عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

 

بقلم الدكتور اسعد صوما    

ستوكهولم / السويد


تعليق حول الصراع القائم على المدارس السريانية في مدينة القامشلي في سوريا لمن ستتبع المدارس السريانية في المستقبل:

للفكر العروبي أم للفكر الكردي؟  

كتبنا هذا الموضوع باللغة العربية لأنه موجه للسريان الذين يعيشون في سوريا وليقرأه جميع قرّاء العربية.

 1.مقدمة عن الموضوع:

ܫܠܡܐ

نقلت الينا مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضية أخبار الصراع على المدارس السريانية التي يملكها السريان في مدينة القامشلي وبقية المدن في منطقة "الجزيرة السورية". ويتجسد هذا الصراع في مَن سيسيطر على هذه المدارس الآن، وكيف سيكون المحتوى الفكري في كتبها المدرسية ونظرته الى جيرانهم العرب والأكراد، ولمن ستكون تبعية المدارس الفكرية في المستقبل القريب، للفكر العروبي أم للفكر الكردي، أم لفكر آخر؟

ان قضية المدارس السريانية ومستقبلها موضوع في غاية الأهمية والحساسية لأنه يتعلق بمستقبل تعليم الأطفال في الجزيرة السورية، وهو واقع الآن بين السنديان والمطرقة، والموضوع يهمنا ويمسنا شخصياً لسببين اثنين: الأول لأن والدي كان من مؤسسي هذه المدارس السريانية في القامشلي ومسؤولاً في مجلسها الإداري لسنوات كثيرة، والثاني إنني كنتُ في طفولتي طالباً في هذه المدارس التي ساهمتْ منذ تأسيسها بشكل فعّال في الحركة التعليمية والنهضة الثقافية  في الجزيرة السورية، وثم عملتُ مدرساً للغات في إعداديات وثانويات مدينة القامشلي لأكثر من عشر سنوات

  أن قصة هذا النزاع تتلخص بمن سيسيطر على المدارس  السريانية وتتمحور حول محتوى الكتب المدرسية المستعملة في التدريس في هذه المدارس السريانية في هذه المرحلة الحساسة التي تتسم بضعف الدولة وسلطتها. والنزاع المذكور قائم بين طرفين: الأول تمثله غالبية السريان أصحاب هذه المدارس من جهة، والطرف الثاني تمثله سلطة الإدارة الذاتية في منطقة الجزيرة التي تسيطر عليها الأحزاب الكردية ومعها احد الأحزاب السريانية من جهة أخرى.

أن هذه المدارس السريانية كانت ولا زالت تُعلَّم ذات المنهاج المستعمل في كافة المدارس في سوريا كلها منذ بداية افتتاح هذا المدارس السريانية قبل حوالي مئة سنة ولغاية الآن، وانها مدارس رسمية مرخصة من وزارة المدارس في الدولة السورية منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة. لكن السلطة الكردية المحلية في المنطقة تطلب الآن من السريان تغيير هذه المناهج المدرسية، خاصة فيما يتعلق بتدريس المواضيع الحساسة لتناسب أفكار الإدارة الذاتية في الجزيرة السورية.

وعلى اثر هذه المحاولة انقسم السريان بين داعم لمطاليب سلطة الإدارة الذاتية في تغيير المناهج، وبين رافض لهذه المطاليب وتفضيل متابعة تدريس المنهاج المدرسي الحالي كما هو دون تغيير. وبسبب أهمية هذا الموضوع، وبسبب عدم إحاطة أطراف الصراع بكل أجزاء الموضوع والغوص بأعماقه لتفهم أبعاده، وبالخطأ الكبير في دعم هذا الطرف او ذاك في هذا الصراع، قررتُ أن اكتب هذا المقال البسيط من وجهة نظر سريانية/آرامية، لألقي فيه شيئاً من الضوء على الموضوع لينير السبيل أمام السريان الآراميين، فتتوضح الصورة أمامهم اكثر فيعلموا أين ينبغي أن يقفوا من هذا الصراع حول المناهج المدرسية، وليساعدهم في المطالبة بحقوقهم في المنطقة.

2.     عمق الموضوع التاريخي:

للسريان العديد من المدارس في منطقة الجزيرة السورية وخاصة في مدينة القامشلي التي هي اكبر مدن الجزيرة، التي كان لهم فيها وجود إيجابي مكثف منذ نشأة هذه المدينة ولغاية الأن. فكان لهم فيها مجموعة من المدارس تشمل المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، وكنتُ شخصياً قد درستُ في هذه المدارس أثناء طفولتي.  وتدرَّس في هذه المدارس التي يملكها السريان، نفس المواد المقررة في جميع المدارس العامة والخاصة في سوريا. كما أنها تستعمل نفس الكتب المدرسية المستعملة في جميع المدارس الأخرى في كل سوريا وذلك حسب مقررات وزارة المدارس (وزارة التربية والتعليم). وكانت ولا زالت لغة التعليم في جميع هذه المدارس السريانية هي اللغة العربية الفصحى، لكن يوجد فيها  تعليم اللغة السريانية لجميع الطلاب لكل الصفوف، بالإضافة الى تعليم بقية المواد المدرسية الأخرى لكل المراحل والصفوف.

 وان ما يسمى بمنطقة "الجزيرة السورية" تشمل الأراضي السورية الواقعة الى الشرق من نهر الفرات لغاية الحدود السورية العراقية قرب نهر دجلة، وتشكِّل قلب البلاد السريانية  حيث نشأت فيها عدة دول آرامية منذ الف سنة قبل الميلاد وأعطتها هويتها الآرامية السريانية منذ حينها.

ومنذ تأسيس المدارس السريانية ولغاية منتصف القرن العشرين كانت المدارس والثقافة والشهادات قطعة نادرة في منطقة "الجزيرة السورية" لعدم توفرها لجميع المواطنين السوريين في الجزيرة بسبب الفقر والجهل وضعف المواطنين العام باللغة العربية، لان معظم الطلاب كانوا يتكلمون في بيوتهم إما بالسريانية أو الكردية أو الأرمنية، كل واحد حسب القومية التي ينتمي إليها. ولأن معظم المجتمعات السكنية والمدن في الجزيرة كانت حديثة العهد حيث نشأ بعضها في العقد الثاني من القرن العشرين وبعضها لاحقاً، ولأن سيطرة الحكومة السورية على تسيير دفة الحكم في الجزيرة كانت  ضعيفة بسبب البعد الكبير عن العاصمة دمشق، وبسبب الإهمال السياسي والإنمائي، وبسبب ضعف الشعور بالانتماء الى الدولة المركزية ومركز الحكم في دمشق.

لكن منطقة الجزيرة السورية منطقة آرامية قديمة وضاربة في   أعماق التاريخ. وحسب التاريخ المدوَّن والموثَّق والمعروف لأهل الاختصاص كان للآراميين السريان فيها منذ اكثر من الف سنة قبل الميلاد بعض الدول والممالك والأمارات عندما كان اسمهم حينها "آراميين"، أي قبل أن يُطلق عليهم الاسم السرياني الى جانب اسمهم الآرامي في بداية القرن الخامس الميلادي، مثل مملكة "بحياني" في حوض نهر الخابور بقرب رأس العين وعاصمتها جوزان (تل حلف)، ومن ملوكها الشهيرين كبارا و شمش نوري في القرن العاشر والتاسع قبل الميلاد، ومملكة "فدان أرام" ومملكة "بيث عديني" شرقي الفرات وضمت جبل بشري، من القرن العاشر والتاسع، وممالك وأمارات "بيث لاقي" وعاصمتها كتليمو في الجزء الجنوبي من حوض الخابور والفرات قبل القرن العاشر قبل الميلاد، وغيرها من الممالك والدويلات الآرامية (السريانية) في الجزيرة السورية مثل "بيث حالوفي" و"ترقا" و"سوري" و"قطيني"، الخ.

وفي القرون المسيحة الأولى ولغاية احتلال العرب لهذه المنطقة في القرن السابع الميلادي، كان للسريان في الجزيرة الكثير من المدارس والمعاهد العلمية والجامعات السريانية تدرِّس العلوم المعروفة آنذاك، خاصة اللغة السريانية وعلومها واللغة اليونانية والفلسفة والطب واللاهوت والموسيقى وعلوم الكتاب المقدس وتفسيره وبقية العلوم الكنسية، مع مواد أخرى مثل الترجمة والتاريخ والجغرافية.

وبعد الاحتلال العربي المسلم لهذه المنطقة بدأت مرحلة التعريب التدريجي القسري، بالاعتماد على الأسلوب المتبع في  معظم المناطق أي بتطبيق سياسة الترهيب والترغيب والظلم الاجتماعي والديني والثقافي العام. فكانت محصلة هذه السياسة أن نجح العرب في تعريب المناطق التي احتلوها فسادت بها اللغة العربية وضَعُفت السريانية تدريجياً، ثم انزوت السريانية على نفسها وبقيت ضمن الأديرة والكنائس. ومنذ نشأة الدولة السورية الحديثة في العقود الأولى من القرن العشرين، أصبحت العربية هي اللغة الرسمية لجهاز الدولة ولكل مرافق الحياة والمواطنين والمدارس. ولكون العربية والسريانية شقيقتين متقاربتين جداً ومن أصل واحد، تعلَّم السريان اللغة العربية بسرعة وبسهولة وجعلوها لغة التعليم في مدارسهم بدلا من ان يجعلوا السريانية لغة التعليم. أما الأكراد في الجزيرة فبعد أن وفدوا إليها في موجات متعددة في القرون الأخيرة، كان لديهم الكثير من المصاعب في تعلم اللغة العربية رغم كونهم مسلمين ويستعملها شيوخهم في الصلاة. لكن بُعد اللغة الكردية عن اللغة العربية، والجهل العام لدى معظم الأكراد، كان عائقاً كبيراً أمامهم في تعلم اللغة العربية لغاية النصف الأول من القرن العشرين. لكن هذه الموانع والمصاعب تلاشت وزالت من أمامهم تدريجياً، فاخذ الأكراد يتقنون العربية مثل بقية المواطنين الآخرين.

والملفت للنظر أن المدارس السريانية موجودة في منطقة الجزيرة السورية قبل أن يكون للحكومة السورية فيها مدارس رسمية تابعة للحكومة.

وكان والدي المرحوم داويد اسعد (1909-1978) من مؤسسي المدارس السريانية في القامشلي، وكان من المسؤولين في لجنة الأشراف على المدارس لسنوات عديدة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وذلك  بعدما هاجر اليها من دمشق في بداية ثلاثينات القرن الماضي. وكان والدي قد نشأ في مدينة دمشق ودرس في مدارسها في العقد الثاني من القرن العشرين، وكان يغلي في محبة الثقافة ومختلف اللغات ودعم المدارس، ويتميز بحبه الكبير للتاريخ واللغة السريانية وحفظ الشعر بجميع اللغات العديدة التي كان يتقنها وبينها العربية، لذلك كان من كبار المثقفين في القامشلي حينها وعارفاً لدور المدرسة ومضمونها ومكانتها المحورية في تثقيف المجتمع السوري وتنويره، فنقل معه من مدينة دمشق فكرة المدرسة وضرورتها لتعليم المجتمع وترقيته. كما نقل معه من دمشق فكرة تأسيس الأندية الرياضية والجمعيات الثقافية والاجتماعية، فكان من أوائل الذين ارسوا مبادئ لعبة كرة القدم في القامشلي لأنه كان لاعباً في الفريق السرياني لكرة القدم في عشرينات القرن الماضي في مدينة دمشق، فنقل معه الى القامشلي مبادئ وقوانين كرة القدم وساهم في نشرها في القامشلي.

3.  حل النزاع على المدارس السريانية:

ان الجو الثقافي والقومي العام المسيطر في الكتب المدرسية في سوريا في جميع المراحل هو الجو العروبي التوتاليتاري، وان هذا المنهج يعتبر "الاحتلال العربي" لسوريا "تحريراً" لها، أي أن الكتب المدرسية وبشكل غير مباشر تفرض القومية العربية على كل المواطنين السوريين رضوا أو لم يرضوا. أما السلطة الذاتية في الجزيرة فأنها ترفض فكرة العروبة السائدة في الكتب وتريد أن تلغي هيمنة الفكرة العربية على المناهج المدرسية، وتريد تعليم الطلاب أن يقفوا موقفاً إيجابيا من الحركة الكردية. أمام هذا الصراع الذي يشبه السنديان والمطرقة حيث كل طرف يدافع فيه عن مصالحه ومصالح مجموعته، نقترح أن يهتم السريان في الجزيرة السورية بأمورهم السريانية، وان يفضِّلوا مصلحتهم السريانية من منظار سرياني بحت، وننتظر منهم أن يطالبوا بحقوقهم المشروعة من إدارة السلطة الذاتية في الجزيرة، ومن الحكومة السورية المركزية في دمشق، وان يقوموا بإعادة صياغة الكتب المدرسية التي تُدَرَّس في المدارس السريانية. أي يجب ان تُعَلِّم الكتب المدرسية السريانية على الأقل الأمور التالية:

1. تدريس مواضيع عن حاضر السريان وتاريخهم منذ ثلاثة آلاف سنة متواصلة،

2. يجب تدريس تاريخهم السرياني الآرامي السياسي والثقافي والاجتماعي،

3. يجب تقوية تدريس اللغة السريانية في مدارسهم بشكل يومي منظم وجيد افضل بكثير مما هو عليه الان،

4. تطوير تعليم اللغة السريانية تدريجيا لتصبح في المستقبل لغة التعليم الرسمية لكل المواد في جميع المدارس السريانية في جميع المراحل، وإلا لا معنى لهذه المدارس البتة،

5. يجب تدريس الأدب السرياني في كل المراحل الدراسية، وتدريس سير الأدباء والفلاسفة والمفكرين وبقية المثقفين السريان القدماء الذين ظهروا على مسرح الثقافة في كل العصور، وتدريس منتجاتهم الفكرية، الخ.

وكل هذا حق طبيعي للسريان دون أي منية من احد او من أية جهة. فبدلاً من أن يدعم السريان هذا الفريق أو ذلك في هذا الصراع على المناهج المدرسية، عليهم أولا أن يفكروا بحقوقهم السريانية التي تقوم على تاريخهم ووجودهم وهويتهم وثقافتهم في المنطقة ويفضِّلوها على كل شيء آخر. كما ينبغي أن تضم كتب مدارسهم معلومات كافية وصحيحة عن جميع الشعوب السورية و قومياتها وأديانها وثقافاتها ومثقفيها، ليس فقط الموجودة في الجزيرة أنما الموجودة في كل سوريا من أقصاها الى أقصاها، وتعليم تاريخها الصحيح وليس المزور كما هو حال اليوم، لتفهمها وتقوية الروابط الوطنية بين بعضهم.

ولأجل تنفيذ هذه الفكرة ينبغي التعامل مع كل أطرف هذا الصراع بحيادية واحترام وجدية، والتعامل مع كل الأطراف الأخرى، الأكراد والعرب وغيرهم، التي تتقاسم السلطة السياسية في منطقة الجزيرة، وفي كل المناطق السورية الأخرى، بموضوعية تامة واحترام كبير للجميع كما تقتضيه المواطنة الصالحة القائمة على التفاهم واحترام البعض والعمل على رفع شأن البلد وتطويره.

فإذا رغب السريان في سوريا بتطبيق هذه الأفكار التي نطرحها هنا، فانا مستعد للتعاون معهم في فحص الكتب المدرسية الحالية بعينٍ سريانية، وثم تأليف بعض الكتب المدرسية الجديدة تضم المواضيع المطلوبة عن السريان والهوية السريانية الآرامية، والدروس عن الثقافة السريانية والأدب السرياني، الخ، اي كل الأمور التي ينبغي أن تتواجد في الكتب، وذلك بالاعتماد على معرفتنا النظرية الجيدة وخبرتنا العملية الطويلة جداً في مجال القضايا البداغوغية التعليمية التربوية    Pedagogical education and didactics

   والديداكتيكية في كيفية التعليم، وكذلك صياغة دروس من هذه المواضيع عن السريان كما ينص علم السيرولوجيا

Syrology.

Diaspora

وانا واثق بان السريان في بلاد الانتشار يشجعون هذه الفكرة وهم على استعداد لدعمها.

مع محبتي وتقديري لكل السريان

الدكتور اسعد صوما

ستوكهولم

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها