لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية
(المغول يحتفلون برأس السنة السريانية)
(الجزء الثامن)
المسيحية السريانية بين المغول والاتراك:
في بداية
القرن الثالث عشر يظهر جنكيزخان المغولي على الساحة ويؤسس دولته جنوب بحيرة
بايكال حيث تقطن قبيلة كيرايت المسيحية التي تربى فيها وهو طفل يتيم.
وكان
امير قبيلة نايمان المغولية قد اعتنق الديانة المسيحية في بداية القرن الحادي
عشر، وكذلك انضمت الى المسيحية قبائل مركيت وأوبرات المغولية.
ويقوم جنيزخان
بتوحيد هذه القبائل المغولية-التركية المسيحية تحت امرته، فتشكل نواة
الامبراطورية المغولية التي هزّت العالم بعدئذ.
وعندما نقل امبراطور المغول
الاعظم قوبلاي خان (1259-1294) مركز دولته من قراقوروم (عاصمة المغول) الى
خانبليق (بكين) فتح الباب ثانية على مصراعيه لانتشار المسيحية في الصين
مجدداً في النصف الثاني من القرن الثالث عشر.
كانت المرحلة
الاولى من المسيحية في الصين تتمثل بوجود رهبان واكليروس سرياني، أما المرحلة
الثانية فتتميز بوجود شعب مغولي- تركي مسيحي يشكل الطبقة الحاكمة في الدولة.
لقد ازدهرت
المسيحية تحت سلطة المغول في كل مكان، إذ توفرت الحماية والامن للمراكز
السريانية التجارية الثقافية الدينية المنتشرة على طول طريق الحرير التجاري،
فقويت العلاقات بين الكنيسة المحلية هناك مع الكرسي البطريركي في بغداد.
وازدهر التبشير مجدداً وخاصة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
لكن عندما
سيطرت سلالة مينغ على الصين، بعد انتزاعها الحكم من خلفاء قوبلاي خان عام
1369، قامت بإثارة موجة من الاضطهادات ضد الاديان الغريبة.
وفي بداية القرن
التالي تنحدر المسيحية كثيراً في الصين. ويقوم بعدها تيمورلنك المسلم المتعصب
بتوجيه الضربة القاضية لسحقها تماماً هناك.
نجح المبشرون
السريان في عملهم التبشيري في نشر مبادىء الديانة المسيحية بين قسم كبيرمن
القبائل المغولية-التركية.
ونتج عن هذا تأسيس كنائس سريانية مغولية تركية
وصينية في الشرق الاقصى، وعدة ابرشيات مطرفوليطية واسقفية يسوسها غالباً
مطارنة واساقفة سريان، وكانت الكنيسة السريانية الأم ترسلهم لقيادة الكنيسة
في تلك الاصقاع ونشر التعاليم المسيحية بطابعها السرياني النسطوري، وتقوية
روابط الكنيسة الأم مع ابنتها كنيسة منغوليا والصين.
وقد نجح
الرهبان والمبشرون السريان في نقل المسيحية السريانية الى بيوت المغول
والعائلات الملكية الحاكمة، وكان بعض ملوك المغول قد احاطوا أنفسهم بحلقة من
الرهبان السريان الذين يؤدون لهم مختلف الخدمات ويقومون بتهذيب وتعليم
ابنائهم. فأصبح المغول بذلك تابعين للسريان دينياً وكنسياً وحتى ثقافياً ضمن
امبراطورية كنسيّة سريانية واسعة الارجاء.
ان القبائل
المغولية-التركية الشهيرة التي اعتنقت المسيحية على يد الرهبان السريان
المشارقة هي:
كيرايت، مركيت، أونغوي، أوبرات، ونايمان، وكانت القبائل الاكثر
تمدناً بين المغول حيث شكلت العمود الفقري في دولة جنكيزخان المغولية.
وكان
جنكيزخان قد تربى منذ طفولته في بلاط أحد الامراء المغول المسيحيين، حاكم
قبائل كيرايت المسيحية.
وعندما بلغ جنكيزخان تزوج من أميرة مسيحية مغولية من
القبيلة المذكورة.
ملوك المغول يتزوجون من فتيات مسيحيات:
كانت المرأة
في القبائل المغولية المسيحية تتمتع باستقلال واحترام كبيرين من قبل المجتمع.
إذ أن نشاط المرأة المغولية بشكل عام لم يكن مقتصراً على ادارة الشؤون
المنزلية فقط، بل كانت المرأة ترافق الجيش في حملاته وتهتم بالمحاربين.
واثناء المعارك كانت النساء جاهزات في عربات خاصة بالمعسكرات، استعداداَ
للمشاركة في القتال عند الضرورة أيضاً.
وكانت الفتيات
المغوليات المسيحيات تتمتعن بمزايا عديدة وبمنزلة اجتماعية راقية مما جعل
ملوك المغول العظماء يتزوجن منهن.
إذ بعد ان تزوج جنكيزخان باحدهن تزوّج ابنه
أوغدي ايضاً فتاة مسيحية من قبيلة مركيت، وكذلك الامبراطور غويوك بن أوغدي
وحفيد جنكيزخان الذي كان مسيحياً حقيقياً حيث تعمّد وتهذب على يد راهب
سرياني، وكان لديه أميران بمرتبة وزراء يدعى أولهما قداق والثاني جينقاي كانا
يهتمان جداً بالمسيحيين.
وبفضلهم زخر قصر الملك غويوك بالمطارنة والاساقفة
والرهبان حتى صارت الدولة المغولية "دولة مسيحية" على حد قول المؤرخ المعاصر
ابن العبري. وارتفع فيها شأن المسيحيين من الفرنج والروس والسريان والارمن
وأصبحت تحية الناس اليومية العبارة السريانية "برخمر"
ܒܪܟܡܪܝ
(باركني
ياسيدي).
وكان الابن
الرابع لجنكيزخان والمدعو تولي قد تزوج ايضاً من فتاة مسيحية هي الاميرة
المغولية "سرغوقطني" ابنة حاكم قبائل كيرايت. وكانت هذه الاميرة على درجة
عالية في الذكاء وداهية في السياسية، إذ استطاعت بعد وفاة الخان غويوك أن
تسيطر على الحكم وتضمنه لثلاثة من ابنائها الذين اصبحوا من اعظم ملوك المغول
وهم:
مونغا، قوبلاي، وهولاكو.
وكانوا اسوة بوالدهم يحبون المسيحيين، لأنهم
أنفسهم كانوا "شبه مسيحيين". وكانت سرغوقطني هذه تبجّل المطارنة والرهبان
وتتقبل صلواتهم وبركاتهم، فكان أن علا صيتها بين السريان أجمعين.
حتى ان
معاصرها المؤرخ السرياني ابن العبري شبهها بالملكة هيلانة والدة قسطنطين
الكبير (بداية القرن الرابع)، ووصفها ذاكراً قول الشاعر:
لو كان النساء كمثل هذه لفضّلت النساء على الرجال.
وعند وفاة
الاميرة المذكورة بكاها المسيحيون كثيراً وأخذوا يكرّمون صورتها لسنوات
عديدة.
وقد سلك ابناؤها نهجها في حبها للمسيحيين والسريان وتكريم رجال
الكنيسة.
وقد أكد ذلك الرحالة الايطالي الشهير ماركو بولو الذي كان يعمل في
خدمة ابنها قوبلاي خان العظيم.
وأن هولاكو،
مؤسس الدولة الإلخانية لمغول فارس، تزوج ايضاً من اميرة مسيحية من قبيلة
كيرايت وهي "دوقوزخاتون"، التي قال عنها الهمذاني، بانها عملت دائماً على
مؤازرة المسيحيين وكانت حاضرة معه في احتلاله لبغداد.
وان اباقا ابن هولاكو
تزوج من ابنة ميخائيل الثامن باليولوغوس امبراطور بيزنطة انذك.
وكان اباقا
هذا يكنّ حباً كبيرا للمسيحيين والسريان. وكذلك ابنه أرغون حيث فضل المسيحيين
في دولته كما فعل والده، وكان قد خطط لانتزاع القدس من المسلمين.
لكن منذ ايام
الخان غازان الذي اسلم واعترف بالاسلام ديناً رسمياً لدولته، على خلاف ملوك
المغول الذين سبقوه حيث كانوا متسامحين جداً مع كل الاديان، بدأ اضطهاد
المسيحيين، إذ أخذ هذا الخان يعاملهم بقسوة وشدة كما فعل ابناؤه وخلفاؤه
ايضاً من بعده، مع المسيحيين.
مؤثرات سريانية بين المغول:
وبفضل السريان
العاملين في بيوت ملوك وامراء المغول فقد دخلت مؤثرات سريانية جمة الى لغة
المغول وعاداتهم وثقافتهم، منها:
- استخدامهم
التحية السريانية "برخمر"
ܒܪܟܡܪܝ
"باركني ياسيد" كتحية يومية عامة (مثلما تستعمل الشعوب المسلمة التحية
العربية "السلام عليكم").
- تسمية
اولادهم باسماء سريانية مثل "شوبحالماران"
ܫܘܒܚܐܠܡܪܢ،
"قيوما"
ܩܝܘܡܐ،
الخ.
- استعمالهم
الحروف السريانية لكتابة لغتهم ايضاً؛ ولقد خلف لنا المغول والاتراك بعض
الكتابات السريانية على القبور، حيث تكشف عن تبنى المغول عند منطقة بحيرة
ايسيك كول الخط السرياني الاسطرنجيلي في كتابة النقوش السريانية اضافة الى
بعض النقوش التركية، كما ان شعب أونغوت استعمل الحروف السريانية لكتابة لغته
التركية. كذلك ان الحروف الايغورية مشتقة من الآرامية.
- استخدامهم
الالقاب الدينية المسيحية السريانية التي اتخذها المسيحيون منهم وغير
المسيحيين من المغول، مثل
ܡܪܝ
ܚܣܝܐ
"مار حسيا" (سيادة المطران).
- تبنيهم
التقويم السرياني الشرقي في تأريخ الاحداث والذي يبدأ منذ عام 311 قبل
الميلادي.
- تبنيهم عادة
الاحتفال برأس السنة السريانية الشرقية التقليدية الكائنة في الاول من تشرين
((تقع رأس السنة السريانية في الاول من شهر
تشرين كل عام؛ ان كلمة "تشرين" بالسريانية تعني البداية وفيها تقع بداية
السنة السريانية.
ان السنة السريانية لا علاقة لها برأس السنة الميلادية التي
يحتفل بها العالم ومعهم السريان في 31 كانون الاول. من المؤسف ان الغالبية
الساحقة من ابناء الكنائس السريانية الشرقية والغربية بمثقفيهم وأمييهم
وبقياداتهم الروحية والسياسية لا يعرفون عن تاريخ السريان "الصحيح" وتفاصيل
تراثهم السرياني إلا النذر اليسير، لذلك لا يعرفون اليوم شيئاً عن "رأس سنتهم
السريانية" التي تمسك بها اجدادهم طيلة القرون المسيحية قبل ان يهملها الزمن
وتبقى محفوظة فقط في هيكلية الطقوس السريانية.
اليوم نرى بعض السريان وخاصة
النساطرة قد تبنوا "سنة جديدة" استمدوها من تاريخ العراق القديم، حيث يحتفلون
بها في الاول من نيسان أسموها " رأس السنة الآشورية"، وهذه ايضاً كالسنة
الميلادية لا تمت بصلة الى السنة السريانية التي تمسك بها اجدادهم السريان
ونقلوها معهم في حملاتهم التبشيرية وفرضوها على شعوب آسيا الوسطى ومنهم
المغول)).
- احتفالهم
بالاعياد المسيحية وتعطيلهم بها.
- تأثرهم في
فن الرسم السرياني، وخير دليل على ذلك تلك الرسوم الجدارية المسيحية في واحة
طورفان التي تعود الى حوالي عام 900 ميلادي حيث تذكرنا بنماذج الرسوم
المسيحية والبيزنطية القديمة في الشرق الاوسط، وهي مختلفة تماماً عن اساليب
التقاليد الفنية الصينية والهندية والايرانية.
- وقد شمل
تأثير المسيحية السريانية ايضاً البوذيين، إذ اهتم الرهبان البوذيون بالتراث
المسيحي في الشرق الاقصى بعد اندثار المسيحية هناك، واتخاذ بعض الرهبان
البوذيين، لسكانهم ديراً مسيحياً مهجوراً قرب بكين في الصين.
وفي منطقة
تونهوانغ في غرب الصين تبنّى الرهبان البوذيون صورة أحد آباء السريان
المشارقة واعتمدوها على انها صورة بوذيساتفا، واهتموا ببعض النصوص من الادب
الصيني المسيحي واحتفظوا بها في مكتبهم الشهيرة.
- نعتقد ان
ثياب الرهبان البوذيين في التبت تحمل بعض المؤثرات من لباس رجال دين الكنيسة
السريانية الشرقية (النسطورية) من حيث زيها وألوانها.
وقد ظهر حب
المغول للسريان اثناء قدومهم للشرق الاوسط، اذ لما افتتحوا بغداد لم يمسوا اي
سرياني باذى إلا في تكريت بعدئذ، بل ان هولاكو قام بتقديم احد قصور الخلفاء
هدية لبطريرك السريان المشارقة ليجعله محل اقامة له.
وان القائد العام للجيش
المغولي الذي افتتح دمشق كان مسيحياً نسطورياً يدعى "كتبوغا". وكانت مدينتا
تبريز ومراغة، حيث استقر الخان، عاصمتي الاقليم الجديد للدولة المغولية
الإيلخانية، تعنيان الكثير بالنسبة للمسيحيين في شمال العراق الذين شعروا
الان بان حاميهم أصبح قاب قوسين أو أدنى منهم.
وكان الخان
غالباً ما يشارك في الاعياد المسيحية بنفسه ويحضر القداس.
وقد أجاز بناء
كنسية صغيرة في البلاط الملكي، وأوقف الاوقاف لصالح الكنائس، كما فضّل
المسيحيين على المسلمين في المعاملة. وقد تمتعت الطوائف المسيحية بعطف الحاكم
وتضاعف نفوذهم وخاصة السريان النساطرة واليعاقبة والارمن وارثوذكس جورجيا.
واصبح لهم الحق بالسير في مواكبهم الدينية علناً، وان يرمموا كنائسهم
ويوسعوها.
ويشهد ابن العبري المعاصر للأحداث بان الخان اباقا ابن هولاكو ذهب
الى الكنيسة في همذان ليحتفل بالعيد مع المسيحيين اثناء عيد الفصح.
(يتبع الجزء التاسع) |