المخطوطات
الطقسية ، تراث الموارنة العريق وأدبهم الجليل
مقدّمة :
إذا كان الموارنة يملكون أدبًا مُدوّنًا نُكر عليهم من كثيرين ، فإننا هنا
، نتوخّى عمدًا وقصدًا ، إبراز هذا الادب الجليل المدوّن محليًا ، والتي
تبنتّه الكنيسة المارونية ، فوضعته تحت تصرّفها بالاستعمال الطقسي ، في
الاجيال السحيقة التي كُتب فيها . ولذلك أخذ هذا الادب مكانته المميّزة
والراسخة على مرّ العصور ، ولكنّه طُمِس هذا الأدب إبّان موجات الليتنة
الثقافية للموارنة ، التي حجبت هذا الأدب الجليل، أعني التراث الطقسي
والليتورجي المقدّس .
ما هو الأدب الماروني ؟
الأدب الماروني هو كل النصوص المكتوبة ، التي دوّنها الموارنة عبر التاريخ
، في لبنان أو خارجه ، كتعبير عن تاريخهم أو حياتهم الاجتماعية أو طقوسهم .
ولكي نحصر موضوعنا هنا نقول : نعني بالأدب الماروني ، تلك المصنّفات
الطقسيّة المدوّنة محليًا ضمن مجلّدات ضخمة ومخطوطات كبرى ، باللغة
السريانية (اللغة الطقسية للكنيسة المارونية) ، والسابقة للاتصال بروما عبر
مدرستها سنة 1585م ، وبالتالي عن التأثير اللاتيني الذي شوّه هذا الطقس .
وفي نفس الوقت ، يُبرز هذا الادب حفاظه على طابعه الانطاكي والسرياني
والشرقي ، دون دخوله أو ذوبانه بطقس آخر ، بل حافظ على عناصر الطقس
الماروني وهويّته المميّزة .
محتوى الادب الماروني
إنّ محتوى الادب الماروني ، نكتشفه من خلال عودتنا الى الاصول العريقة
المدوّنة والتابعة للموارنة ، وهي وافرة بعودتها الى ما قبل القرن الخامس
عشر م ، وما بعد القرن الحادي عشر م ، فتشكّل هذه الفترة ، مرحلة المصادر
الطقسية الاصيلة ، للكنيسة الانطاكية السريانية المارونية ، أكانت تأليفًا
أو نسخًا ، كما أنّ هذا الأدب قد بدأ بالتكوّن منذ القرن الثامن وحتى القرن
الاثني عشر ، ولكن ضاعت أصوله وتلفت كما يقول المؤرّخ الدكتور أسد رستم
“وقد سطَت يدُ الدهر وعَوادي الزَمن ، على آثار الموارنة الاوّلين ، فلم
يبقَ منها شيء يُذكَر . وأقدم ما عند الموارنة كتاب الهدى …” (تاريخ
انطاكيا ، الجزء الثاني ، ص 57) .
فالتراث الماروني ، المكوّن من الفروض الليتورجيّة على مختلف أنواعها ، ”
تشكّل أكبر أدَب ليتورجي من نوعه في الكنيسة شَرقًا وغربًا” ، فالفرض
الماروني هو “المجلّدات الضخمة التي كان يتعملها الموارنة في احتفالهم بفرض
الساعات السبع اليومية على مدار السنة الطقسية ” .
وهذه الفروض ، أخذت من مصادر عريقة في القدم والأصالة ، دوّنها الكتّاب
الموارنة ونسخها نسّاخهم ، قبل تنسيق فروضهم وهيكلتها وتوزيعها . فهذه
المصادر هي من فئة البيت غازو (كلمتان سريانيّتان تعنيان : بيت الكنز ، أي
كميّة ضخمة من النصوص النثرية أو الشعرية ، تشكّل كنزًا ليتورجيًا) ، وهذه
الكميّة هي النصّ الاقدم –تاريخيًا- للصلوات المارونية ، السابقة لأي تنظيم
وهيكلية للفرض الماروني المنظّم لاحقًا . وبالتالي هي النصوص الاصلية
والينابيع الوافرة التي استقى منها الموارنة ، عبر علمائهم ونسّاكهم
ونسّاخهم ، تنسيق طقوسهم وترتيبها لتصير قيد الاحتفال ، كون البيت غازو هو
مجموعة ضخمة من الالحان لكل مناسبة والآبيات لكل لحن . ولا ينحصر البيت
غازو بأنه مجموعة ضخمة من الالحان وأبياتها ، لا بل هو أحيانًا بيت غازو
للقراءات ، او للجنازات ، او لمواضيع لاهوتية عريقة ، أو لمتعيّدات ، أو
للصلوات العادية (الشحيمة) … وبالتالي فإنّ تعريف البيت غازو هو : ” مخطوط
يتضمّن مجموعة من الألحان والصلوات والقراءات الكتابية والنصوص ، المتعلّقة
بالفرض الالهي ، أو بالجنّاّزات ، أو بسواها من الصلوات . وهي سابقة ،
تاريخيًا ، للهيكلية الحالية ، أو المعروفة ، أو المتداولة ” . وبالتالي ،
فالبيت غازو هو ” مجموعة كبيرة من الالحان ، المتعلّقة بموضوع معيّن ” ،
تصل الى عدد كبير من الآلحان والأبيات والقراءات ، كمًا ونوعًا . ولذلك “هي
الينابيع التي غرف منها واضعو الشحيمة الحالية أو المتعيّدات السنة الطقسية
” ، ومختلف الفروض الليتورجية ، التي احتاجتها الكنيسة المارونية برمّتها ،
لتنظيم طقوسها الرعائيّة والرهبانيّة .
قيمة الادب الماروني وفوائده :
من روعة تراث الموارنة ، تراث كنيستهم العريق ، أنّ يكون هذا التراث ،
تراثًا مقدّسًا بكلّ ما للكلمة من معنى وقوّة . تراث الموارنة هو تراث مقدس
، لأنّه تراث طقسي تبنّته الكنيسة المارونية واستخدمته في صلواتها وطقوسها
ورتبها وأعيادها الغنيّة والرائعة . لذلك علة الموارنة ، أن يعوا تراثهم ،
ويفتخروا به ، بأنه تراث مقدّس وشريف وطاهر .
لا يمكننا حصر قيمة هذا الادب الجليل وفوائده ، فإذا أخذنا المصادر التي
نشرَت حتى الآن ، من سنة 2000 وحتى 2009 ، نجدها كتبًا متلألئة بالجمال
والحيوية والهيبة والعظمة . فكل الكتب التي تصدر تحمل فوائد لا عدّ لها ،
وتحتاج طويلاً لإيفاء ما تحويه من كنوز : روحية ، إيمانية ، لاهوتية ،
إنسانية ، لغوية ، أخلاقية ، تعليمية ، ليتورجية ، موسيقية ، تاريخية ،
أدبيّة ، ثقافية ، إجتماعية ، تربوية، نُسكية ، رعائية ، رهبانية ، تأمّلية
، وغيرها من الفوائد الكثيرة ، وهي كنوز فعليّة ، وليست كنوز للكنيسة كي
تستفيد من نصوصها للتجديد الطقسي ، بل كنوزًا لكل المؤمنين والعلمانيين ،
ليغرفوا من محتواها الثمين للغاية ، المليء طهرًا ورقّة وعمقًا وإحساسًا .
خاتمة :
إنّ للموارنة ادبًا عريقًا ، هو ادب الكنيسة المارونية . هذا الادب هو ادب
أنطاكي سرياني عريق ، له الانتماء الماروني الواضح والاكيد ، دون أن ينفي
هذا الإنتماء ، شرقيّة هذا الطقس ، وأنطاكيته ، وسُريانيّته ، وأصالته
الرائعة . ومن ينفي هذا الانتماء او الهوية المارونية عن هذا الادب ،
فمجرّد خزعبلات لا معنى لها ، وأوهام لا طائل لها . ومن يقلّل من قيمته
الانطاكية ، فهذا كلام غير علمي مطلقًا . ومن ينسف أصالته السريانية ، نكون
أخرجنا الفرض الماروني من الهذيذ الروحي ، الى هذيان من يدّعي هذا الادّعاء
اللامنطقي ، ومن ينزعه من هويّته الشرقية المتجذّرة ، يكون في جهل للطقوس
ولا علم له بشيء بها .
وحسبنا ، أن نكون بتلك الدراسة الاولية ، قد أعطينا العِلم للموارنة ولكل
المهتمين ، للمجحفين والظالمين تجاه تراث الموارنة وطقسهم ، أن نكون أظهرنا
لهم وجود تراثنا في المخطوطات ، حضوره في طقوسه كنيستنا ، نشره بطريقة سهلة
ورائعة ومفيدة ، ليكون بين أيدي الناس ، كلّ الناس ، لأول مرّة في التاريخ
، فتكون هذه المحاولة الكبيرة ، في نشر المخطوطات ، الخطوة الاولى
“للديموقراطية” بنشر الادب الماروني للملأ ، بعد أن كانت محجوبة ومدفونة
لدهور وسنين .
وفي كل الاحوال ، تبقى سلسلة المصادر الليتورجية المارونية ، التي يتكرّم
ويتشرّف بإصدارها قُدس الاباتي تابت ، بعلميّة رصينة وإتقان لا مثيل له ،
خير شاهد على صحّة وجود هذا التراث وجلاله وقدمه وعراقته وأصالته ، وهي
الجواب الانجع والأصدق لكل من يبغي معرفة ما ، عن تراث الكنيسة المارونية
المقدّس والاصيل . |