غير كنسية ايضاً.
ان اللغة
السريانية كانت اللغة الطقسية للكنيسة المسيحية في آسيا الوسطى، حيث
كانت تربط جميع ابرشيات الكنيسة السريانية الشرقية بالكنيسة الام في
العراق. لكن وجدت لغات محلية ايضاً طريقها الى تلك الكنائس لأن بعض
النصوص الدينية السريانية ترجمت الى لغات محلية كالصوغدية والاويغورية.
ان البعثات
الالمانية قد عثرت على شذرات من وثائق ادبية مدونة بسبع عشرة لغة
محلية، وان هذا يكشف عن وجود أثنيات دينية وقومية عديدة مختلفة في آسيا
الوسطى حيث انتشرت الكثير من الافكار الفلسفية والدينية مثل
الكونفوشيّة والطاويّة والبوذيّة والمانوية، والمسيحية والاسلامية،
وغيرها، وكل ينافس الاخر.
لقد أثرت
المسيحية السريانية والثقافة واللغة السريانية في بعض شعوب آسيا الوسطى
الى حد معين، وخاصة في مجال القضايا الكنسية والتعابير اللاهوتية التي
اخذ بها المواطنون المتنصرون واستعملوها، فلا غرو إن وجدنا هناك كلمات
سريانية ذات صبغة دينية متداولة بين المواطنين مثل
ܡܗܝܡܢܐ
"مهيمنا" (مؤمن)،
ܡܗܝܡܢܬܐ
"مهيمنتا" (مؤمنة)،
ܚܣܝܐ
"حسيا" (مطران)،
ܩܫܐ
"قشا" (قسيس)،
ܩܒܪܐ
"قبرا"
(قبر)،
الخ. وحتى المغول الذين لم يدخلوا المسيحية استعملوا بدورهم ألقاباً
وتعابير سريانية تقليدية نحو:
ܡܪܝ
ܚܣܝܐ
"مار حسيا"
(سيادة المطران)،
ܪܒܢ
"ربّان" (ربّان، لقب الرهبان).
ولما
باشرت الكنيسة الكاثوليكية في ارسال مبعوثيها الى تلك الاصقاع كان
المواطنون يخاطبونهم بالالقاب والتعابير السريانية المعتادة لديهم.
وأثناء حكم الخان المغولي العظيم غويوك Guyuk،
مُحب المسيحيين، كان عامة الشعب، على حد قول المؤرخ السرياني المعاصر
لتلك الاحداث غريغوريوس ابن العبري (1226-1286)، يستعملون عبارة
ܒܪܟܡܪܝ
"برخمر" (بارك ياسيدي) في تحيتهم اليومية (تستعمل العبارة اليوم كالقاء
تحية على رجال الدين). ومن الجدير بالذكر هنا ايضاَ، ان الاسماء
السريانية أخذت طريقها مع المبشرين في الانتشار بين الشعوب المسيحية
هناك مثل
ܥܒܕܝܫܘܥ
(عبديشوع)،
ܣܒܪܝܫܘܥ
(سبريشوع)،
ܝܠܕܐ
(يلدا)،
ܕܢܚܐ
(دنحا)، ܩܝܡܐ
(قياما)، الخ.
جدول أبرشيات الكنيسة السريانية الشرقية أثناء انتشارها الكبير:
ندوّن هنا
أسماء الكراسي المطرفوليطية، وكل كرسي مطرفوليطي كان يحكم عدّة ابرشيات
اسقفية. (ان المطروفوليط "أو المطرفوليط، بدون حرف الواو بعد الراء" هو
مطران الابرشية الاعلى والاوحد، وقد يكون في ابرشيته الكبيرة عدة
مطارنة (اساقفة) آخرين يعملوا تحت ادارته في مختلف المناطق من ابرشيته.
ان كنسية المشرق بشقيّها لا زالت تسير وفق هذا التقسيم القديم بين
وظيفة المطرفوليط حاكم الابرشية ووظيفة المطران "الاسقف" التابع
للمطرفوليط).
ويقدّرعدد
تلك الكراسي المطرفوليطية في القرن الثالث عشر بــ 25 كرسياً
مطرفوليطياً، وكل كرسي منها يضم عشر ابرشيات اسقفية يبلغ مجوعها ما بين
200- 250 ابرشية ، وتتوزع على النحو التالي:
1- الكرسي
البطريركي، ويلتحق به مطرفوليط كشكر، ويتبعه أحد عشر مطراناً يقيمون في
كل من الحيرة، والانبار، وكرخا، وبوازيخا، وبداريا، وطيرهان، وكوسرا،
واوكبارا، وواسط، ورادا، ونفارا.
2-
مطروفوليط جنديسابور، ويتبعه مطارنة سوسة، وأهواز، وسوستر.
3-
مطرفوليط نصيبين، ويتبعه مطارنة باكردا، وبَلدا، وارزون، وغسلونا،
وماردين، وآمد (دياربكر)، وميفرقط، وحران، والرقة.
4- كرسي
تِرِدون،
ويضم
مطروفوليط البصرة ومطارنة أوبولا، ودستانا، ونهر المرا.
5-
مطروفوليط الموصل، ويتبعه مطارنة نينوى، وبيث باغاس، والحديثا،
وداسينا، ونوهدرا، وارميا.
6- كرسي
حدياب، ويشمل مطروفوليط أربيل، ومطارنة معلتا، وزوعبيا، وكفتون.
7- كرسي
بيث غرمايى، ويضم مطروفوليط كرخا، ومطارنة دكوكا، وبوازيخا.
8-
مطروفوليط حلوان ومطران حمدان.
9- كرسي
فارس (برسيس)، ويشهمل مطروفوليط راوردشير، ومطارنة شيراز، وشابور،
وأصطخر، وجزر سوقطرة، وقطارا، ومسميغ، ودرين، وهرموز.
10- كرسي
خراسان، ويشمل مطروفوليط مَرو، ومطران نيشابور.
11- كرسي
أتروباتن، ويضم مطروفوليط تاوريسيوم، ومطارنة مراغة، وأخلاط.
12-
مطروفوليط هرات، ومطران سجستان.
13- كرسي
أران، ويضم مطروفوليط بُردعة.
14-
مطروفوليط منطقة الري Rayy
بالاضافة الى مطران أصفهان.
15- كرسي
ديلم، ويضم مطروفوليط مُكَر.
16- الهند،
وتضم عدة كراسي مطروفوليطية وكل كرسي منها يضم عدة مطرانيات.
17- الصين،
وتضم عدة كراسي مطروفوليطية في سيانفو وعدد معين من الكراسي المطرانية.
18-
تركستان، وتشمل عدة كراسي مطروفوليطية في سمرقند وعدد من الكراسي
المطرانية.
19-
مطروفوليطية دمشق.
20- القدس،
استحدثت ابرشيتها المطرانية عام 835 ثم ارتفعت لأبرشية مطروفوليطية عام
1065.
(الامبراطور
يأمر باطلاق التسمية السريانية على الكنيسة في الصين)
المسيحية السريانية في الصين:
تذكر بعض التقاليد السريانية عن قيام توما الرسول بالتبشير في الصين
ودخول الصينيين في الدين المسيحي، لكننا لا نستيطع الاخذ بهذا التقليد
لضعفه. لكن وصول السريان الى الصين بعدئذ وتبشيرهم بالدين المسيحي
حقيقة ثابتة.
ان الطريق
الذي سلكه المبشرون السريان الى الصين كان طريق الحرير التجاري الشهير
في عالم الشرق القديم كما ذكرنا سابقاً، إذ سلكه هؤلاء من فارس الى
مرو، ومنها الى الصين برفقة القوافل التجارية السريانية. وكانت المحطات
التجارية السريانية المنتشرة على طول هذا الطريق قد استخدمها المبشرون
السريان كمحطات دينية وثقافية ايضاً. وفي حدود عام 578 ميلادي حلّت
عائلة مار سركيس السريانية في لينتاوكانسو
Lin-ta, ao, kan-su
في الصين.
ان اقدم
وثيقة مدوّنة عن تبشير السريان في الصين تعود الى عهد رئاسة الجاثليق
السرياني يشوعياب الثاني (628-643). وهذا واضح من خلال نصب اثري صيني
وسرياني عظيم اكتشفه المبشرون اليسوعيون عام 1625 في سيانفو عاصمة
سلالة تانغ الملكية الحاكمة آنذاك مقاطعة شنسي
Shensi
في وسط الصين. ان هذا النصب التذكاري يحمل كتابة بالسريانية والصينية،
ويخبرنا عن وصول رهبان سريان الى الصين في عام 635 ميلادي.
وقبل نهاية القرن السابع كانت المسيحية قد انتشرت في عشر مقاطعات في
الصين. ولقد تم اكتشاف آثار أخرى تشهد بدورها عن النشاط التبشيري
السرياني في شانسي وفي شِنسي. ويخبرنا توما المرجي بان الجاثليق
طيمثاوس الاول (780-820) قد رسم مطرفوليطاً للصين اسمه داويد.
لكن في القرن التاسع عانى المسيحيون النساطرة في الصين مع سائر
الاديان الاخرى وتعرضوا الى سلسلة اضطهادات، وذلك عندما أصدر
الامبراطور ووتسونغ (840-846) مرسوماً ملكياً يقضي بوجوب عودة الرهبان
والقساوسة الى الحياة المدنية، وطرد الرهبان الاجانب من الصين.
إلا انه رغم انحدار المسيحية كثيراً في الصين والتيبت وبين مختلف
القبائل التركية المغولية، نتيجة لهذا الامر، الا انها لم تختفي
نهائياً من الصين، بل عادت بعد حوالي قرنين لتنتشر بين عدة قبائل
مغولية في جنوب بحيرة بايكال، حيث تحولت تلك المنطقة الى معقل كبير
للمسيحية السريانية.
ان عدم انقراض المسيحية في الصين واضح من بعض الاشارات والملاحظات في
المصادر السريانية والصينية والعربية. فمثلاً يخبرنا شاعر ايراني في
بلاط الدولة لدى نصر الثاني أحمد البخاري (913-942) بأنه سافر عبر
الصين وسجّل مشاهداته هناك وانه قابل مسيحيين ورأى عدة كنائس في عدة
مدن صينية.
ونعلم
بانه في عام 1093 قام البطريرك سبريشوع الثالث بتعيين المطران كوركيس
لمنطقة سِستان ومن ثم نقله الى كرسي خطاي في شمال الصين. كما شارك في
حفلة تنصيب البطريرك دنحا الاول (1265-1281)
في المدائن مطرانٌ من الصين هو يوحنان مطران ابرشية هامي أو قامول. وفي
تلك الفترة كان هنالك ثلاث كنائس نسطورية في مدينة يانغتشاوفو، وزعيم
مسيحي نسطوري يدعى مار سرجيوس كان حاكماً لاقليم كيانغسو في الصين.
ونعلم بانه كان مقرباً كثيراً من الملك الصيني المغولي العظيم قوبلاي
خان (1259-1292)، وفي عام 1278-1280 كان قد بنى حوالي سبعة اديرة.
ويحدثنا
المبشرون والرحالة الاوروبيون الى الصين مثل ماركو بولو عن مشاهداتهم
للمسيحيين وكنائسهم هناك. وكانت المسيحية السريانية النسطورية قد وصلت
الى الكثير من المناطق النائية الاخرى ايضاً مثل جزيرة سوقطرة في
المحيط الهندي. إذ نعلم أن مطرانها المدعو قرياقس كان حاضراً في حفل
تنصيب البطريرك المغولي الصينيي النسطوري ياهبالاها الثالث في بغداد
عام 1282
بطريركاً عاماً على الكنيسة السريانية الشرقية.
وصف
النصب التذكاري الصينيي السرياني في سيانفو:
(قمتُ بزيارة الى الصين لأول مرة عام 1990 بحثاً عن هذا النصب الاثري
السرياني لدراسته؛ وبعد جهد جهيد عثرتُ عليه في منطقة سيانفو
"الفقيرة"، ووجدته مهملاً في متحف مكشوف يشبه مقبرة كبيرة جداً ولا أحد
هناك يعرف قيمته فتألمتُ لذلك، لأن الشعب الايغوري الساكن في منطقة
النقش مسلم وربما لا تهمه الاثار المسيحية، رغم ان معظم الايغوريين
كانوا مسيحيين قبل تحولهم للاسلام. فاتصلتُ بالمسؤولين حينها لألفت
نظرهم الى هذا الاثر المهم جداّ للاهتمام به. شاهد صورة النقش في
الاسفل!)
النصب
عبارة عن حجر اسود ضخم مستطيل الشكل، ارتفاعه حوالي ثلاثة امتار، وعرضه
حوالي المتر، وسماكته حوالي 30 سم. وهو من حجر كلسي اسود يُعتقد بانه
اقتلع من مقلع الحجارة الشهير فو بينغسين
Fu-Pinghsien.
(لا زالت الصين من الدول الشهيرة في تصدير انواع الحجارة الجميلة
المستعملة في البناء)
النصب منقوش على الاغلب باللغة الصينية وقليلاً بالسريانية. وسريانية
النقش هي بخط اسطرنجيلي جميل جداً. وفي قمة النصب هنالك صليب يشبه صليب
ميلابور القديم في مدينة مدراس بالهند حيث دفن مار توما الرسول. وعلى
النصب نقوش: صليب موضوع فوق غيمة وزهرة اللوتس، (ان الغيمة هي رمز
الديانة الطاوية ووزهرة اللوتس رمز الديانة البوذية، وهذا يرمز الى
فوقية المسيحة على هاتين الديانتين)، كما هناك أغصان شجرة.
ومن النقش
نعلم ان Alopen
"ألوبن" حمل بشارة الانجيل الى تشانغم
Changam.
وان الامبراطور تاي تسونغ (627-650) أرسل وزيره دوكفانغ هسوان
لينغ Duke-Fang Hsuan-Ling
مع حرس الشرف لاستقبال الزائر الكريم. وقام الامبراطور شخصياً
باستقباله عام 635، وبناء على طلبه ترجم الانجيل الى اللغة الصينية،
وسمح بالتبشير في الصين.
وفي عام
638 ميلادي أصدر الامبراطور منشوراً ملكياً في تحبييذ الدين المسيحي
والسماح بنشره في دولته. وبعد ثلاث سنوات صدر مرسوم يقضي ببناء دير
لهذا الرجل المقدس "ألوبن" ولعشرين راهباً معه. وقد ورد هذا الاسم
مدوناً في الجزء الثالث من موسوعة كامبريدج لتاريخ الصين بصيغة "روبن"
Reuben.
أكتشفت لوحة سيانفو عام 1625 في الصين. وكانت الكنيسة النسطورية قد
نصبتها هناك عام 781 في موقع اكتشافها الذي كان باحة دير نسطوري، وذلك
على عهد البطريرك السرياني النسطوري حنانيشوع كما ينص، (لكن البطريرك
حنانيشوع كان قد توفي قبل حوالي سنتين في بغداد عام 779 دون ان يعلم
اتباعه في الصين بموته حينها). وقد نصب النقش ليخلّد اخبار البعثة
التبشييرية السريانية لعام 635 ميلادي. ومن المحتمل ان الجماعة
المسيحية في مقاطعة سيان كانت قد خبأت هذه اللوحة وطمرتها في الارض
اثناء الاضطهادات بهدف انقاذها من الدمار في القرن التاسع أو العاشر
الميلادي.
تعتبر هذه اللوحة احدى المصادر الرئيسية عن تاريخ الكنيسة النسطورية
في الصين. عندما وصل الرحالة الايطالي الشهير ماركو بولو الى الصين عام
1279 لم يك هناك وقتذاك احد يعلم شيئاً عن هذه اللوحة. وحتى المؤرخ
السرياني غريغوريوس ابن العبري (توفي 1286) الذي كانت تربطه علاقات
طيبة مع بعض ملوك المغول وحل لديهم عدة مرات كطبيب واسقف، لم يك يعلم
اي شيء عن هذه اللوحة.
وعندما وصل خبر اكتشاف اللوحة عام 1625 الى اوروبا، خلق في الاجواء
العلمية الاوروبية حينها شعوراً بالفضولية للتعرف عليها، وحمل العلماء
ورجالات الكنيسة الكاثوليكية على الاهتمام بالكنائس السريانية الشرقية
وتاريخا، وازدادت رغبتهم لربط هذه الكنائس تحت سلطة البابا. كما ان
اكتشافها خلق جوّاً ايجابياً لصالح المسيحية في الصين واصبح عاملاً
مساعداً للمبشرين الاوروبيين، فازداد عدد الصينيين الذين اعتنقوا
المسيحية.
يبدو ان
الغاية من تشييد هذا النصب الاثري كانت لارضاء فضولية زوّار الدير.
ويتضمن نقش اللوحة معلومات عن ممتلكات الكنيسة السريانية النسطورية في
الصين بين عامي 638-781، وعرضاً موجزاً لبعض العقائد المسيحية
الاساسية. ان الذي صنف هذا النقش وشيده هو راهب نسطوري يحمل اسماً
صينياً تشينغ تشينغ Ching-ching،
لكننا نفهم من القسم السرياني للنقش بان اسمه السرياني كان "آدم"،
وبانه كان مطرفوليط (المطران الحاكم) الصين.
أستهل نقش
سيان المذكور بالجملة الصينية التالية: "دُوِّن من قِبل الراهب تشينغ
تشينغ من الدير السرياني". ثم تتبعها الجملة السريانية
ܐܕܡ
ܩܫܝܫܐ
ܘܟܘܪܐܦܝܣܩܘܦܐ
ܘܦܦܫ
ܕܨܝܢܣܬܢ
"آدم
قس ومطران صينستان (اي الصين)". ان الملاحظات السريانية في نهاية النقش
تشير الى رجل يسمى آدم وان جد آدم الذي مات عام 781 واسمه ميليس، كان
قساً في مدينة بلخ في الاقليم الفارسي طخارستان، وكان ابوه والمسمى
يزدبوزيد Jazedbouzid
على ما يبدو اسقفاً لمنطقة تشانغان عام 781 وهو الذي قام بتسديد تكاليف
تشييد النقش المذكور (ان اسم الاقليم الفارسي "طخارستان" ورد في
السريانية بصيغة
ܛܚܘܪܣܬܢ
بالحاء "طحارستان"، وهذا يدل على ان كاتب النقش كان يتكلم الارامية
المحكية الشرقية التي تسمى السورث، والتي في احد فروعها تُلفظ الحاء
خاءً).
وفي اسفل
الوجه الامامي من النصب وتحت الكتابة الصينية هناك كتابة سريانية في
عواميد تقرأ من اليسار الى اليمين، وهي:
ܒܫܢܬ
ܐܠܦ
ܘܬܫܥܝܢ
ܘܬܪܬܝܢ
ܕܝܘ̈ܢܝܐ:
ܡܪܝ
ܝܙܕܒܘܙܝܕ
ܩܫܝܫܐ
ܘܟܘܪܐܦܣܩܘܦܐ
ܕܟܘܡܕܢ
ܡܕܝܢܬ
ܡܠܟܘܬܐ:
ܒܪ
ܢܝܚ
ܢܦܫܐ
ܡܝܠܝܣ
ܩܫܝܫܐ
ܕܡܢ
ܒܠܚ
ܡܕܝܢܬܐ
ܕܛܚܘܪܣܬܢ؛
ܐܩܝܡ
ܠܘܚܐ
ܗܢܐ
ܕܟܐܦܐ
ܕܟܬܝܒܐ
ܒܗ
ܡܕܒܪܢܘܬܗ
ܕܦܪܘܩܢ
ܘܟܪܘܙܘܬܗܘܢ
ܕܐܒܗ̈ܝܢ
ܕܠܘܬ
ܡܠܟ̈ܐ
ܕܨ̈ܝܢܝܐ؛
وترجمتها:
"في سنة
1092 يونانية (تعادل سنة
780/781
ميلادية) أقام سيدي يزدبوزيد قس ومطران العاصمة كومدان، ابن المرحوم
القس ميليس من مدينة بلخ في طخارستان، وشيّد هذا النصب الحجري الذي
دوّنت فيه سيرة مخلصنا وكرازة ابائنا الى الملوك الصينيين".
(ملاحظة:
ان استعمال طريقة التأريخ السرياني في النقش والمستند على اساس يوناني،
إثبات على ان الذين قاموا بتشييد النصب كانوا سرياناً من الشرق الاوسط،
وإلا لاستعملوا التأريخ الصيني وليس السرياني. تبدأ سنة التأريخ
السريانية منذ عام 311/312 قبل الميلاد. وقد استمر استعمال هذا التاريخ
لدى كل الطوائف السريانية لغاية بداية القرن العشرين حين استعيض عنه
بالتقويم الميلادي. الا ان الكنائس السريانية المنضمة الى روما كانت قد
تعلمت استعمال التقويم الميلادي من روما منذ حوالي القرنين من الزمن)
وتتبع
في النقش الاسماء التالية: الرهب لينغفاو، الشماس آدم ابن الاسقف
يزدبزيد، القس والاسقف مار سركيس. وتليها الجملة السريانية:
ܓܒܪܐܝܠ
ܩܫܝܫܐ
ܘܐܪܟܕܝܩܘܢ
ܘܪܫ
ܥܕܬܐ
ܕܟܘܡܕܢ
ܘܕܣܪܓ
"كبرئيل، قسيس وأرخدياقون ورئيس كنيسة كمدان وسرغ".
وعلى الجهة اليسارية من النصب وفي السطر الاول نقرأ الاسماء التالية:
مار يوحنا ’مطران‘، اسحق ’قس‘، يوئيل ’قس‘، ميخائيل ’قس‘، كوركيس ’قس‘،
مهداد غوشناساب ’قس‘، مشيحاداد ’قس‘، أفريم ’قس‘، ابي ’قس‘، داويد
’قس‘، موسى ’قس‘".
وترد مجموعة اخرى من الاسماء في السطور الاخرى. وتبلغ اسماء المبشرين
السريان المدونة في اسفل النصب 128 اسماً ومعظمها اسماء سريانية شرقية
مسيحية صرفة.
صورة
النصب الصيني السرياني:
الامبراطور
يأمر باطلاق التسمية السريانية على الكنيسة في الصين:
ان التسمية الصينية للديانة المسيحية في النقش وردت بصيغة "التعليم
السرياني المنير". ان هذا التعبير يظهر جليا في عنوان النقش باللغة
الصينية وهو "لوحة انتشار التعليم السرياني المنير في الصين" وكان هذا
هو المصطلح الدارج الذي استعمله الكتاب الصينيون للدلالة على المسيحية
النسطورية في الصين.
عام 745 اصدر الامبراطور الصيني هسوان تسونغ مرسوماً ملكياً يأمر فيه
بوجوب تسمية جميع الاديرة والكنائس في الصين باسم "الاديرة السريانية"
بدلاً من التسمية القديمة "الاديرة الفارسية". ولقد أظهر هذا
الامبراطور مودّة خاصة للسريان النساطرة وفضّلهم حينها على غيرهم من
الاديان لانه على ما يبدو كان يستهدف نيل دعم المسيحيين في المناطق
التي كان يحكمها المسلمون.
يقول نص المرسوم الملكي:
"عندما شيدتْ الاديرة سميناها في البداية "الاديرة الفارسية"، ولكي
يُعرف أصل هذه الاديرة المسماة "فارسية" فاننا نسمي الان هذه الاديرة
في العاصمتين "بالاديرة السريانية". ان هذه التسمية ينبغي ان تطلق على
الاديرة في جميع المقاطعات والاقاليم الاخرى"
.
إن اصدار
هذا المرسوم الملكي جاء نتيجة لعمل الارسالية التبشيرية السريانية
النسطورية التي وصلت من العراق الى تشانغان عام 744 واستقبلها
الامبراطور الصيني بحفاوة. لقد سُميت الاديرة في البداية بالفارسية لان
الكنيسة السريانية الشرقية (النسطورية) كانت تسمى ايضاً "بالكنيسة
الفارسية" حيث كانت منتشرة حينها ضمن حدود الدولة الفارسية كما شاهدنا
في الاجزاء الماضية من هذا المقال. لكن عندما احتل العرب بلاد فارس في
القرن السابع وانهيار الدولة الفارسية وزولها وتحولها الى جزء من
الامبراطورية العربية المسلمة، اصبح السريان المشارقة رعايا في الدولة
العربية المسلمة، بعد ان كانوا من رعايا الدولة الفارسية. وبزوال
الدولة الفارسية زال الاسم الفارسي السياسي والجغرافي
Toponym
من الكنيسة السريانية الشرقية، لكن بقي فيها اسمها
الاصلي "القومي" فقط، أي السرياني، وذلك على اسم شعبها السرياني الذي
كان يشكل الغالبية الساحقة فيها. لذلك أمَرَ الامبراطور الصيني هسوانغ
تسونغ، وربما بناء على طلب السريان، ان تسمى الكنيسة النسطورية في
دولته على اسم شعبها السرياني اي "الكنيسة السريانية".
راهب
صيني يصبح بطريركاً على الكنيسة السريانية الشرقية:
وفي نهاية
القرن الثالث عشر يقع حدث فريد وهام للغاية في تاريخ الكنيسة السريانية
الشرقية فيحولها الى كنيسة عالمية، إذ ارتقى ولأول
مرة في التاريخ راهب مغولي صيني الى الكرسي البطريركي باسم ياهبالاها
الثالث (1281-1317)؛ وكان البطريرك دنحا الاول قد رسمه سابقاً
مطرفوليطاً على خطاي ووانغ (أي ابرشية الصين)، وعيّن الراهب الصيني
المغولي الناسك الربّان صوما زائراً عاماً للمجتمعات المسيحية في الشرق
الاقصى.
أثناء فترة بطريركيته عاصر البطريرك ياهبالاها الثالث ثمانية ملوك
مغول وقام برسامة 75 مطراناً. وكان قد عهد الى صديقه الصيني المغولي
الراهب الناسك الربان صوما المولود في خانبليق (خانبليق هو الاسم
المغولي للعاصمة بكين) بمهة سفير، وارسله عام 1285 بمهمة دبلوماسية
خطيرة ممثلاً كنيسته والدولة المغولية الى كل من القسطنطينية وروما
وباريس وغيرها، حيث اجتمع الى الامبراطور البيزنطي أندريكوس الثاني
(1282-1328)، وفيليب الرابع ملك فرنسا (1285-1314)، وإدوارد الاول ملك
انكلترا (1239-1307)، والبابا نيكولاس الرابع (1288-1292).
(المغول يحتفلون برأس السنة السريانية)
المسيحية السريانية بين المغول والاتراك:
في بداية
القرن الثالث عشر يظهر جنكيزخان المغولي على الساحة ويؤسس دولته جنوب
بحيرة بايكال حيث تقطن قبيلة كيرايت المسيحية التي تربى فيها وهو طفل
يتيم. وكان امير قبيلة نايمان المغولية قد اعتنق الديانة المسيحية في
بداية القرن الحادي عشر، وكذلك انضمت الى المسيحية قبائل مركيت وأوبرات
المغولية. ويقوم جنيزخان بتوحيد هذه القبائل المغولية-التركية المسيحية
تحت امرته، فتشكل نواة الامبراطورية المغولية التي هزّت العالم بعدئذ.
وعندما نقل امبراطور المغول الاعظم قوبلاي خان (1259-1294) مركز دولته
من قراقوروم (عاصمة المغول) الى خانبليق (بكين) فتح الباب ثانية على
مصراعيه لانتشار المسيحية في الصين مجدداً في النصف الثاني من القرن
الثالث عشر.
كانت
المرحلة الاولى من المسيحية في الصين تتمثل بوجود رهبان واكليروس
سرياني، أما المرحلة الثانية فتتميز بوجود شعب مغولي- تركي مسيحي يشكل
الطبقة الحاكمة في الدولة.
لقد
ازدهرت المسيحية تحت سلطة المغول في كل مكان، إذ توفرت الحماية والامن
للمراكز السريانية التجارية الثقافية الدينية المنتشرة على طول طريق
الحرير التجاري، فقويت العلاقات بين الكنيسة المحلية هناك مع الكرسي
البطريركي في بغداد. وازدهر التبشير مجدداً وخاصة في القرنين الثالث
عشر والرابع عشر.
لكن عندما
سيطرت سلالة مينغ على الصين، بعد انتزاعها الحكم من خلفاء قوبلاي خان
عام 1369، قامت بإثارة موجة من الاضطهادات ضد الاديان الغريبة. وفي
بداية القرن التالي تنحدر المسيحية كثيراً في الصين. ويقوم بعدها
تيمورلنك المسلم المتعصب بتوجيه الضربة القاضية لسحقها تماماً هناك.
نجح
المبشرون السريان في عملهم التبشيري في نشر مبادىء الديانة المسيحية
بين قسم كبيرمن القبائل المغولية-التركية. ونتج عن هذا تأسيس كنائس
سريانية مغولية تركية وصينية في الشرق الاقصى، وعدة ابرشيات مطرفوليطية
واسقفية يسوسها غالباً مطارنة واساقفة سريان، وكانت الكنيسة السريانية
الأم ترسلهم لقيادة الكنيسة في تلك الاصقاع ونشر التعاليم المسيحية
بطابعها السرياني النسطوري، وتقوية روابط الكنيسة الأم مع ابنتها كنيسة
منغوليا والصين.
وقد نجح
الرهبان والمبشرون السريان في نقل المسيحية السريانية الى بيوت المغول
والعائلات الملكية الحاكمة، وكان بعض ملوك المغول قد احاطوا أنفسهم
بحلقة من الرهبان السريان الذين يؤدون لهم مختلف الخدمات ويقومون
بتهذيب وتعليم ابنائهم. فأصبح المغول بذلك تابعين للسريان دينياً
وكنسياً وحتى ثقافياً ضمن امبراطورية كنسيّة سريانية واسعة الارجاء.
ان القبائل
المغولية-التركية الشهيرة التي اعتنقت المسيحية على يد الرهبان السريان
المشارقة هي: كيرايت، مركيت، أونغوي، أوبرات، ونايمان، وكانت القبائل
الاكثر تمدناً بين المغول حيث شكلت العمود الفقري في دولة جنكيزخان
المغولية. وكان جنكيزخان قد تربى منذ طفولته في بلاط أحد الامراء
المغول المسيحيين، حاكم قبائل كيرايت المسيحية. وعندما بلغ جنكيزخان
تزوج من أميرة مسيحية مغولية من القبيلة المذكورة.
ملوك المغول يتزوجون من فتيات مسيحيات:
كانت
المرأة في القبائل المغولية المسيحية تتمتع باستقلال واحترام كبيرين من
قبل المجتمع. إذ أن نشاط المرأة المغولية بشكل عام لم يكن مقتصراً على
ادارة الشؤون المنزلية فقط، بل كانت المرأة ترافق الجيش في حملاته
وتهتم بالمحاربين. واثناء المعارك كانت النساء جاهزات في عربات خاصة
بالمعسكرات، استعداداَ للمشاركة في القتال عند الضرورة أيضاً.
وكانت
الفتيات المغوليات المسيحيات تتمتعن بمزايا عديدة وبمنزلة اجتماعية
راقية مما جعل ملوك المغول العظماء يتزوجن منهن. إذ بعد ان تزوج
جنكيزخان باحدهن تزوّج ابنه أوغدي ايضاً فتاة مسيحية من قبيلة مركيت،
وكذلك الامبراطور غويوك بن أوغدي وحفيد جنكيزخان الذي كان مسيحياً
حقيقياً حيث تعمّد وتهذب على يد راهب سرياني، وكان لديه أميران بمرتبة
وزراء يدعى أولهما قداق والثاني جينقاي كانا يهتمان جداً بالمسيحيين.
وبفضلهم زخر قصر الملك غويوك بالمطارنة والاساقفة والرهبان حتى صارت
الدولة المغولية "دولة مسيحية" على حد قول المؤرخ المعاصر ابن العبري.
وارتفع فيها شأن المسيحيين من الفرنج والروس والسريان والارمن وأصبحت
تحية الناس اليومية العبارة السريانية "برخمر"
ܒܪܟܡܪܝ
(باركني ياسيدي).
وكان
الابن الرابع لجنكيزخان والمدعو تولي قد تزوج ايضاً من فتاة مسيحية هي
الاميرة المغولية "سرغوقطني" ابنة حاكم قبائل كيرايت. وكانت هذه
الاميرة على درجة عالية في الذكاء وداهية في السياسية، إذ استطاعت بعد
وفاة الخان غويوك أن تسيطر على الحكم وتضمنه لثلاثة من ابنائها الذين
اصبحوا من اعظم ملوك المغول وهم: مونغا، قوبلاي، وهولاكو. وكانوا اسوة
بوالدهم يحبون المسيحيين، لأنهم أنفسهم كانوا "شبه مسيحيين". وكانت
سرغوقطني هذه تبجّل المطارنة والرهبان وتتقبل صلواتهم وبركاتهم، فكان
أن علا صيتها بين السريان أجمعين. حتى ان معاصرها المؤرخ السرياني ابن
العبري شبهها بالملكة هيلانة والدة قسطنطين الكبير (بداية القرن
الرابع)، ووصفها ذاكراً قول الشاعر:
لو كان النساء كمثل هذه لفضّلت النساء على
الرجال.
وعند وفاة
الاميرة المذكورة بكاها المسيحيون كثيراً وأخذوا يكرّمون صورتها لسنوات
عديدة. وقد سلك ابناؤها نهجها في حبها للمسيحيين والسريان وتكريم رجال
الكنيسة. وقد أكد ذلك الرحالة الايطالي الشهير ماركو بولو الذي كان
يعمل في خدمة ابنها قوبلاي خان العظيم.
وأن
هولاكو، مؤسس الدولة الإلخانية لمغول فارس، تزوج ايضاً من اميرة مسيحية
من قبيلة كيرايت وهي "دوقوزخاتون"، التي قال عنها الهمذاني، بانها عملت
دائماً على مؤازرة المسيحيين وكانت حاضرة معه في احتلاله لبغداد. وان
اباقا ابن هولاكو تزوج من ابنة ميخائيل الثامن باليولوغوس امبراطور
بيزنطة انذك. وكان اباقا هذا يكنّ حباً كبيرا للمسيحيين والسريان.
وكذلك ابنه أرغون حيث فضل المسيحيين في دولته كما فعل والده، وكان قد
خطط لانتزاع القدس من المسلمين.
لكن منذ
ايام الخان غازان الذي اسلم واعترف بالاسلام ديناً رسمياً لدولته، على
خلاف ملوك المغول الذين سبقوه حيث كانوا متسامحين جداً مع كل الاديان،
بدأ اضطهاد المسيحيين، إذ أخذ هذا الخان يعاملهم بقسوة وشدة كما فعل
ابناؤه وخلفاؤه ايضاً من بعده، مع المسيحيين.
مؤثرات سريانية بين المغول:
وبفضل
السريان العاملين في بيوت ملوك وامراء المغول فقد دخلت مؤثرات سريانية
جمة الى لغة المغول وعاداتهم وثقافتهم، منها:
-
استخدامهم التحية السريانية "برخمر"
ܒܪܟܡܪܝ
"باركني ياسيد" كتحية يومية عامة (مثلما تستعمل الشعوب المسلمة التحية
العربية "السلام عليكم").
- تسمية
اولادهم باسماء سريانية مثل "شوبحالماران"
ܫܘܒܚܐܠܡܪܢ،
"قيوما"
ܩܝܘܡܐ،
الخ.
-
استعمالهم الحروف السريانية لكتابة لغتهم ايضاً؛ ولقد خلف لنا المغول
والاتراك بعض الكتابات السريانية على القبور، حيث تكشف عن تبنى المغول
عند منطقة بحيرة ايسيك كول الخط السرياني الاسطرنجيلي في كتابة النقوش
السريانية اضافة الى بعض النقوش التركية، كما ان شعب أونغوت استعمل
الحروف السريانية لكتابة لغته التركية. كذلك ان الحروف الايغورية مشتقة
من الآرامية.
-
استخدامهم الالقاب الدينية المسيحية السريانية التي اتخذها المسيحيون
منهم وغير المسيحيين من المغول، مثل
ܡܪܝ
ܚܣܝܐ
"مار حسيا" (سيادة المطران).
- تبنيهم
التقويم السرياني الشرقي في تأريخ الاحداث والذي يبدأ منذ عام 311 قبل
الميلادي.
- تبنيهم
عادة الاحتفال برأس السنة السريانية الشرقية التقليدية الكائنة في
الاول من تشرين ((تقع رأس السنة السريانية
في الاول من شهر تشرين كل عام؛ ان كلمة "تشرين" بالسريانية تعني
البداية وفيها تقع بداية السنة السريانية. ان السنة السريانية لا علاقة
لها برأس السنة الميلادية التي يحتفل بها العالم ومعهم السريان في 31
كانون الاول. من المؤسف ان الغالبية الساحقة من ابناء الكنائس
السريانية الشرقية والغربية بمثقفيهم وأمييهم وبقياداتهم الروحية
والسياسية لا يعرفون عن تاريخ السريان "الصحيح" وتفاصيل تراثهم
السرياني إلا النذر اليسير، لذلك لا يعرفون اليوم شيئاً عن "رأس سنتهم
السريانية" التي تمسك بها اجدادهم طيلة القرون المسيحية قبل ان يهملها
الزمن وتبقى محفوظة فقط في هيكلية الطقوس السريانية. اليوم نرى بعض
السريان وخاصة النساطرة قد تبنوا "سنة جديدة" استمدوها من تاريخ العراق
القديم، حيث يحتفلون بها في الاول من نيسان أسموها " رأس السنة
الآشورية"، وهذه ايضاً كالسنة الميلادية لا تمت بصلة الى السنة
السريانية التي تمسك بها اجدادهم السريان ونقلوها معهم في حملاتهم
التبشيرية وفرضوها على شعوب آسيا الوسطى ومنهم المغول)).
- احتفالهم
بالاعياد المسيحية وتعطيلهم بها.
- تأثرهم
في فن الرسم السرياني، وخير دليل على ذلك تلك الرسوم الجدارية المسيحية
في واحة طورفان التي تعود الى حوالي عام 900 ميلادي حيث تذكرنا بنماذج
الرسوم المسيحية والبيزنطية القديمة في الشرق الاوسط، وهي مختلفة
تماماً عن اساليب التقاليد الفنية الصينية والهندية والايرانية.
- وقد شمل
تأثير المسيحية السريانية ايضاً البوذيين، إذ اهتم الرهبان البوذيون
بالتراث المسيحي في الشرق الاقصى بعد اندثار المسيحية هناك، واتخاذ بعض
الرهبان البوذيين، لسكانهم ديراً مسيحياً مهجوراً قرب بكين في الصين.
وفي منطقة تونهوانغ في غرب الصين تبنّى الرهبان البوذيون صورة أحد آباء
السريان المشارقة واعتمدوها على انها صورة بوذيساتفا، واهتموا ببعض
النصوص من الادب الصيني المسيحي واحتفظوا بها في مكتبهم الشهيرة.
- نعتقد ان
ثياب الرهبان البوذيين في التبت تحمل بعض المؤثرات من لباس رجال دين
الكنيسة السريانية الشرقية (النسطورية) من حيث زيها وألوانها.
وقد ظهر حب
المغول للسريان اثناء قدومهم للشرق الاوسط، اذ لما افتتحوا بغداد لم
يمسوا اي سرياني باذى إلا في تكريت بعدئذ، بل ان هولاكو قام بتقديم احد
قصور الخلفاء هدية لبطريرك السريان المشارقة ليجعله محل اقامة له. وان
القائد العام للجيش المغولي الذي افتتح دمشق كان مسيحياً نسطورياً يدعى
"كتبوغا". وكانت مدينتا تبريز ومراغة، حيث استقر الخان، عاصمتي الاقليم
الجديد للدولة المغولية الإيلخانية، تعنيان الكثير بالنسبة للمسيحيين
في شمال العراق الذين شعروا الان بان حاميهم أصبح قاب قوسين أو أدنى
منهم.
وكان الخان
غالباً ما يشارك في الاعياد المسيحية بنفسه ويحضر القداس. وقد أجاز
بناء كنسية صغيرة في البلاط الملكي، وأوقف الاوقاف لصالح الكنائس، كما
فضّل المسيحيين على المسلمين في المعاملة. وقد تمتعت الطوائف المسيحية
بعطف الحاكم وتضاعف نفوذهم وخاصة السريان النساطرة واليعاقبة والارمن
وارثوذكس جورجيا. واصبح لهم الحق بالسير في مواكبهم الدينية علناً، وان
يرمموا كنائسهم ويوسعوها. ويشهد ابن العبري المعاصر للأحداث بان الخان
اباقا ابن هولاكو ذهب الى الكنيسة في همذان ليحتفل بالعيد مع المسيحيين
اثناء عيد الفصح.
(الجزء التاسع)
لمحة موجزة عن المغول:
كانت
منطقة غرب وشمال الصين منذ عدة قرون قبل الميلاد مقراً لسكنى شعبين
متقاربين جنساً يعيشان جنباً الى جنب هما الاتراك والمغول. وفي القرنين
السادس والسابع الميلاديين بدأت بعض مظاهر الشخصية التركية تتبلور في
تلك المنطقة وذلك بعد تأثر القبائل التركية بالثقافات الايرانية
والصينية، وبعضها بالثقافة السريانية المسيحية. وكان بعض الاتراك قد
اندفعوا نحو الجنوب الغربي واستقروا في منطقة سميت بعدها باسمهم
"تركستان". وقد أنشأ هؤلاء الاتراك كيانات سياسية مثل دولة كوك ترك
وأويغور، بينما بقي انسباؤهم المغول، ويقال لهم ايضاً التتر نسبة الى
احدى قبائلهم، في حالة ركود في وطنهم تلك الفترة.
كان
المغول منقسمين الى عدة قبائل كبيرة جداً كانسبائهم الاتراك، مثل قبائل
نيمان الاكثر تمدناً بين المغول، وقبائل كيرايت، ومركيت، وقبيلة يورتاس
المتخلفة جداً. وكان معظم هذه القبائل وخاصة قبائل نيمان ومركيت
وكيرايت قد اعتنقت المسيحية على يد السريان النساطرة حيث ساهمت
المسيحية في تحسين وضع المغول الثقافي والنفسي والاجتماعي.
وفي القرن
الثاني عشر بدأت قبائل المغول في التحرك والانتشار والتوسع في معظم
الاتجاهات. وفي هذه المرحلة ظهر الفتى تيموجين الذي لقّب نفسه بعدئذ ب
جنكيزخان، إذ كان يعيش وهو ابن عشر سنوات في بيت امير قبيلة كيرايت
المغولي المسيحي. ولما بلغ جنكيزخان اقترن من اميرة مغولية مسيحية من
تلك القبيلة. واستطاع ان يكسب دعم أمير قبائل الكيرايت ويتزعم قبيلة
مانخول التي ينحدر منها. وقد تمكّن بفضل دهائه السياسي ان يجمع حوله
كوكبة من المخلصين جداً وان يوسع دائرة نفوذه بمد سلطته على رقعة
شاسعة. ثم نجح في توحد القبائل المغولية المسيحية التي اصبحت نواة
دولته المغولية. لذا يعتبر بحق المؤسس الحقيقي للدولة المغولية حيث
استطاع ان يجهزها وينظمها بسن جملة من القوانين التي تنظم علاقة الناس
فيما بينهم وعلاقتهم مع الحكومة من جهة اخرى. وقد عُدّ المشرِّع
القانوني الاول للأمة المغولية لانتشار قوانينه في كل منغوليا، إذ أدان
الجريمة وعاقب المجرمين بصرامة وقسوة، وسنَّ نظاماً محكماً للضرائب
أغنى خزينة الدولة، ونظم البريد بشكل متقدم حتى صار البريد والاخبار
ترد بسرعة مذهلة. ونعلم من سيرة حياة العلامة السرياني غريغوريوس ابن
العبري (1226-1286) بانه كان هناك طرقاً للتنقل السريع خاصة للعاملين
في الدولة يحرسها الجنود، سافر عليها ابن العبري كطبيب يحمل ادوية
لخدمة الملك.
وأخد
جنكيزخان في التوسع نحو الصين وتغلغلت قواته فيها بنجاح باهر. ثم وجّه
اهتمامه نحو الغرب، الى دولة خوارزم شاه القوية، التي تمكن منها
واجتاحها بفضل تفوّق المغول العسكري وانضمام الاتراك الذين يخدمون في
جيوش اعدائه بسبب روابط القربى. واحتل مدن خراسان، مرو، بخارى،
وسمرقند. وكان مصير هذه المدن مروعاً لعدم استسلامها. وكان المغول بشكل
عام شعباً طيباً، بسيطاً، وفياً وكريماً، يعتمد على الثقة بالوعود
الشفهية، فان اعطوا وعداً سينفذوه مهما كلف الثمن. وكانوا قساة جداً مع
الذين يخونونهم أو يتحدونهم، لكنهم كانوا يبجلون العلماء والادباء
والكتاب والفنانين والحرفيين، حيث اهتموا بهم في كل مدينة دانت لهم،
كما انهم كانوا يحترمون النساء والشيوخ والاطفال في فتوحاتهم. إلا ان
المصادر العربية لم تنصفهم بما كتب عنهم.
توفي
جنكيزخان عام 1227 وكان قبل وفاته قد قرر ان تقسم مملكته بين أولاده
الاربعة، مع رغبة ان يمارس أحد ابنائه السيادة على اخوته كحاكم أعظم.
لذا عقدت الجمعية الوطنية العامة (تشبه البرلمان) عام 1229 لاجراء
انتخابات حيث فاز بها الابن "أوقطاي" وتسلم القيادة العامة للدولة
واصبح ملك الملوك، بينما اصبح اخوته الثلاثة الاخرون ملوكاً محليين على
المناطق الجديدة التي اصبحت دولاً مغولية. وكانت الاراضي المغولية
الاساسية قد اصبحت من نصيب الابن الأصغر لجنكيزخان وهو "تولوي"،
والاراضي الواقعة شمال وشمال شرقي نهر جيحون، المعروفة بالمصادر
العربية بـ "بلاد ما وراء النهر"، من نصيب "جفتاي"، وأخذ "جوجي"
المناطق الروسية.
في عام
1236 ميلادي تحركت جيوش مغولية لاخضاع أوروبا الشرقية ووصلت الى
بولونيا وربما البلطيق ايضاً ((يوجد بالقرب
من مدينة لوبلين البولونية موقع يسمى "مّيدانيك"، يُعتقد ان هذا الاسم
هو من البقايا المغولية في بولونيا. كانت القوات النازية اثناء الحرب
العالمية الثانية قد أقامت فيه مركزاً لتجميع اليهود من أوروبا
لابادتهم هناك، فاحرقوا وقتلوا فيه مئات الالاف من اليهود لغاية سقوط
هذا المركز على يد الروس وتحريرهم الاسرى الباقين. ولا زالت بقايا
الضحايا اليهود في "مّيدانيك" مليئة في عدة برّاكاتٍ كبيرة تشهد على
كثرة عدد الضحايا هناك، كما ان افران المحرقة التي حرقوا فيها اليهود
لا زالت قائمة وكذلك غرف القتل خنقاً بالغازات المسمومة. لقد تحوّل هذا
المكان "ميدانيك" الى متحف كبير للزوار، وكنا قد زرناه قبل حوالي 15
سنة فذهلنا بما شاهدناه من آثار المآسي وصعقنا من بقايا جرائم النازية
ضد اليهود، وهذا جلب لبالنا المجازر العديدة التي ارتكبت بحق شعبنا عبر
التاريخ)).
وفي عام
1241 توفي الخان الأكبر أوقطاي في العاصمة قراقوروم فاصبحت زوجته
المدعوة "توراكينا" وصيّة على العرش، وهي أميرة مغولية مسيحية استطاعت
بذكائها أن تؤمن الحكم لابنها "كيوك" الذي أظهر محاباة للمسيحيين طوال
حياته. وكان اختيار كويوك يعني انتصاراً للمسيحيين، غير ان وفاته عام
1248 قضت على آمال وأحلام المسيحييين. وعهد بالوصاية ثانية الى ارملة
الخان الاعظم وتدعى "أوغول جايميش". وتقرر في الانتخاب العام اختيار
"منكو" ابن تولوي، الذي كان ذكياً وداهية في السياسة والادارة. وبفضل
والدته المسيحية انتشرت الديانة المسيحية كثيراً بين المغول. وكان
الخان منكو متسامحاً دينياً كبيراً ففي عهده أخذت الكنائس والمساجد
والمعابد البوذية تتنافس فيما بينهما لكسب المغول الى صفوفها، وكنت ترى
رجال اللاهوت من مختلف هذه الاديان يتناقشون معاً في حضرته، غير ان
الخان الاعظم كان يفضل المسيحية دوماً ويحضر احتفالات المسيحيين في
كنائسهم.
المغول في المنطقة السريانية:
كان
الخليفة المسلم المستعصم بالله (1242-1258) آخر الخلفاء العباسيين ضعيف
الشخصية وسيء الادارة، لذلك كان الوضع الداخلي في العراق مركز الخلافة
يعاني من المشاكل والفتن المذهبية. فالخلاف الاسلامي بين أهل السنة في
بغداد وأهل الشيعة في الكرخ كان عنيفاً للغاية. وكان الخليفة، وهو
الامام الاعلى لجميع اهل السنة، يدعم السنة ضد المسلمين الشيعة، بينما
كان وزيره مؤيد الدين بن العلقمي يدعم الشيعة في هذا الخلاف المذهبي.
لذلك جرت بين الفريقين المتضادين منازعات وحروب، مما حمل الخليفة على
ان يأمر جيوشه بضرب الشيعة في الكرخ، فضربوها ونكلوا بالشيعة وأمعنوا
فيهم قتلاً ونهباً وسلباً. ولم يكن هذا الخلاف السني الشيعي حديثاً، بل
كان قديماً قدم الخلافة العباسية، فمثلاً ان الخليفة المتوكل 851 م كان
قد أمر بهدم قبر الحسين بن علي وان يبذر ويسقي موضعه، وان يمتنع الناس
عن زيارته. ولأن الاضطراب الداخلي في العراق كان كبيراً فقد سبب في
اضعاف الحكم والخلافة مما ادى الى سقوط مركز الخلافة سريعاً عند قدوم
المغول الى العراق.
عندما نزل
العاهل المغولي جنكيزخان في عساكره على مدينة بخارى قال للمشايخ وعلماء
الاسلام: "بان الله ملك الكل وضابط الكل
أرسلني لاطهّر الارض من بغي الملوك الجائرة الفسقة الفجرة"
(لاحظ التعبير المسيحي "الله ضابط الكل"
كما ترد في قانون الايمان المسيحي). ففي عام 1256 بدأ المغول في فرض
سيطرتهم على فارس وأخضعوا طائفة الحشاشين الاسماعيلية الباطنية
المسلمة، وسيطروا على قلاع الاسماعيلية التي بلغ عددها نحو المائة
قلعة. وبسبب العداوة المستحكمة بين السنة والشيعة هلّل المسلمون السنّة
فرحاً لسقوط المعاقل الاسماعيلية المرعبة على يد المغول وخاصة قلعة
"الموت" Almot
الشهيرة. وكان المغول يومئذ يفضّلون الشيعة على السنّة بسبب المظالم
التي كانت تحيق بأهل الشيعة. لذلك قدّر المغول أحد كبار علماء فرقة
الاثني عشرية الشيعية، وهو نصير الدين الطوسي الذي دخل في خدمة المغول
فكرّموه ونال حظوة رفيعة لديهم. وأثناء احتلال بغداد دار التنكيل
بالسنة بينما اعطى المغول الحرية والامان للشيعة لبناء وترميم مساجدهم.
(قبل سقوط صدام حسين القى خطاباً متذكرا فيه احتلال المغول لبغداد 1258
فسمى قوات التحالف "مغول العصر" وقال بانهم سيندحرون امام بغداد).
أما هولاكو
فقد أعلن الحرب على الخليفة المستعصم بالله لأن أهل بغداد اهانوا رسله
الى الخليفة. وان الخليفة رغم ضعف مركزه كان قد رفض الاستسلام
والاعتراف بسيادة المغول عليه، مما اثار غضب هولاكو واعلن الحرب على
الخليفة، فخاف الخليفة وسارع الى مهادنة هولاكو لاسترضائه بان ارسل
وفداً اليه يفاوضه ويستأمن على حياة الخليفة وعائلته ويثنيه عن احتلال
بغداد. وكان الخليفة يدرك مدى علاقة هولاكو بالمسيحيين السريان فاراد
استغلالها. فقرر الخليفة ان يرسل في وفده الى هولاكو بطريرك السريان
المشارقة مكيخا الاول (1257-1265) مع وزرائه ابن العلقمي ونجم الدين
عبدالغني. وانطلق الوفد المذكور الى هولاكو محملاً بالهدايا الفاخرة
والنفيسة، ووعد الخليفة بانه سيذكر اسم هولاكو في خطب ايام الجمعة
وسيدعو له بالصلاة في كافة المساجد. غير ان هولاكو رفض كل ذلك واراد
الانتقام من الاهانة التي لحقت برسله. وكان هجوم المغول على بغداد عام
1258. وأثناء فتح بغداد كانت بعض المجموعات والاقليات في المدينة
تتفاوض سراً مع المغول، وبينهم أفراد الحامية التركية الذين اتصلوا
باخوانهم الاتراك في جيش هولاكو وقرروا عدم مقاتلتهم. وأباد المغول
جيوش الخليفة وذبحوا من أهالي بغداد بالالاف، حتى ان المؤرخين القدماء
قدموا لنا ارقاماً بالغوا فيها كثيراً. ذكر أبو المحاسن ان حوالي
ثمانيمائة الف نسمة قتلوا. وذكر ابو الفداء بان: النهب والقتل استغرق
اربعين يوماً، وبعدها أشعلوا النيران في جامع الخليفة ومشهد موسى
الجواد وقبور الخلفاء. وأضاف الهمذاني: أنهم قضوا على كل فرد وجدوه
حياً من العباسيين.
وكان
اغنياء بغداد من المسلمين يدركون المكانة التي يحتلها السريان لدى
هولاكو لذا سارعوا الى وضع اموالهم أمانه لدى بطريرك السريان النساطرة
لكي لا ينهبها جنود هولاكو، بينما كانت زوجة هولاكو المسيحية
دوقوزخاتون تقوم برعاية المسيحيين في بغداد.
ولما كان
المسلمون من السنّة والشيعة في العراق على خلاف، فقد شارك الشيعة في
نهب بغداد واستفادوا من المناسبات الاخرى لتصفية حساباتهم القديمة مع
أهل السنة المسلمين.
وقضى
هولاكو على الخلافة العباسية في بغداد بقتل المسعتصم بالله آخر الخلفاء
العباسيين وذلك عام 1258، بوضعه في كيس مربوط العنق والقضاء عليه ضرباً
وركلاً بالاقدام حتى الموت. ويخبرنا المؤرخ السرياني المعاصر ابن
العبري بان قتل الخليفة بهذه الطريقة كان بسبب خرافة شائعة بين
المسلمين ومفادها انه اذا اريق دم الخليفة على الارض فستُلعن تلك الارض
ولن ينزل عليها المطر ولن تزهر، لذلك لم يقتلوه بالسيف.
احتلال سوريا:
وتوجه
المغول نحو سوريا الشمالية والداخلية حيث تقع عشرات المدن السريانية
العريقة التي يتولاها حكام مسلمون. وكان المسيحيون في سوريا وفلسطين
وآسيا الصغرى ينتظرون مجيء المغول بفارغ الصبر حتى يتحقق أملهم بتحسين
أحوالهم. وقد أسهموا بالسقوط السريع لكثير من المعاقل في شمال ما بين
النهرين في يد المغول. واستولى المغول على أمد (دياربكر) ونصيبين وحران
والرها (أورفا) وسروج وماردين وميافارقين ومنبج وحلب، منها ما كان
صلحاً ومنها عنوة. وقد أرسل هولاكو رسالة الى الملك الناصر صاحب حلب
يطلب منه الاستسلام، ونظراً لاهمية مضمونها فاننا ننقلها عن المؤرخ
السرياني ابن العبري، ونص الرسالة:
رسالة المغول الى الملك الناصر ليستسلم:
"يعلم
الملك الناصر اننا نزلنا بغداد...، وفتحناها بسيف الله تعالى، وأحضرنا
مالكها وسألناه مسئلتين فلم يجب لسؤالنا فلذلك استوجب منا العذاب كما
قال في قرآنكم ان الله لا يغير حتى يغيروا ما بانفسهم... لأننا قد
بلغنا بقوة الله الارادة، ونحن بمعونة الله تعالى في الزيادة. ولا شك
انا نحن جند الله في ارضه، خلقنا وسلطنا على من حلّ عليه غضبه. فليكن
لكم فيما مضى معتبر، وبما ذكرناه وقلناه مزدجر. فالحصون بين ايدينا لا
تمنع، والعساكر للقائنا لا تضر ولا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُستجاب ولا
يُسمع. فاتعظوا بغيركم وسلموا الينا أموركم، قبل ان ينكشف الغطا ويحل
عليكم الخطا، فنحن لا نرحم من شكا ولا نرق لمن بكا. قد اخربنا البلاد
وافنينا العباد وايتمنا الاولاد وتركنا في الارض الفساد. فعليكم بالهرب
وعلينا بالطلب. فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من سهامنا مناص. فخيولنا
سوابق وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق. وعقولنا كالجبال وعددنا كالرمال،
ومن طلب منّا الامان سلم ومن طلب الحرب ندم. فان انتم اطعتم امرنا
وقبلتم شرطنا كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وان انتم خالفتم أمرنا
وفي غيّكم تماديتم فلا تلومونا ولوموا أنفسكم. فالله عليكم ياظالمين،
فهيئوا للبلايا جلباباً وللرزايا أتراباً. فقد أعذر من أنذر وانصف من
حذّر. لأنكم اكلتم الحرام وخنتم الايمان، واظهرتم البدع واستحسنتم
الفسق بالصبيان، فابشروا بالذل والهوان. فاليوم تجدون ما كنتم تعلمون،
سيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون. فقد ثبت عندكم اننا كفرة، وثبت
عندنا انكم فجرة. وسلطنا عليكم من بيده الامور مقدَّرة والاحكام
مدبّرة. فعزيزكم عندنا ذليل وغنيكم لدينا فقير. ونحن مالكون الارض
شرقاً وغرباً، واصحاب الاموال نهباً وسلباً، واخذنا كل سفينة غصباً.
فميزوا بعقولكم طرق الصواب قبل ان تضرم الكفرة نارها، وترمي بشرارها.
فلا تبقى منكم باقية وتبقى الارض منكم خالية. فقد ايقظناكم حين
راسلناكم، فسارعوا الينا برد الجواب بتة قبل ان يأتيكم العذاب بغتة.
وأنتم تعلمون".
وعندما لم
تستسلم حلب حاصرها لمدة سبعة ايام ثم فتحها وأعمل السيف فيها قتلا
وذبحاً. يقول ابو الفداء بان النهب والقتل فيها استغرق من يوم الاحد
الى نهار الجمعة. ويقول المقريزي بانه أسر فيها حوالي مائة الف ثم دمر
قلعتها الشهيرة.
وكان
المؤرخ السرياني ابن العبري مطراناً على حلب في هذا الاثناء قد خرج الى
معسكر المغول خارج حلب للقاء العاهل المغولي عند حلوله بقرب حلب،
ليستعطفه بالمدينة لكن دون جدوى. وبسقوط حلب وقع الرعب في قلوب جميع
الحكام المسلمين في سوريا فاسرعوا للاستسلام وتقديم فروض الطاعة
والولاء للعاهل المغولي المظفر. وكانت المدن السورية حمص وحماة ودمشق
قد استسلمت فدخلها المغول دون ان يمسوا أحداً بأذى. ويروي ابن العبري
المعاصر للاحداث انه عندما وصل المغول الى دمشق خرج أعيان المدينة
واستقبلوا الفاتح الجديد وسلموه المدينة، ولم يلحق باحد منهم أذى.
غير ان بعد
وفاة ملك المغول الاعظم مونغا خان عام 1259 عاد هولاكو الى وطنه مع
جيوشه الجرارة بعد ان ابقى في سوريا وفلسطين عشرة آلاف عسكري بقيادة
أمير مغولي مسيحي اسمه "كتبوغا". ولما علم "قوطوز" التركماني المملوكي
صاحب مصر بذلك، خرج بعسكر كثير وكسر المغول في فلسطين عام 1260 وقتل
قائدهم. وعندما وصلت أنباء هزيمة المغول الى دمشق أنقض مسلموها على
المسيحيين من ابناء المدينة حيث اشبعوهم نهباً وسلباً وقتلاً وتنكيلاً.
يقول ابو الفداء المعاصر للاحداث بأن المسلمين في دمشق خرّبوا كنيسة
مريم وكانت كنيسة عظيمة. ولما أكمل المماليك الاتراك زحفهم الى دمشق
فان قائدهم ارتكب مجزرة مروّعة بحق السريان في "قارا" الواقعة بين دمشق
وحمص. ولقد ذكر المقريزي خبر هذه المجزرة الرهيبة.
وكان
القائد المغولي المسيحي كتبوغا بعد فتحه دمشق قد استرجع بعض الكنائس
التي كان المسلمون قد اغتصبوها وحولوها الى جوامع، واعادها ثانية الى
اصحابها السريان لأن هولاكو كان قد أقام من نفسه حامياً للمسيحيين.
ويبدو أن المسيحيين السريان لغاية ذلك الوقت كانوا الاغلبية في
المنطقة.
تحالف سرياني مغولي لأجل حماية السريان:
عندما توفي
دنحا الاول بطريرك السريان النساطرة
في شباط 1281، التأم مجمع اساقفة الكنيسة السريانية الشرقية لاختيار
خلف له يرئس الطائفة والكنيسة معاً، فتباينت الاراء حول المرشحين.
كانت
الكنيسة السريانية الشرقية كأخواتها الكنائس السريانية الثلاث الاخرى،
أي السريان الارثوذكس والسريان الملكيين
(الروم) والسريان الموارنة، تمر في أوضاع أمنية وسياسية صعبة في
المنطقة. والسريان بشكل عام في الشرق الاوسط تصيبهم من وقت لاخر جملة
شدائد واضطهادات اجتماعية وثقافية ودينية وقومية عنيفة فيعانون منها
الكثير ويضطر البعض الى دخول الاسلام تخلصاً من الوضع المزدري
أو حتى من القتل.
فاين هو
الخلاص؟ ومن هو ذلك القائد السرياني الفذ الذي يستطيع أن يحمل على
كتفيه مطالب رعيته ليعمل على تحقيقها ويصون كنيسته وجماعته
وتراثه الآرامي في ذلك الزمن الحالك؟
ويومذاك كانت منطقة الشرق الاوسط تحت وطأة قوى سياسية مختلفة وتعاني من
حكم قبائل السلاجقة الاتراك، والايوبيين
الاكراد، والمماليك التركمان، اما الساحل الشرقي من البحر
المتوسط فكان بيد الفرنجة (الصليبيين؛
ملاحظة: ان
المصادر العربية القديمة لم تستعمل تسمية "صليبيين"
بل كانت تسميهم "الفرنجة")
ان المنفذ
الذى سعى لتحقيقه قادة الكنيسة السريانية الشرقية كان مشروع تحالفهم مع
المغول كقوة جديدة ضاربة بامكانها حماية المسيحيين وسط البحر الاسلامي
المضطرب. ويبدو ان مشروع التقارب من المغول (وكثيرون منهم مسيحيون) كان
يراود ايضاً مخيّلة إغناطيوس الرابع يشوع
بطريرك السريان الارثوذكس (1264-1282)
ومفريانه العلامة غريغوريوس ابن العبري (1226-1286) المقيم في
شمال العراق يومئذ. الا ان الطرفين السريانيين، النسطوري واليعقوبي، لم
يعملا معاً لانجاز هذا المشروع المصيري بالشكل المطلوب، رغم ان كل فريق
منهما كان يفكر به ويرى فيه طريق الخلاص. ان الخلافات المذهبية الحادة
انذاك بين السريان، والقهر التاريخي الذي كان يعمل مخالبه بهم، حال دون
التعاون السرياني الهام بينهم، وخاصة قد مضى على انفصال الفريقين
المذكورين وابتعادهما عن بعض ما يقارب الثمانية قرون.
يبدو ان
البطريرك السرياني النسطوري دنحا الاول الذي رسم بطريركاً في خريف 1265
كان ثاقب البصيرة وقد ادرك اهمية الاكليروس المغولي لكنيسته في الصين
والشرق الاقصى. ان دنحا الاول استوعب تماما الاهمية المزدوجة لهؤلاء
الرهبان المغول من اعضاء كنيسته، الذين بامكانهم ان يلعبوا دورين في آن
معاً، فالدور الاول سيكون بتأمين تبعية الشعب المغولي التركي لكنيسته
من خلالهم، ومن جهة ثانية سيضمن بواسطتهم علاقته الجيدة مع الطبقة
الحاكمة المغولية، التي ترعرعت المسيحية السريانية بين أفرادها. وكان
لهؤلاء الرهبان اعتبار خاص لدى ملوك المغول، وخاصة
الملك المغولي اباقا. لذلك كان دنحا
الاول يأمل للإفادة من المغول المسيحيين بشكل خاص، ومن الشعب المغولي
بشكل عام، كقوة تؤمن الحماية للسريان المسيحيين في بحر العالم الاسلامي
المضطرب في الشرق الاوسط الذي كانت تتحكم فيه يومذاك الشوب التركية
والايرانية (حيث يعيش السريان معاناة يومية). وكان دنحا الاول قد رسم
الراهب المغولي الشاب مرقص مطراناً للصين
وعين الراهب المغولي صوما سفير الكنيسة
الى مختلف الاماكن في الصين والشرق الاقصى. (وقد اضطلعنا في أجزاء
ماضية من هذا المقال على بعض الامتيازات التي نالها السريان اثناء
احتلال هولاكو لبغداد وسوريا). لذلك بعد وفاة دنحا الاول استمر اساقفة
الكنيسة في العمل على دعم مشروع ربط وتقوية علاقة الكنسية مع المغول؛
ولتحقيق الهدف انتخبوا شخصاً مغولياً صينياً لمنصب البطريركية ليرئس
هذه الكنيسة التي امتد انتشارها أكثر من اية كنيسة أخرى يومها. أما
الشخص المنتخب فهو ياهبالاها الثالث المغولي الصيني، وكان شاباً لم
يبلغ السادسة والثلاثين من عمره بعد ولم يمضي على رسامته مطرانا سنة
واحدة. فهل عساه انقاذ الكنيسة وتأمين حمايتها؟
البطريرك النسطوري المغولي ياهبألاها الثالث وصديقه الربان صوما:
ولد
ياهبالاها في مدينة كاوشانغ الصينية عام 1245، والمدينة يومذاك عاصمة
الشعب الأونغي المغولي المسيحي الذي ينتمي اليه ياهبالاها. كان اسمه
الاول مرقص. ونظراً للبيئة المسيحية التي نشأ فيها، حيث كان والده
رئيساً للشمامسة، فان مرقص هذا احب الانضمام الى سلك الرهبنة. ولأجل
تحقيق أمنيته هذه انطلق في رحلة طويلة نحو الشرق الى مدينة خانبليق
(بكين "بيجينغ") استغرقت نحو خمسة عشر يوماً. وفي احدى المغاور الجبلية
القريبة من خانبليق، كان يعيش الراهب المغولي النسطوري الشهير الربان
صوما، صديق عائلة الفتى مرقص من ذات القبيلة والمدينة. فالتقاه الفتى
مرقص وانضم اليه في صومعته ليترهب، واضعاً نفسه تحت رعايته الروحية
ليلقنه مبادىء المسيحية ولاهوت كنيسته وسيرة آبائها وطقوسها السريانية.
وبعد سنوات عدة من الدرس والتلمذة قرر الراهبان صوما ومرقص القيام
برحلة طويلة الى العراق وسوريا وفلسطين. ففي العراق مقر كنيستهم
السريانية الام، وان زيارتها ضرورية للتعارف ومن ثم التوجه نحو القدس
لزيارة الاماكن المسيحية المقدسة في فلسطين.
لقد تمت
هذه الرحلة المهمة اثناء حكم ملك الملوك
المغولي قوبلاي خان الذي عمل منذ تسلمه السلطة في عام 1260 على
نشر الامن والاستقرار في جميع أرجاء دولته الواسعة الاطراف وعلى جميع
طرقاتها التجارية. لذا وصل الراهبان الى بغداد بسلام دون اية مصاعب
وشاهدا في العراق بام أعينهما الوضع الصعب الذي تعيشه كنيستهم، فتباحثا
مع الاساقفة السريان في وضع الكنيسة وكيفية حمايتها. غير أنهما، بسبب
فقدان الامن في الشرق الاوسط وعلى الطرق المؤدية الى القدس (اورشليم)،
فقد اضطرا الى تعديل مخطط رحلتها الى فلسطين والمكوث في بغداد لدى
بطريركهم الحكيم دنحا الاول لمزيد من التشاور والدرس والتخطيط. هذان
الراهبان المغوليان صوما ومرقص سيلعبان مستقبلاً دوراً عالمياً خطيراً
في كنيستهم وفي المنطقة. إذ لما شاهد الجاثليق/البطريرك دنحا الاول
ذكاء الراهبين المغوليين وحنكتهما واخلاصهما للكنيسة السريانية، توسم
فيهما كلّ الخير لذلك قرر الاستعانة بهما. وأخذت تدغدغه أحلام تقوية
علاقة كنيسته المسيحية مع الامبراطورية المغولية عسى أن يتمكن من تحسين
وضعها، مع علمه بوجود الكثيرين من المسيحيين التابعين لكنيسته في صفوف
المغول، وأنه شخصياً كان قد اختير برغبة المغول لسدة بطريركية كنيسته.
في عام
1280 قام البطريرك دنحا بتنصيب الراهب صوما
"سفيراً عاماً" الى جميع المسيحيين من اتباع كنيسته في الشرق
الاقصى. وهذه وظيفة رفيعة جداً، كما رسم الراهب الشاب مرقص مطراناً
لأبرشية كاثاي ويونغ (اي ابرشية الصين) ومنحه لقباً سريانياً اثناء
الرسامة وهو "ياهبالاها" يعني "عطاالله". وقد مكث كل من صوما
وياهبالاها في بغداد ردحاً من الزمن وذلك لحدوث اضطرابات في
منطقة اكسوس من جهة ولمزيد من التداول
في أمور الكنيسة من جهة أخرى.
عند وفاة
البطريرك دنحا الاول التأم مجمع مطارنة الكنيسة السريانية الشرقية
لانتخاب بطريرك جديد خلفاً له، وقد وضع هذا المجمع نصب عينيه تنفيذ
مشروع تقوية العلاقة مع المغول الذي كان قد تبناه البطريرك الراحل،
فاتخذوا الخطوات الحكيمة الآيلة لتحقيقه. واختار المجمع المذكور
"ياهبالاها" الرجل الصيني المغولي التركي المرتسم لتوه مطراناً ليكون
بطريركاً جاثليقاً على الكنيسة السريانية الشرقية ورئيساً عاماً
للسريان المشارقة، ليستعين بأهله المغول على حماية السريان. لقد انتخب
المجمع ياهبالاها ليرئس الكنيسة رغم النقص الكبير في علومه الدينية
والسريانية إلا انه بالمقابل كان متفوقاً وبارعاً في الامور الادارية
والعلاقات، وسيكون مفتاحاً للوصول الى قادة المغول لتلبية مطاليب
السريان. ورُسم بطريركاً في تشرين الاول عام 1281، وجلس على سدة
البطريركية مدة 36 سنة باسم "ياهبالاها
الثالث". أما ملك المغول الشهير أباقا ابن هولاكو فقد تلقى خبر
رسامة صديقه ياهبالاها بطريركاً ورئيساً للكنيسة السريانية الشرقية
ببالغ الفرح والسرور.
وقد شاء
اباقا بدوره، الاستعانة بصديقه ياهبالاها ووظيفته السامية لاستعادة
نفوذ المغول وسلطتهم السياسية المباشرة في العالم الاسلامي بالشرق
الاوسط. وربما كان هناك ثمة تفاهم بين مجمع اساقفة السريان المشارقة
والملك اباقا، وربما يكون أباقا نفسه من اقترح رسامة صديقة ياهبالاها،
لأنه قام بتسديد كافة نفقات حفلة التنصيب الرائعة في كنيسة المدائن.
وبعد
الرسامة منح اباقا البطريرك الجديد الكثير من الامتيازات التي لم تمنح
غيره من البطاركة، فمثلاً منحه حق تجميع الضرائب في العراق لصالح
كنيسته لتظل قوية مادياً.
وتجدر
الاشارة هنا، ان السريان الارثوذكس ايضاً لم يكونوا بعيدين عن المغول،
فالعلاقات كانت مستمرة بواسطة الرهبان السريان، كما ان بطريرك السريان
الارثوذكس اغناطيوس الرابع يشوع (1264-1282) ومفريانه ابن العبري
(1226-1286) كانا على علاقة طيبة مع ملوك المغول. فالبطريرك المذكور
زار هولاكو في عاصمته ومن ثم قام بزيارة ابنه الملك اباقا. كما ان
طبيب هولاكو الخاص كان راهباً سريانياً
ارثوذكسياً يدعى الربّان شمعون يشوع، حيث كان يتمتع بنفوذ عظيم
بسبب مكانته العالية بين المغول. وان هولاكو أثناء احتلاله الشرق
الاوسط أمّن الحماية لجميع السريان دون تمييز بين مشارقة ومغاربة.
ان التعاون
بين المغول والسريان لم يتحقق بسبب وفاة الملك اباقا وذلك بعد بضعة
أشهر فقط من اعتلاء ياهبالاها الكرسي البطريركي. وبموت اباقا تلاشت كل
تلك الاحلام وخاصة عند جلوس أخي اباقا، المدعو "نيقولاس" على العرش
المغولي، وهو المسيحي في طفولته، الا انه أسلم وتسمى "أحمد" وأخذ يعادي
المسيحيين ويعاملهم بقسوة حيث سجن البطريرك ياهبالاها لمدة شهر. وكان
ذلك صدمة جرحت كرامة المسيحيين من المغول وخاصة أولائك الأمراء
المتحمسين للمسيحية. ويبدو ان الحظ حالف المسيحيين ثانية إذ بعد مقتل
الخان أحمد عام 1284، خلفه على العرش المغولي الخان أرغون وهو ابن
أباقا صديق المسيحيين.
لقد اتصف
الملك أرغون بحبه الكبير للمسيحيين، وقد زاره اغناطيوس الرابع بطريرك
الارثوذكس وقدم له التهاني وشرح وضع السريان. وكان أرغون كأبيه محبّاً
وصديقاً حميماً لسريان والمسيحيين. وفي عهده يظهر التعاون المتبادل
ثانية.
كان وضع
السريان الأمني سيئاً للغاية يومذاك، إن غزوات المتمردين من الاتراك
والاكراد المتكررة على نواحي الموصل وأربيل وطورعابدين لم تنقطع، وان
بعض المتمردين المغول بتحالفهم مع بعض أمراء المسلمين يصبون جام غضبهم
على المسيحيين عام 1288، حيث عذبوا الوجيه
المسيحي تاج الدين بن مختار حاكم اربيل، والزعيم المسيحي المغولي مسعود
برقوطي حاكم الموصل الى ان استشهدا. يقول المؤرخ السرياني
المعاصر لتلك الاحداث، بان الاضطهادات
والمصائب التي احتملها سريان الموصل يعجز اللسان عن وصفها.
ويتابع المؤرخ حديثه عن مدينة طرابلس المسيحية قائلاً: "هجم
مسلمو سوريا على طرابلس وحاصروها ثلاثة اشهر ثم فتحوها وأعملوا السيف
في رقاب المسيحيين، وهدموا الكنائس والهياكل، وأسروا الشباب والصبايا
باعداد هائلة، وقتلوا من الكهنة والرهبان والشمامسة والراهبات أعداداً
لا حصر لها، وتركوا المدينة مهجورة". وفي السنه ذاتها، اي 1288،
اجتمع مسلمون من سوريا وتوجهوا وعبروا حدود سنجار وهم يسبون وينهبون
حتى وصلوا على مقربة من فشخابور على ضفة دجلة، وفي الليل عبروا النهر
الى بلدة واسطو السريانية حيث هاجموها بغتة في الغسق، وهاجموا ثم سبع
قرى سريانية مجاورة أخرى وقتلوا خلقاً كثيراً وسبوا النساء والصبايا
والاطفال.
عندما
جلس أرغون على عرش الدولة الإيلخانية المغولية عام 1281 فكر في استعادة
القدس من يد مماليك مصر المسلمين والقضاء عليهم. وكان المماليك قبل
حولي الربع قرن قد وقفوا في وجه عساكر جده هولاكو وكسروها في فلسطين
عام 1260 وقتلوا قائدها المسيحي النسطوري. وفكر أرغون في التحالف مع
الفرنجة (الصليبيين) للحصول على مساعدة عسكرية لتحقيق هدفه، لكن وضع
الفرنجة في الشرق كان ضعيفاً للغاية في مواقعهم على الشاطىء السوري
الفلسطيني، وكانت نهايتهم في المنطقة تقترب. لذلك فكر بواسطة البطريرك
ياهبالاها ܝܗܒܐܠܗܐ ان يرسل وفداً برئاسة صديقه ومعلمه الربّان
صَوما ܪܒܢ ܨܘܡܐ الى اوروبا لطلب المساعدة من امرائها المسيحيين
ومن بابا روما.
وانطلق الوفد المذكور عام 1287 محملاً بالرسائل والهدايا من أرغون
الملك الى ملوك اوروبا ومن البطريرك ياهبالاها الى البابا، واستغرقت
الرحلة حوالي السنة. وقد زار الربان صوما ووفده مدينة القسطنطينية
وروما وباريس، الخ. وقام امبراطور القسطنطينية وملوك فرنسا وانكلترا
والبابا نيقولا الرابع باستقبال الربان صوما خير استقبال. إلاً ان
رحلته هذه لم تسفر عن اية مساعدة عسكرية أوروبية للمغول لأن أوروبا لم
تستجب لفكرة المغول في القضاء على المماليك وانتزاع القدس من المسلمين،
وبذلك فشل المشروع الهام الذي خطط له كل من القائدين المغوليين: الملك
أرغون والبطريرك ياهبالاها.
وبحلول الوفد في اوروبا كان قد جرى نقاش لاهوتي بين الربان صوما ورجال
الكنيسة الكاثوليكية، حيث ورد في قصة الربان صوما والبطريرك ياهبالاها
عبارة "عقيدته الانطاكية". والحقيقة ان عقيدته كانت "نسطورية" حيث كانت
في نظر الكنيسة الكاثوليكية عقيدة "هرطوقية" مرفوضة. ولأن البابا
نيقولا الرابع كان يأمل في حمل الربان صوما على اعتناق الكثلكة، ومن ثم
ان تعتنقها كنيسته السريانية الشرقية النسطورية برمتها، فانه لم يعامل
الربان صوما على انه "هرطوقي"، بل جامله وشاركه في خدمة القداس وتناول
صوما القربان من يد البابا نفسه. وأخيراً ولأجل تشجيعهم على الانضمام
الى الكنسية الرومانية، أرسل البابا الى البطريرك ياهبالاها هدايا
ثمينة وفرماناً يمنح فيه ياهبالاها البراءة في ممارسة سلطته البطريركية
على كل ابناء المشرق وكأنه تابع له. بينما لم تكن للبابا بالواقع اية
علاقة أو سلطة على المسيحيين المشرقيين. يقول أحد كبار المؤرخين
الكنسيين المعاصرين "ان هدف البابا الوحيد آنذاك كان ربط مختلف الكنائس
الشرقية بالكنيسة الكاثوليكية وتحت سلطته، لذلك لم يهتم لمشروع التحالف
العسكري الذي طرحة الخان أرغون، إنما انصبّ اهتمامه فقط على تحويل
الكنيسة السريانية النسطورية الى المذهب الكاثوليكي. ولما كان البطريرك
ياهبالاها على درجة من الذكاء فانه استجاب الى طلب البابا، لكن بعد ست
عشرة سنة، إذ ارسل وثيقة ايمانه الى روما وتجنّب فيها ذكر الصيغ
المخالفة للعقيدة الكاثوليكية مع اعترافه بسيادة البابا على جميع الشعب
المسيحي قاطبة في كل مكان. غير ان هذا لم يؤدِ الى اي نوع من الاتحاد
مع الكنيسة الكاثوليكية، رغم ان ياهبالاها كان على أتم الاستعداد لربط
كنيسته بالكنيسة الكاثوليكية وتمتين الروابط بينهما عساه أن ينال الدعم
والحماية من أوروبا المسيحية.
كان مركز البطريركية الرسمي في بغداد، لكن ياهبالاها نقله الى مراغة
حيث مركز الدولة الإيلخانية المغولية ليكون قريباً من ملوك المغول
وبحمايتهم. وبنى هنالك كنيستين ومقراً بطريركياً فخماً لاستقبال ملوك
المغول عند قدومهم لزيارته.
لكن الاوضاع بدأت تتدهور بالنسبة للبطريرك بعد فشل وفده الى اوروبا، إذ
توفي والده الروحي وصديقه الربان صوما عام 1294، وكانت تلك ضربة قاصمة
لياهبالاها عانى منها الكثير. وفي السنة التالية تبدأ حركات تمرد بين
المغول والمسلمين تهزّ الدولة الايلخانية المغولية التي اصبح المسلمون
يشكلون فيها قوة كبيرة حيث أخذ الاسلام بالانتشار السريع بين الشعب
المغولي واعتنقه الكثير منهم، فأصبح هناك هوّة دينية كبيرة تُبعد بين
الشعب المغولي وملوكه.
وُقتل الايلخان "غياختو" صديق المسيحيين، ولم يستمر خليفته على العرش
أكثر من عدة أشهر ليخلفه أخيراً غازان ابن أرغون الذي أضطر الى الاعترف
بالاسلام رسمياً كدين للدولة. فانتهز حينها مسلمو فارس الفرصة مستغلين
الوضع الجديد الناشىء عن اسلمة ملكهم وبدأوا بمهاجمة المسيحيين وقتلهم
عشوائيا دون اي سبب، ودمّروا الكثير من كنائسهم وحولوا بعضها الى
جوامع، واقتحموا دار البطريركية في مراغة ونهبوها، واشبعوا البطريرك
تعذيباً بعد نهب كل محتويات كنسيته. لكن رغم ذلك كله وبعد عودة الهدوء
استطاع ياهبالاها من اتمام بناء دير كبير في مراغة وآخر في أربيل، لكن
بعد انتهاء البناء مباشرة قام المسلمون بهدم الدير في اربيل.
وأصبحت الكنيسة في الشرق الاوسط منذ عام 1300، على حد قول المؤرخين
الكنسيين، "كنيسة شعب لاحقته الاضطهادات والهجمات والنهب بشكل مستمر".
واصبح بطريرك الكنيسة السريانية الشرقية مضطهداً، هارباً، غير مرغوب
فيه من قبل المغول كما كان سابقاً. إلا ان خيبة الامل الكبرى التي
تلقاها ياهبالاها كانت عندما اعتنق الملك المغولي "أولجيتو" الاسلام
وبدأ بمعاداة المسيحيين (وهو المسيحي في طفولته حيث عمّده ياهبالاها
نفسه، وحين كان في مقتبل العمر كان يتردد لزيارة البطريرك باستمرار).
وقام ياهبالاها مرة بزيارة أوليجيتو فاستقبله ببرودة وبمنتهى
اللامبالاة، فندم البطريرك على زيارته تلك وقرر بانه لن يزور قصر الملك
ثانية، وكشف حقيقة مُرة بانه في وضع لا يُحسد عليه. وفي السنوات الخمس
الاخيرة من حياة البطريرك، انزوى من مصاعب الحياة وسكن في ديره في
مراغة وهو يعاني من وضع المسيحيين القاهر، الى ان وافته المنية في 15
تشرين الثاني عام 1317، حيث دفن في ديره المذكور. وكان قد رسم خمسة
وسبعين مطراناً لابرشياته الممتدة من طرسوس والقدس في الغرب الى جنوب
الهند والصين في الشرق. وقد عاصر حكم ثماية من ملوك الدولة الايلخانية
المغولية. ويمكن القول في النهاية ان عهد ياهبالاها شهد فترة التحوّل
في تاريخ هذه الكنسية العظيمة من القوّة والعظمة الى الانحدار والافول.
اندحار الكنسية السريانية الشرقية في الشرق
الاقصى والاوسط:
ان الوضع الجيّد الذي كان المغول قد قدموه للمسيحيين لم يستمر كثيراً،
إذ انتهى بدخول المغول في الاسلام، وخاصة منذ الخان المغولي غازان
1295-1304 الذي أسلم واتخذ الاسلام ديناً لدولته، وبدأ في معاملة
المسيحيين بشدّة، فقد انتزع من البطريرك ياهبالاها القصر الذي يقيم فيه
في بغداد حيث كان هولاكو قد منحه هدية للبطاركة اثناء اقتحامه بغداد.
فاعتنم عندئذ المسلمون العرب والاكراد الفرصة وقاموا على الفور يقتلون
جيرانهم المسيحيين النساطرة المسالمين في 1295-1296. وأثناء حكم
الخانات الذين أسلموا وخاصة أوليجيتو (1304-1316) وأبو زيد (او سعيد؟)
(1316-1325)، حصلت مجازو مروعة بحق المسيحيين.
وشهد القرن الرابع عشر اضطهدات عنيفة ومجازر مروعة بحق المسيحيين في
اماكن عدة: ففي مراغة دمرت الكنائس والاديرة، وكذلك في أربيل، وفي آمد
(دياربكر) هجم المسلمون على المسيحيين بغتة وقتلوا اثني عشر ألفاً منهم
وعذبوا المطران غريغوريوس الى ان مات، وأحرقوا كنيسة العذراء الرائعة
عام 1317. ازاء هذه الاضطهادات والمجازر اخذت الكنيسة تضعف يومياً. وفي
النهاية يقوم تيمورلنك (1396-1405) وهو المسلم المتعصب (وهو شبه مغولي
من قبيلة برلاس التركية)، وينتزع العرش من اسياده المغول ويركز وضعه في
سمرقند. ويعمل على سحق المسيحية كلياً، فيوجه ضربة قاضية حاسمة إلى
المسيحيين في الشرق الاقصى والاوسط ويقتلهم بضراوة في كل من خراسان
وجرجان ومزندران وسجستان وافغانستان والهند وفارس وأذربيجان وأرمينيا
وجورجيا وسوريا والرافدين.
وقد سببت اعماله البربرية الوحشية تلك موجة من الرعب والهلع في الشرق
وفي آسيا الغربية بأجمعها، ومن هذه الاعمال بناء اهرامات من جماجم
القتلى وجثثهم من خصومه بعد كل معركة، كما فعل حينما فتح بغداد عام
1394، إذ اقام هرماً من تسعين الف جمجمة وآخر في اصفهان من سبعة آلاف
جمجمة (لو صدقت هذه الارقام).
نهاية الكنيسة النسطورية في الشرق الاقصى وآسيا:
كان الطاغية تيمورلنك قد ادّعى بانه من واجبه كمسلم مؤمن ومخلص لاسلامه
أن يقوم باضطهاد المسيحيين. لذلك وجه ضربة قاضية للمسيحية، فأباد
المجتمعات المسيحية ودمّر الكنائس وقتل الرهبان (قبل حوالي خمس سنوات
كنتُ قد ذهبتُ مع طلابي الذين يدرسون السريانية برحلة الى منطقة
طورعابدين في جنوب شرق تركيا لزيارة الاديرة وآثار المنطقة بحثاً عن
النقوش السريانية فيها. ففي قرية "حاح" السريانية شاهدنا بأم أعيننا
آثار الكنائس الضخمة المدمرة والتي دمرتها منجنيقات تيمورلنغ اثناء
زحفه على طور عابدين، حيث لا زالت اكوام حجارة الكنائس الخربة تشهد على
بربرية هذا الوحش البشري، تيمورلنغ). فكان ان اندثرت الكنيسة السريانية
الشرقية في معظم مراكزها في الشرق الاقصى نتيجة لتلك الاعمال الوحشية
الفظيعة التي قام بها تيمورلنغ، والتي لم يسمع بمثلها من قبل، حتى ان
الكنائس في سوريا والعراق ذاقت الامرين على يديه ايضاً.
ويوجه حفيده "أولوغ بك" الضربة القاضية الاخيرة للمسيحية في آسيا
ويسحقها تماماً. فتختفي المسيحية السريانية كلياً من آسيا الوسطى حيث
تموت الكنيسة السريانية هنالك بعد ان سجلت في التاريخ حركة تبشيرية
عظيمة لا تضاهيها أية حركة مشابهة أخرى في القرون الوسطى. ولم تنجُ من
الابادة إلاّ الكنيسة السريانية في الهند التي استطاعت أن تبقى على قيد
الحياة لغاية اليوم.
ويبدو ان العامل الذي سهّل في زوال الكنيسة السريانية من آسيا الوسطى،
كان الانتشار الجغرافي الواسع لرقعة امتداد الكنيسة الهائل حيث عمل على
اضعاف الاتصال بين الابرشيات الموزعة في أنحاء الشرق الاقصى وبين مركز
البطريركية، فانعدم الاتصال بالبعض وانقطعت الاخبار وانحلت هذه
الابرشيات بفعل الضربات الثقيلة المتتالية عليها، واعتنق المسيحيون
هناك الاسلام ليخلصوا. فعلى سبيل المثال ان الشعب الايغوري في الصين هو
شعب مسلم اليوم، لكنه كان مسيحياً سابقاً.
ويلحق بهذا عامل آخر ساهم بدوره في اضعاف الكنيسة وهو المصاعب الجمة
التي عانت منها قيادة الكنيسة في ادارة الشعوب المسيحية المتعددة
المنضوية تحت قيادتها على اختلاف لغاتها وثقافاتها وعاداتها. كل هذا
عمل على اضعاف الكنيسة كمؤسسة في دفاعها عن نفسها، بعد ان تخلى عنها
حماتها المغول وانقلبوا عليها بعدئذ الى مضطهِدين؛ واصبحت هذه الكنيسة
العريقة من ثم لقمة سائغة للاضطهادات والمجازر المتتالية على مدى
العصور.
حتى ان الكنيسة في العراق ايضاً عانت جداً من الشدائد فتحولت بعدها الى
كنيسة قائمة على رعاياها السريان فقط بعد التجائهم الى الجبال هرباً من
المجازر المتلاحقة، وهم يشكلون اقلية مسيحية بين اغلبية مسلمة، بعد ان
سجلت صفحة ناصعة في تاريخ المسيحية المشرقية. |