لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية
(الجزء الثاني)
(ملاحظة:
ربما تساعده هذه
الدراسة الاشوريين والكلدان اليوم على اكتشاف الأصل المشترك والتاريخ والتراث
المشترك فيتلاشى الانغلاق السلبي على الذات، وتخف حدة الاصولية، وتزول الكثير
من مشاكل اليوم)
(لقد قمتُ باستعمال تسمية "الكنيسة السريانية الشرقية" لان هذا هو اسم
الكنيسة العلمي الذي نستعمله في الاوساط الاكاديمية، كما ان بقية الاسماء
والاصطلاحات هنا اوردناها كما كانت مستعملة في زمن وقوع الاحداث)
الكنسية في القرن
الخامس:
كان هناك
تنظيم وتوثيق لكنيسة المشرق منذ القرن الخامس ولغاية الثامن من خلال المجامع
الكنسية المحلية التي عقدتها منذ عام 410 ولغاية عام 775 وعددها ثلاثة عشر
مجمعاً. ويُعتقد بان الذي عمل على جمع أعمال المجامع المذكورة هو الجاثليق
طيمثاوس الاول (780-823).
وقد قام عالم السريانيات جان باتيست شابو الفرنسي
بنشر هذه المجامع تحت اسم المجامع الشرقية Synodicon
Orientale
عام 1902.
مثلما نشر نظيره العلامة الاستلندي آرثور فوبس
مجامع الكنيسة السريانية الارثوذكسية 1975-1976.
في مستهل القرن الخامس كان هناك شخصان لعبا دوراً قيادياً وتنظيمياً هاماً
في حياة كنيسة المشرق وهما مار ماروثا أسقف ميافرقين (توفي 420) ومار اسحاق
جاثليق المشرق (توفي 410) حيث ترأس الاثنان معاً أول أهم مجمع كنسي مشرقي عقد
عام 410 ويعرف بمجمع مار اسحاق.
لكن
يبدو ان ماروثا بالاضافة الى مهامه الكنسية والاسقفية كان رجلاً سياسياً
كبيراً بدلالة قيامه بمهام سياسية رفيعة المستوى ادّت الى نشر السلام بين
الفرس والرومان.
ذاك ان علو كعبه في العلوم اللاهوتية والكنسية وتمرسه في
مهنة الطب واتقانه اللغات الفارسية واليونانية بالاضافة الى لغته الام
السريانية وخبرته العالية في الادارة قد مكنته ليقوم بدور الوسيط بين هاتين
الدولتين. لقد حل مرتين في البلاط الفارسي كسفير يمثل القسطنطينية وملوكها
الاباطرة أركاديوس (395-408) وثيودوسيوس الثاني (408-450) لدى الملك الفارسي
يزدجرد الاول (399-421).
وكان في مهمته الاولى الدبلوماسية يمثّل الامبراطور
أركاديوس في حضور مراسيم تسلّم يزدجرد عرش دولته، واما تمثيله الدبلوماسي
الثاني فكان عام 408 لإبلاغ يزدجرد بتسلم ثيودوسيوس عرش دولته (
(Socrates, VII, 8
، وكان خلال احدى
مهامه السياسية قد عالج الملك الفارسي من مرض خطير ألم به.
ومع الوقت توطدت
بينه وبين يزدجرد صداقة متينة انعكست خيراً على حياة الكنيسة.
وقد نجح مار
ماروثا حلال مساعيه السياسية في انهاء اضطهاد الفرس للكنسية، واعتراف الملك
الفارسي بسلطة الجاثليق مار اسحاق كرئيس روحي عام لجميع المسيحيين في الدولة
الفارسية، وفي اعادة تنظيم ترميم واصلاح الكنائس التي دمرت اثناء الاضطهادات
السابقة، وتأمين حرية وسلامة تنقل الاكليروس المسيحي ضمن حدود الدولة.
واستغل
مار ماروثا السرياني (اسمه بالسريانية
ܡܪܘܬܐ
يعني السيادة والجلالة) فرصة وجوده في الدولة الفارسية فقام بتجميع أخبار
شهداء الاضطهادات.
وبفضل ماروثا انتظت الكنيسة في سلطة مركزية بادارة مطران العاصمة الفارسية
الذي حمل لقب جاثليق وثم جاثليق بطريرك.
وخلال سفره الى الدولة الفارسية كان
ماروثا قد حمل معه رسالة موقعة من بعض مطارنة سوريا وبالاخص أساقفة انطاكية
وحلب والرها وتلا وآمد يحثون فيها كنيسة المشرق ان تتبنى القوانين والنظم
السائدة في الكنسية الانطاكية.
وعرضت الرسالة على الملك يزدجرد فوافق على عقد
مجمع لاساقفة الشرق عام 410 ضم أربعين اسقفاً، وحضره ممثلان عن الملك، حيث
اعلنا باسم الملك انتهاء الاضطهاد والاعتراف بسلطة مار اسحاق ودعم سياسة
ماروثا ومار اسحاق.
كان
هذا المجمع هاماً جداً في حياة كنيسة المشرق لانه تبنى قانون الايمان المسيحي
ܩܢܘܢܐ
ܕܗܝܡܢܘܬܐ
الذي صاغه اللاهوتيون في مجمعي نيقية 325 والقسطنطسنية 381. واقر المجمع
الاحتفال بالاعياد الرئيسية في نفس المواعيد والاوقات المعمول بها في الكنيسة
في سوريا.
كما سن المجمع 21 قانوناً هاماً كانت اساساً في تنظيم حياة الكنيسة
واكليروسها واسقفياتها وادارتها وتقسيم المطرانيات.
وربما اهم قوانين هذه
المجمع كان قانون رقم 13 الذي يتضمن توحيد الاعياد مع كنيسة الغرب، وكذلك
القانون 21 الذي عمل على تقسيم الكنيسة الى مطرانيات واسقفيات وهي:
1.الكرسي الاول وهو كرسي المدائن، يترأسه الجاثليق الذي هو رئيس المطارنة
والاساقفة، ويساعده في مهمته أسقف كشكر.
2. اسقف بيث لافاط وهو مطران مقاطعة بيث هوزايى (خوزستان)
3. اسقف نصيبين وهو مطران اقليم بيث عربايى
4. اسقف فرات وهو مطران اقليم ميشان (منطقة البصرة الان)
5. اسقف اربيل وهو مطران منطقة حدياب
6. اسقف كرخ سلوخ وهو مطران اقليم بيث غرمايى.
وفي نهاية جدول الاساقفة هنالك ذكر لأساقفة في مناطق نائية في فارس وجزر
الخليج الفارسي وفي ميديا وميديا العليا وحتى في خوزستان. ويتصدر جدول
التواقيع اسماء مار اسحاق ومار ماروثا، وبينهم تواقيع اربعة مطارنة و 32
اسقفاً.
لقد
خلف ماروثا في مهامه السياسية بين الفرس والبزنطيين مار ياهبالاها
ܝܗܒܐܠܗܐ
الذي انطلق حوالي عام 418 على رأس وفد الى القسطنطينية ممثلاً يزدجرد لدى
الامبراطور البيزنطي.
ثم تلاه في نفس المهمة السياسية أقاقيوس مطران آمد الذي
أرسل كسفير ممثلاً الامبراطور البيزنطي ثاودوسيوس الثاني.
ويعتقد ان أقاقيوس
قد لعب دور الوسيط السياسي في المفاوضات لانهاء الحرب بين الفرس والرومان عام
422. وذكر سقراط المؤرخ بان أقاقيوس قد افتدى سبعة آلاف من الاسرى المحتجزين
لدى البزنطيين بعد ان باع امتعة الكنيسة وافتداهم وأرسلهم الى ديارهم في
الدولة الفارسية ( (Socrates, VIII, 21
أما في المجمع الذي عقد عام 420 فنفهم من مجرياته بان سلطة الجاثليق كانت
تشمل 28 كرسياً اسقفياً. وقد درج في جدول اعمال هذا المجمع طلب للتمسك
بالقوانين الخاصة بكنيسة الغرب (سوريا) والعمل بها بناء لمقررات مجامجع أنقرة
وقيصرية الجديدة وغنغرة وأنطاكية ولاذقية فريجيا.
أما في مجمع عام 424 فكان هنالك 36 اسقفاً بالاضافة الى الجاثليق، وقد ركز
هذا المجمع على استقلالية هذه الكنيسة في معالجة أمورها بنفسها دون طلب
مساعدة من اساقفة بيزنطا.
وفي هذا المجمع نسمع عن اساقفة على ابرشيات بعيدة
في آسيا مثل مرو، وهرات، وسجستان، واصفهان، واصطخر، الخ. هذا كله يدل دون شك
على مدى توسع هذه الكنيسة العظيمة وانتشارها في آسيا.
وفي
مجمع ساليق 486 دُرست قضية رهبان أقليم بيث آرامايى
ܒܝܬ
ܐܪ̈ܡܝܐ
(وسط وجنوب العراق) وتجوالهم ونشرهم التعاليم المخالفة لما هو معمول به في
الكنيسة.
وكذلك جاءت مقررات المجمع في تفضيل زواج الاكليروس كله استاداً الى
رسالة.
طيموثاوس الاولى 3:1-5
بأن المطران ينبغي ان يكون متزوجاً. ويعتقد ان هذا قد جاء بناء لطلب برصوما
مطران نصيبين الذي كان متزوجاً.
وفي مجمع عام 497 جاء تأكيد على زواج
الاكليروس المسيحي بدءاً من الجاثليق ونزولاً لأصغر رتبة كهنوتية.
وكان هذا
تكراراً لافكار برصوما مطران نصيبين.
وجاء في كتاب المجامع الشرقية (Synodicon
Orientale, p. 321)
بان الملك الفارسي أمر بعقد مجمع للنظر في مسألة زواج الاكليروس.
كان القرن الخامس مسرحاً لتصارع الافكار اللاهوتية المتنافسة. وكانت المجامع
"المسكونية" المنعقدة بين عام 431 و 451 في الكنيسة الانطاكية محطات متباينة
متميزة في تاريخها وفكرها اللاهوتي وخاصة بعد ان تبنت كنيسة المشرق عقيدة
الايمان النيقي سابقاً.
والآن أخذت الصراعات الفكرية المسيحية الدائرة في
كنسية انطاكية تؤثر على كنيسة المشرق ايضاً وخاصة في قضية الطبيعة الواحدة
والطبيعتين في السيد المسيح.
كان المثقفون في كنيسة المشرق قد تخرجوا غالباً من الكليات السريانية في
الرها ونصيبين.
وكان هؤلاء يدعمون الفكر اللاهوتي النسطوري. وبعد تخرجهم
تسلموا المناصب الكنسية العليا في كنيسة المشرق عمدوا الى نشر هذا الفكر
اللاهوتي في كنيسة المشرق.
ومن هؤلاء نذكر أقاقيوس المدرّس في معهد ساليق
الذي أصبح رئيساً لكنيسة المشرق عام 485، ويوحنا الكرخي وبرصوم النصيبيني
وبولص من بيث ليدن، ومعنو من بيث أردشير، وابراهام من بيث ماداي، ونرساي
المدرس من كلية نصيبين.
لقد كان فكر هؤلاء خلقيدونياً يؤمنون بالطبيعتين، الا
انهم كانوا يرفضون شجب نسطور.
الكنسية
في القرن السادس والسابع:
أخذت الكنيسة في مستهل القرن السادس تعاني من انشقاق في هيكلية ادارتها على
أثر قرار الجاثليق شيلا (505-523) بأن يخلفه على سدة الرئاسة صهره إليشع
الطبيب المشهور يومذاك رغم القوانين المرعية الاجراء في الكنيسة، ومعارضة
الاساقفة لهذا القرار.
وعيّن الاساقفة مرشحاً من قبلهم هو نرساي من خوزستان
فاصبح للكنيسة بذلك رئيسان إليشع ونرساي وكل واحد يلاقي دعماً وتأييداً من
طرف أو أكثر.
في عام 540 خرق خوسرو الفارسي السلم المعقود بين الفرس والرومان بتجديده
الحرب ضد بيزنطا في اغارته على سوريا. ثم تلت ذلك فترات من السلم التي اعقبها
سلسلة حروب أخرى.
وقد تميزت هذه الحروب بنجاح الجيوش الفارسية في جلب الكثير
من الاسرى المسيحيين من المناطق السورية ونقلهم الى فارس.
وكذلك لم تخلُ
ولاية خوسرو من بعض الاضطهادات والتعسفات ضد الكنيسة.
وفي عام 544 عقد مجمع
في كنيسة المشرق وافق الاساقفة على قبول واستعمال مؤلفات وشروح ثيودور
المصيصي عن عقيدة الايمان النيقاوي (يعتبر ثيودور المصيصي بطل الفكر اللاهوتي
النسطوري).
وفي مجمع عام 554 ينال الجاثليق لقب بطريرك، وهذا بحد ذاته يعتبر
حدثاً هاماً في استقلالية كنيسة المشرق.
كانت
علاقة خوسرو الثاني (591-628) جيدة مع الامبراطور البيزنطي موريقي (موريس)
(انظر ابن العبري، مختصر الدول، طبعة صالحاني، صفحة 154) لمساعدته ضد منافسه
بهرام، قد انعكست خيراً وارتياحاً على كنيسة المشرق السريانية. وكان لزوجتي
الملك خوسرو المسيحييتين "شيرين الآرامية ومريم
الرومية" كما تسميهما المصادر السريانية،
دور في موقفه الايجابي من المسيحيين.
لكن علاقة خوسرو تسوء مع البيزنطيين
فيستعدي المسيحيين في دولته، وخاصة أثناء حكم هرقل وحربه مع خوسرو عام 612،
الشيء الذي ساهم في سقوط الدولتين بيد العرب المسلمين بعد حوالي عقدين من
الزمن.
لكن موقف خوسرو يعود الى ما كان عليه من ايجابية نحو المسيحيين بعدئذ.
وعندما تسلم الملك الفارسي قواذ الثاني عرش الدولة عام 628 منح الحرية
التامة لمسيحيي دولته، وهذا ما افسح في اجتماع مجمع الاساقفة وانتخاب جاثليق
للكنيسة هو يشوعياهب الثاني المتخرج من جامعة نصيبين، وكان مطراناً متزوجاً.
وأثناء حكم الملكة بوران الفارسية (629-630) انطلق الجاثليق النسطوري يشوعياب
على رأس وفد متوجهاً الى حلب لملاقاة الامبراطور البيزنطي هرقل، وذلك كتعبير
ودّي من الملكة الفارسية بوران للامبراطور البيزنطي هرقل اثناء وجوده في
سوريا في صيف عام 630 (اي خمس سنوات قبل احتلال العرب لسوريا عام 635).
ومن
خلال اللقاء اللاهوتي اقتنع القيصر بارثوذكسية الكنيسة السريانية الشرقية.
واشترك كل من الامبراطور والجاثليق في تناول القربان معاً. كما يقول الكاتب
السرياني توما المرجي (كتاب الرؤساء، 2، 2، 4، صفحة 123-127).
وقد عمد احد
أعضاء الوفد الى سرقة وعاء ذخائر الرسل ونقله معه الى دير عابي (توما المرجي
في نفس المصدر، صفحة 127).
كان السريان
المسيحيون في العراق وسوريا مضطهدين بشكل عام من قبل الفرس والرومان، كما ان
الكنيسة البيزنطية كانت تنظر لهم شزراً على انهم هراطقة، لكن رغم هذا فانهم
لم يستسلموا بل كانت الافكار النسطورية واليعقوبية قوة دافعة لهم لمقاومة
الاحتلال السياسي والديني؛
وعلى حد تعبير المؤرخ البرفسور جون جوزف (وهو
سرياني نسطوري مقيم في امريكا) بقوله:
"ان
المسيحيين السريان الآراميين تحدّوا الكنيسة الرومانية الاغريقية في سوريا
باسم النسطورية واليعقوبية"، انظر كتابه:
John Joseph,
Moslem-Christian Relations and Inter-Christian Rivalaries in the Middle
East, New York 1983, page 9.
(يتبع الجزء الثالث) |