عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية

مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة

سقوط الامبراطورية الآشورية:

( من صفحة 581 الى  583 )

 

 

طه باقر (1912 - 28 فبراير/شباط 1984) عالم آثار عراقي.


    لم يكد يمضي زمن طويل على تدمير بلاد عيلام حتى أخذت ظواهر الأحوال تشير إلى ان الملك آشور بانيبال نجح في توطيد أركان إمبراطورتيه الواسعة الممتدة من جبال طوروس وجنوبي الأناضول وأرمينية وبحر قزوين إلى جبال زاجروس وإلى الخليج العربي.

ولكن رغم الظواهر سرعان ما انهار ذلك البناء الشامخ الضخم. فكيف وقع ذلك؟

ومع ان سقوط الدولة الآشورية يشترك في علله وأسبابه العامة مع الكثيرة من الأسباب التي درج المؤرخون على تعدادها عن سقوط الدول والإمبراطوريات، بيد أن سقوط الإمبراطورية الآشورية يتفرد في بعض العلل الخاصة، منها ما كان خافياً ومنها ما كان ظاهراً للعيان.

فمن الأسباب الظاهرة أن المتتبع للتأريخ الآشوري لا بد وأن تلفت نظره حقيقة بارزة فيه، تلك ي تطرف الملوك في سياسة الفتح والغزو والإغريق في النواحي العسكرية والروح الحربية. وتكاد تكون أعوام حكم ملوكها حروباً متواصلة، بحيث إنهم حملوا مواردهم فوق طاقاتها، ومدوا فتوحهم إلى جهات نائية يتعذر الاحتفاظ بها، ولعل أوضح مثال على ذلك فتح مصر الذي أنهك ماكنة الحرب الآشورية عدة سنوات.

وإلى ذلك فإن سياسة القسوة والتدمير والقتل الجماعي والتمثيل بالأسرى التي سار عليها الملوك الآشوريون جرت على الآشوريين، رغم الإرهاب الذي كانت توقعه بالشعوب المفتوحة، نقمة الشعوب وسخطها، أما ولاؤها وتبعيتها لهم فلم يكن ليحصل إلا باستمرار الإرهاب والبطش إلى حد الإسراف.

وابتدع ملوك الدولة الآشورية وسائل جهنمية في هذا الشأن، ومنها سياسة تهجير الشعوب والأقوام برمتها ومحو البعض منها، بحيث يصح القول إن مثل تلك المظالم قد برهنت على صحة الحكمة التأريخية القائلة "الظلم إذ دام دمر".

وإلى هذا فإن التطرف والإغراق في العناية يقنون الحرب والفتك والدماء على حساب فنون السلم والبناء سبب إهمال تطوير موارد البلاد وتحميلها فوق طاقاتها.

ومهما كانت حقيقة الأسباب الخفية والظاهرة في سقوط الإمبراطورية الآشورية فيجدر أن نوجز الأحداث المباشرة، فنقول إن السنوات الأخيرة من حكم آشور بانيبال (630 – 639) يكتنفها الغموض، فقد انقطعت حولياته منذ عام 639 ق.م ولعل السبب في ذلك الاضطرابات الداخلية والنكسات العسكرية، ولذلك فيكون المؤرخ الشهير هيرودوتس مصدرنا الوحيد في ما رواء عن هجمات الماديين (1)، إذ يقول إن افراهاط ملك الماديين هاجم الآشوريين ولكنه قتل في المعركة (653 ق.م وخلفه ابنه كي اخسار (Cyaxares) الذي لم يواصل الحرب مع الآشوريين ولكن الاشكوزيين فرضوا سيادتهم على الماديين، وعبروا جبال زاجروس وغزوا بلاد آشور وسورية وفلسطين وكادوا أن يدخلوا إلى مصر لو لا أن الفرعون "يسماتيك" دفع لهم الجزية، وبعد نحو 28 عاماً تمكن "كي اخسار" السالف الذكر من طرح نير الاشكوزيين عن قومه بقتله زعمائهم وهم ثملون في وليمة شرب، واستطاع هذا الملك المادي أن يكون من القبائل المادية جيشاً قوياً ضخماً، واتخذ "اكتبانا" (همذان) عاصمة له، ووسع حدود مملكته من بحيرة اورمية إلى منطقة محولتهم لنيل الاستقلال عن التبعية الآشورية.

 وتزعمهم في هذه المرة حاكم "اقطر البحري" (الاجزاء الجنوبية من بلاد بابل) المسمى نبو بولاصر وهو كلداني أي آرامي الأصل، فهجم على الحامية الآشورية في مدينة نفر 626 ق.م ثم قصد بابل واستقل بعرشها واخذ بصفي الحاميات الآشورية الأخرى في بلاد بابل، كما سبق له أن تحالف مع الملك المادي "كي ــ أخسار"، السالف الذكر، الذي توجه في حدود ذلك الزمن بجموعه إلى بلاد آشور.

 أما الملك آشور بانيبال فإنه توفي في العام 627 أو 626 ق.م وخلفه على العرش ابنه المسمى آشور اطل ايلانسي الذي لم يدم حكمه زمناً طويلاً وتلاه في الحكم أخوه المسمى "سين شار ــ اشكن" الذي لم يستطع إنفاذ الوضع المتدهور سوى اتخاذه موقف الدفاع إزاء هجمات الملك البابلي "نبو طلب العون من ملك مصر، بسماتيك الأول، ولكن العون المصري جاء متأخرا في الوقت الذي كانت فيه العاصمة الآشورية "نينوى" مهددة بالسقوط من جانب "نبو بولاصر"، كما أن الجيوش المادية بلغت في زحفها في نهاية عام 615 ق.م إلى منطقة كركوك، ثم مدينة "آشور" التي سقطت بأيديهم في عام 614 ق.م. والتقى الملك البابلي بالملك المادي "كي ــ اخسار" عند أسوار هذه المدينة.

وعقدت ما بين الملكين معاهدة تحالف وصداقة كان من نتائجها زواج ولي العهد البابلي نبوخذ نصر الشهير من ابنة الملك المادي المسماة "أميتس" (2) وزحف الجيش من بعد ذلك على العاصمة نينوى القريبة وكان الهجوم الأخير في عام 612 ق.م قد قرر مصير الدولة الآشورية حيث سقطت العاصمة العظيمة، رغم ما أبداه المدافعون عنها من بسالة واستماتة في حصار دام طوال ثلاثة أشهر.

وهكذا سقط ذلك "المرد الآشوري" بعد ان دوخ العالم القديم عدة قرون (3).

 وانسحبت فلول الجيش الآشوري إلى مدينة حران، بقيادة أحد قواد الملك الآشوري "سين شار ــ اشكن" المسمى آشور أوبالط الثاني.

 وجاء عام 610 ق.م جيش من مصر لمساعده الآشوريين فأسرعت الجيوش البابلية والمادية إلى حران.

وبعد حرب قصيرة استولت عليها، فكان هذا نهاية الفصل الاخير من تلك الدراما التأريخية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) Herodotus، I، 102 ff

(2) حول هذه الاحداث انظرGadd، The Fall of Nineveh

(3حول صدى سقوط بلاد آشور عند اليهود راجع التوراة ولا سيما أسفار الأنبياء مثل سفر "ناحوم" 3-2 فيما بعد، وسفر حزقيال 3:31، 32: فما بعد.


ملاحظة

قضية ولاية العهد: ( صفحة 576 الى 577)

قبل أن يتوفى أسرحدون بثلاثة أعوام ريب أمر ولاية العهد بين أبناء، ولاسيما بين ولديه "شمش ـــــ شم ــــ أوكن"، وهو الابن الأكبر وابنه الأصغر "آشور بانينال" الذي اختاره لتولي العرش. وعين الأول ملكاً على عرش بلاد بابل. وقد تمت هذه التسوية في اجتماع رسمي حضره الأمراء وقواد الجيش والسفراء وممثلون عن الأقاليم التابعة للأمبراطورية ، وأخذ البيعة منهم في ولائهم لولي العهد آشور بانيبال، وأبرمت بهذا الشأن مع رؤساء الأقاليم التابعة معاهدة وجدت نسخة منها في نمرود في أثناء الموسم السادس من تنقيبات البعثة البريطانية (1).

ويبدو أن ولى العهد المختار آشور بانيبال كان محبوباً مفضلاً من جانب جدته لأبيه الآرامية الأصل واسمها " نقية ـــ زكوتو" فحصلت من البابليين ومن حفيدها الثاني "شمش ـــــ شم ــــ أوكن"، على الولاء لآشور بانيبال....

(1)- راجع نص المعاهدة في :

 Wisemam,in IRAQ)1958). Gff.

نقية ـــ زكوتو مع إبنها  أسرحدون وهم في معبد الإله مردوخ في بابل موجودة حالياً في متحف اللوفر.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها