عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

تأليف الأب البير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.

الموصل الطبعة الأولى – بيروت-1970


الفصل الأول

الآراميُون وَالآراميَة

1ـ الآراميون

ظهر الآراميون في التاريخ منذ الالف قبل الميلاد كقبائل رحّل ثم شكلوا دويلات عديدة لم تفلح في تكوين امبراطورية قوية شأن الامبراطورية الاشورية او الفارسية، بل ظلت دويلات تعيش على هامش الدول  الكبرى تتحالف تارة مع بعضها وطوراً مع الامم المجاورة لصد العدوان عنها. لكن هذه السياسة اخفقت في الابقاء على هذه الدويلات، اذ انهارت الواحدة تلو الاخرى تحت ضربات الدول الكبرى وزال تأثيرها السياسي وتلاشى استقلالها النسبي، فامتزجت شعوبها بالأمم المجاورة واندمجت فيها.

اصلهم

ان اصل الآراميين غامض، شأنهم في ذلك شأن شعوب أخرى. فليس في حوزتنا وثيقة تطلعنا على الموضع الذي نزحوا منه ولا مستند يروي لنا نشأتهم."1"  فهناك من يقول انهم من الموجة السامية التي انطلقت من جنوبي العراق باتجاه الفرات الاعلى، وآخرون يقولون انهم من الجماعات النازحة من الشمال عبر الحدود الغربية من الصحراء السورية باتجاه البلاد المصرية وبلاد كنعان والبقاع الواقعة على ضفتي نهر الفرات. ولقد وردت دلائل تشير الى هؤلاء الرحل في مصر منذ السلالة الاولى(نحو 3100 ق.م) باسم "ستيو". واطلقت الوثائق الاكدية عليهم اسم "سوتيو" او "سوتو" في نحو سنة 2700 ق.م. واخذت هذه التسميات تدل في الوثائق الآشورية المتأخرة على "الرحل " ثم اطلق اللقب على العموريين والآراميين على حد سواء، طالما لم يكن فرق واضح بين العموريين الذين سكنوا "ماري" والآراميين القدماء الذين عاشوا في المناطق المجاورة. وقد وردت ايضاً اشارات الى الآراميين في النصوص العمورية الصادرة من " ماري" وفي الالواح التي عثر عليها في اوغاريت... ومنذ عهد تل العمارنة (نحو 1400 ق.م) اخذت الوثائق الاكدية تطلق لقب "اخلامو" على هؤلاء الرحل، وقل استعمال اسم "سوتيو" ثم زال تماماً. اما تغلاتفلاصر الاول الآشوري (1112- 1076ق.م) فقد خلط بين الاخلاميين والآراميين، في قصة انتصاراته على القبائل الاخلامية التي كانت آنذاك على الاقاليم الغربية من الامبراطورية اشورية.

اما لقب "آرام " فهو اسم جغرافي اطلق على المرتفعات (ܐܪܥܐ ܪܡܜܐ الارض المرتفعة) الواقعة في الشمال الشرقي من سورية. ثم خلعه الاشوريين على الجماعة التي وجدت في تلك المنطقة، ومن ثم عمت التسمية كل القبائل التي تنتسب الى أصل واحد. وينتسب الآراميون في الكتاب المقدس الى آرام بن سام بن نوح "2" او الى اسرة ناحور "3"

توسعهم

فيما توجه بعض هؤلاء الآراميين الرحل شطر البلاد المصرية عبر الصحراء السورية، تحرك غيرهم نحو الشرق عبر الطريق المؤدية الى بابل السفلى. ومن بين هؤلاء كان "القسيّون" الذين يمتون بصلة القربى الى أبناء ناحور"4" ، وقد نزلوا بابل مثل الكلدانيين في عهد داود ( نحو1000 ق.م.). ولذا يرى البعض صلة قرابة بين الآراميين والكلدانيين "5". وهؤلاء النازحون الى الجنوب سكنوا منطقة الأهوار في أعالي الخليج في بقعة سميت "بلاد البحر". ومن هناك أخذوا يتغلغلون في البلاد البابلية. وقد أصبحوا، في العصور الآشورية الأخيرة، حلفاء عيلام ضد جيرانهم البابليين والاشوريين. أما الاراميون الشرقيون الآخرون، فقد زحفوا نحو شمالي دجلة وسكنوا على ضفاف الزابين.

وهناك جماعات آرامية أغارت على منطقة الفرات انطلاقاً من "ربيقو". وما أن اجتازت الفرات حتى سارت بمحاذاة نهري خابور  "6"  والبليخ صعداً نحو منبعهما. فانتشرت دويلات منهم على ضفاف الخابور في "بيث بخياني" بجوار "تل حلف" ورأس العين الحالية. وقد أصبحت هذه المنطقة سنة 808 ق.م. قسماً من الولاية الآشورية المسماة "غوزانا" "7". وتركزت دويلة "شوفريا" في ما وراء تلك المنطقة، بين جبال كشاري والقمم الشرقية لجبل قرة داغ الحالي. وتكونت دويلة "بيث زماني" في الشمال الشرقي منها وعلى طول الضفة الشرقية للمداخل العليا لنهر دجلة بالقرب من ديار بكر. وبين "سوحو" و "كركمش" استوطنت فئات أخرى من الآراميين على طول صفاف الفرات في عهد الملكين الآشوريين آشور-ايشي الأول (1132- 1115 ق.م.) وتغلاتفلاصر الأول (1112- 1076 ق.م.) وقد لاقي هذا الأخير صعوبة كبيرة في طردهم وإبعادهم عن تلك المنطقة. إلا أنهم عادوا اليها ثانية حين دب الضعف في المملكة الآشورية، واسطاعوا أن يثبتوا أقدامهم فيها. أما مدينة "فترو" "8" التي سقطت بأيدي الآشوريين في القران الحادي عشر قبل الميلاد، قبل انكسار شوكة الحثيين في سورية، فقد عاد الآراميين واسترجعوها في عهد الملك أشور رابي الثاني (1012- 972 ق.م). وتقع هذه المدينة ضمن مقاطعة آرامية هامة هي "بيث أديني" "9" التي تشغل المنعطف الغربي للفرات وتمتد على ضفتيه شمالاً حتى مداخل "ارباد". وكانت الطريق الرئيسة تمر بحرّان عبر هذه المقاطعة باتجاه سوريا، وهي المقاطعة المركزية لآرام النهرين "10" التي كانت في الأصل تمتد من نواحي حلب الى نهر الخابور، وتشمل حدودها الشمالية الرها وتل حلف ونصيبين. وقد صدت "بيث أديني" الآشوريين في تقدمهم السريع نحو البحر المتوسط وأصبحت رائدة الآراميين في وجه قوة الآشوريين.

وهكذا فقد توصل الآراميون الى ملء المنطقة المجاورة لحرّان التي كانت مركزاً هاماً للتجارة الآشورية. وحرّان هي "فدان آرام" (طريق آرام) التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس "11" وكانت موطن ناحور وابراهيم ولوط وبتوئيل ولابان "12"، ومنا نزح ابراهيم الخليل الى سورية ثم الى أرض كنعان، ولكنه عاد فاتخذ منها رفقة زوجة لابنه اسحق. واسحق ايضاً ارسل اليها ابنه يعقوب "الآرامي التائه" ليأخذ له زوجة من عشرته. وهكذا نشاً الشعب العبري من الزوجتين الآراميتين (ليّا وراحل) اللتين جلبها معه الى ارض كنعان."13"

الدويلات الآرامية

لقد سبق العموريون الاراميين في السكنى على ضفاف الفرات الاوسط، فاتجه الاراميون نحو الغرب. ثم دفعت الامبراطورية الاشورية في زمان قوتها ( 1327- 1076 ق.م) بالقبائل الآرامية نحو الشمال الغربي حيث استقروا في الاماكن الخالية من الجيوش. وهكذا نشأت دويلة "ياحان" الآرامية عند الحدود الغربية لبيث أديني، وكانت عاصمتها ارباد التي كان يحكمها الامير "متي-ايلو". وقد حفظ نص المعاهدة التي عقدها مع اشور نيراري الخامس (755- 745ق.م) بالصيغتين الاكدية والآرامية. ثم ثار هذا الامير على تغلاتفلاصر الرابع (7455- 745ق.م) وكانت نتائج تلك الثورة وخيمة على دويلته"14". وازدهرت دويلة "حطينا" في السهول الواقعة بالقرب من بحيرة انطاكيا. اما في الشمال الغربي من جبال الامانوس فنشأت دويلة "يعدي" او سمأل" الآرامية التي منها وردتنا اقدم النصوص الآرامية، وكانت عاصمتها "زنجرلي" المشرفة على المضايق المؤدية الى قيليقية. وقد استولت هذه الدويلة ايضاً على الطريق الرئيسية التي ما بين النهرين بقيليقية. واخيراً توصل الآراميون الى التغلغل في سهول قيليقية وكوّنوا منها امتداداً لسوريا... وفي جنوبي "حطينا"، بين حلمان (حلب) ودمشق، نشأت مملكة حماة التي ضمت 19 مقاطعة وشكلت الحدود بين فلسطين وسوريا "15"، وقد ادى ملكها "توعي" الجزية للملك داود "16". ثم سمّى "زكير" ملك حماة قسماً من هذه الملكة باسم لعش" وهي واقعة بين حلب و حماة ومن اهم مدنها الحصينة " حزرك" "17". وفي شمالي دمشق تكونت مملكة "صوبة" التي كانت حدودها الشرقية تمتد الى الفرات "18" حيث اقتطعت من الملك الاشوري اشور رابي الثاني (1012- 972) مدينتي "فيترو" و "موتكينو". وقد وردت اشارات كثيرة الى صوبة في الكتاب المقدس "19". وكانت دمشق الواحة الخضراء مدة طويلة "راس آرام" (شام) "20" ومحطة القوافل المتوجهة الى البلاد العربية والى العراق والى مصر عبر مقاطعة الجليل وشطآن البحر المتوسط. فأصبحت من ثم مركزاً اقتصادياً وثقافياً وسياسياً خطيراً "21". وقد لعبت الشام الآرامية دوراً هاماً في توازن القوى بين الدويلات المجاورة وساهمت في انهاك قوى الامبراطورية الاشورية. وظهرت دويلتان اراميتان شرقي بحر الجليل، وهما "جشور" و "معكة" اللتان دوختا الملك داود، وساندتهما في ذلك دويلة "طوب" الآرامية الواقعة بالقرب من "الطيبة" على الطريق المؤدي من بصرى الى درعا. وقد تحالف مع صوبة ومعكة ضد داود الملك أراميو "بيث رحوب" الواقعة بالقرب من حدود حماة، وكانت "لاييش" كبرى مدنها تقع في أحد الأودية بالقرب من منابع نهر الأردن "22" . ويقال ان العمونيين أنفسهم كانوا آراميين يمتون بصلة الى ابراهيم والى آراميي ناحور في حران بواسطة لوط "23"

نرى من كل ذلك أن الدويلات الآرامية العديدة كانت ضعيفة بذاتها. وتظهر لنا كتابة زكير ملك حماة، كما وردت في 2 صموئيل 8: 10، أن هذه الدويلات كانت تحارب بعضها بعضاً وتعير خدماتها لجيرانها متى اقتضت مصلحتها ذلك (2 أخبار 16: 1 – 4). وكانت قوتها تكمن في سهولة دخولها في احلاف مؤقتة لمجابهة عدو مشترك. ففي قرقر مثلاً، قام تحالف يضم 11 دويلة بزعامة دمشق الشام وحاولوا سنة 853 ق.م. صد الملك الآشوري شلمناصر الثالث واخفاق خططه الرامية الى اخضاع سورية كلها وفلسطين.

انقراض الدويلات الآرامية

لم تُجد الآراميين أحلافهُم أمام القوة الهائلة التي امتازت بها الامبراطورية الاشورية في يقظتها. فقد قام فيها ملوك اشداء قضوا على المقاومة الآرامية بهجماتهم المتكررة والمتلاحقة، وحولوا دويلاتهم الى مقاطعات تدور في فلك اشور. فسقطت "بيث اديني" في قبضة شلمناصر الثالث سنة 856 ق.م واصبحت جزءاً من الولاية الاشورية المدعوة "قار- شلمان اشاريدو". واستسلمت ارباد لتغلاتفلاصر الثالث سنة 740 ق.م، وحذت حذوها صوبة ودمشق سنة 733ق.م. واستولى سرجون الثاني على حماة سنة 720 ق.م بعد ان غزا إسرائيل سنة 721 ق.م وسبى عدداً كبيراً من سكانها الى الارضي الآرامية الواقعة بالقرب من الخابور والى منطقتي غوزانا وحماة. وقد اجلى جماعات آرامية من حماة واسكنها في السامرة. ويفتخر تغلاتفرصر الثالث (745- 727ق.م) انه نفى اكثر من 40 الفاً من سكان سوريا الشمالية الى المناطق النائية من الإمبراطورية، وانه ارسل 12 الف آرامي – اخلامي من منطقة الزاب شرقي دجلة الى سوريا، واجلى غيرهم من المراكز الآرامية الهامة. وقد ذكر القائد الاشوري، عندما حاصر أورشليم سنة 701 ق.م انه قضى على حماة وارباد بجيوشه الجرارة. وهكذا فقد قضى على نفوذ الآراميين السياسي في المنطقة الغربية، وظلت منهم بقية نشطة منتشرة في المنطقة الوقعة جنوبي بابل، وقد ازدادوا قوة بما وافاهم من الآراميين الهاربين من الشمال، واستقروا خصوصاً في الواحات الواقعة شرقي دجلة في حدود بابل وعيلام واصبحوا حلفاء بابل يسببون متاعب كبير للإمبراطورية الاشورية، حتى افلحوا في القضاء عليها وتدمير عاصمتها نينوى 612 ق.م. ولما تشكلت الملكة الكلدانية (البابلية الحديثة)، امتزج اراميو بابل وذابوا فيها.

(يتبع)


1-. هناك كتابات مسمارية ترقى الى القرن الرابع عشر قبل الميلاد تنقل لنا ان جماهير من بطون "سوتي" الآرامية استقرت في نواحي دمشق وان قبائل اخلامية من العنصر الآرامي استوطنت جنوبي الفرات بالقرب من الخليج العربي (طالع ولفنسون، تاريخ اللغات السامية، مصر 1929، ص 115).

2- تكوين 10: 22- 23

3- تكوين20: 20-21

4- تكوين 22:22

5- Dhorme> Revue Biblique 1928 P. 484.

2 ملوك 17: 6

7- هي غوزان التي نفي اليها بعض اليهود ( 2 ملوك 17: 6، 18: 11، اشعيا 37: 12).

8- هي فيتور وطن بلعام في آرام النهرين وتقع على ضفة الفرات الغربية على بعد عدة فراسخ جنوبي كركميش (تكوين 22 :5 ، تثنية 23: 4)

9- طالع عاموس 1: 5- بيث عدن ، 2 ملوك 19: 12 اشعيا 37: 12، حزقيا 27: 23

10- تكوين 24: 10، تثنية 23: 5، قضاة 3: 8، 1 أخبار 19: 6

11- تكوين 25: 20، 28: 2, 5-7، 31: 18

12- تكوين 22: 20- 24، 24: 4 : 7: 10، 2: 20، 28: 2، 12: 4-5

13- تكوين 24-1، 26: 5، 28: 2-5

14- 2 ملوك 18: 34

15-عدد 34: 8، 1 ملوك 8: 65، 2 ملوك 14: 25، حزقيال 47: 15، عاموس  6 :14

16- صموئيل 8 :، 1 اخبار 18: 9-10

17- هي حدراك الواردة في زكريا 9 :1

18- 2، صموئيل 8 :3

 19-1 ، صموئيل 14: 47، 2 صمو 8 :5-8، 10: 15-18،23 :36

20 اشعيا 7: 8

21- حزقيال 27: 18 9 -1، 1 ملوك 16: 10

22-2 صمو 10: 8، عدد 13: 22، قضاة 18: 28-29

23- تكوين 11: 26-27، 19: 30-38

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها