عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  

منشوَرات الجامعَة اللبنَانيَّة كلية الآداب والعلوم الإنسانية

بيروت-1969

مقدمة

الآراميون السريان

نبذة تاريخية  

 لا تفيد لفظة السريان من قبيلة أو فخذاً من قوم، ولا فرعاً من أصل او جزءاً من كل؛ بل أُطلقت على من أدرك النضرانية من سكان سورية الآراميين، فانسلخ عن تلك الجماهير التي كانت قد انتشرت في المشرق، منذ الألف الثاني قبل الميلاد، متمركزة في ممالك مستقلة فرضت سلطتها على شعوب البلدان حيناً، أو منكمشة في مجموعات منعزلة خضعت لصاحب السلطان احياناً؛ ولطالما تلاعبت بها أحداث الزمن، وكيّفتها صروف الدهر، من قيام دولة وزوال اخرى، من سومريين، وبابليين، وحثيين، وميتانيين، وآشوريين، وكلدان، وفرس، ويونان، وروم، وعرب، فكان لها في كل ذلك يراع في خط التاريخ القديم، وسهم في خلق الحضارة الانسانية الشاملة.

   ينتسب الآراميون اجمالا الى آرام بن سام بن نوح، على أن الحلقات ضاعت بينهم وبين جدّهم. وقد يرجعون، في أصلهم، على ما يبدو، الى تلك الموجة من الساميين التي انطلقت، حول الألفين ق.م.، من جنوبي العراق، باتجاه الفرات الأعلى، حيث استقروا في الحلقة المكونّة من هذا النهر ومن ساعده البليخ، إلى دجلة، فعرفت البلاد باسم "آرام النهرين"، واتخذت حرّان قاعدة لها ثم شرقي الاردن، في "آرام دمشق"، متوقفين في انتشارهم، شمالاً، أمام جبال طورس الوعرة، ومحجمين، غرباً، عن بادية الشام القفرة، فمتحضرين في المناطق الخصبة، وهي كلها "آرام"، تتميز الواحدة عن الاخرى باضافة المسمّى المحلّي.

    أما أول ذكر ورد لهم فيرقى الى ما قبل هذا العهد بقرون و أجيال، أي إلى رقيم نَرَم سين الأكادي، في منتصف الالف الثالث. ومن المعلوم أن ابراهيم الخليل آرامي، وانه، في مطلع الالف الثاني، اتخذ رفقا زوجة لاسحق ابنه، و هي حفيدة اخيه ناحور "الآرامي"، القاطن في حرّان، أي في "آرام النهرين". و للفظ "النهرين" هذا، أو "آرام النهرين"، ذكر في نصوص مصرية من القرن السادس عشر ق.م.، وكذلك للفظ "نَهَريما" في تل العمارنة، التي جاء ايضاً، في إحدى رسائلها المدونّة في القرن الرابع عشر ق.م.، اسم إحدى القبائل الآرامية، هي قبيلة الأخلامو، الضاربة في أراضي الفرات. ولا شك في صحة نسبتها الى آرام، وقد أثبت ذلك تغلاتفلاصر الآشوري، في نهاية القرن الثاني عشر ق.م.، في نقش فاخر أنه "زحف على الأخلامو الآراميين".

   بيد أن هؤلاء عادوا ووطّدوا سلطانهم على منحنى الفرات، في عدد من الممالك، أشهرها بيت أدين في تل برسين، أو تل الأحمر، وبيت بخياني في وادي الخابور، وتل خلف عند رأسه ، وما اللا ذلك من نصيبين، وخوريزانة، زجدارة، بيما كان سواهم من الآراميين، وفي اوقات متفاوتة، يقيمون، شرقاً، دويلات متاخمة، ومنهم المسوخو على الفرات من عانة حتى ربيقو، والسوتو في جهة بابل، واللاقي في سنجار، والعوتات على دجلة بين الزاب والادهم، وجنوباً، الكادو في بيت يكين على الفران الاسفل، ومنهم من حكم بابل، في آخر القرن الحادي عشر ق.م.، ومنهم من تابع المسير باتجاه الغرب، حتى جرابلس، وحلب، وحماه، والبقاع، والشام، حيث قامت، على كرّ الازمنة، ممالك ذات شأن، مثل حماه، والنيرب، و أرباد، و قي، و عمق، و جرجم، و شمأل، و ماليز، و لأش. و تفوّقت صوبة، أو صهوبة ومعناها الحمراء، وقد عرّفها اليونان باسم خلقيس الدالّ على النحاس الاحمر، والمعاصرون باسم عنجر، وهي واقعة في البقاع. وتميزّت معكة، وبيت رحب، وكلاهما في سفح حرمون، وهو جبل الشيخ. ومن أوسع الدول شهرة وأبعدها أثراً مملكة دمشق، التي مثّلت دوراً رئيساً على مسرح التاريخ الشرقي، بين القرن العاشر والقرن السابع قبل الميلاد.

    وكان لهذه الحواضر أيام تتطاحن في ما بينها حيناً، وتتحالف أحياناً للصمود في وجه كبار الغزاة، إلى أن جاء الفرس الأخيمنيون (555- 333 ق.م.)، فقضوا على كيانها السياسي بوجه عام، على أن تعود هذه أو تلك ، في وقت لاحق، فتُبعث ناهضة في دولة حديثة يخطف ودّها طرفان متنازعان، فرس ويونان، فرثيون ورومان، روم و بنو ساسان.

   وكان اليونان السلوقيون قد أقاموا دولتهم (331- 64 ق.م.) على إثر فتوحات الاسكندر، ثم ضعفوا في الاطراف النائية الفارسية، حيث ثار الفرثيون بقيادة اميرهم أرشاك في شمالي ايران (247 ق.م.)، مستقليّن عنهم. فأطلقوا على من بقي تابعاً لهم من الآراميين لقب سوريين، او سريان، للتميز بينهم وبين الآسوريين، أو الآشوريين، الخارجين عن سلطتهم، وفرّقوا بين سوريا الغربية وسوريا الشرقية، وأصبحت الآرامية، في عرفهم، السريانية. ثم ما لبث أن حصل الإلتباس بين اللفظتين، فدوّن قدامى المؤرخين "السوري" "و الآسوري" علىالسواء و كأنهما مترادفان، كما و أن الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس ، وهي الترجمة العامية، اعتمدت لفظة سوريا للدلالة على مواطن الآراميين.

    ثم ثارت بدورها بيت أدين الآرامية، فاستقلت، وعرفت بمملكة الرّها، او أوسريانا لدى اليونان، وعاشت عهد ازدهار جارتها فيه سائر الدويلات الآرامية القديمة، ومنها مملكة أديابانة، أو حذيب، في ما وراء دجلة الى الشمال، بين نهري الزاب، وقاعدتها إربل، وقد بلغت أوجها في القرن الأول للميلاد، أي في العهد الروماني.

   ذلك أن الرومان خلفوا السلوقيين في حكم الشرق، منذ السنة 64 ق.م.، وحاولوا تركيز سلطانهم واسترجاع ما استقلّ من البلدان، وامتدّت المناوشات بينهم وبين الفرثيين مدة من الزمن، الى ان أبرم الصلح   اوغسطس قيصر (31 ق.م.-14 ب.م.)، على ان يكون الفرات فاصلاً بين الفريقين، والآراميين السريان على كلتا الضفتين.

    غير أن تلك المنازعات السياسية لم تؤثر على اللغة الآرامية، بل كانت لها حافزاً لتنتشر بانتشار القبائل المتكلمة بها، في أرجاء آسيا الغربية، فتؤمّن وحدة الدولة الآشورية، وتصبح ، في القرن الثامن ق.م. ثم يرثها الفرس الأخيمنيون عن الآشوريين والكلدان، فيعترفون بها لغة رسمية، وتبقى، في عهد السلوقيين و الرومان، لغة الشعوب الشرقية اجمالا، وأداة التجار والمفكّرين، حتى نطق بها المسيح، وسائر البشر قبله وبعده، طيلة قرون.

    وظهرت الدعوة المسيحية، فاستجاب نداءها فريق من الآراميين وتنصرّ، وفي مقدمتهم أهل الرُّها، منذ السنوات الأولى للميلاد، في عهد ملكهم الأبجر الاسود بن معن، على ما جاء في تقاليدهم- وقد يكون حصل التنصرّ لا في عهد الأبجر هذا، وهو خامس ملوكهم (13- 50 ب.م.9)، بل في أيام الأبجر التاسع الكبير (176- 216 ) – فخصّوا نفسهم باسم السوريين ، أو السريان، تفريقاً لهم عن سائر إخوانهم الآراميين، الذين بقوا على الوثنية، لاسيما في حرّان، حتى ظهور الاسلام وما بعده، يُطلق عليهم الفظ .......... ، اي "الوثني" بينما أصبح لفظ ......يرادف ...........، وتعني  "المسيحي" حتى أيامنا هذه.

    وظلت الاقاليم الآرامية تتأرجح بين الفرثيين والرومان، الى أن اكتسحها سبتيموس ساويروس (193- 211)، حول المائتين، محارباً ملوك فرثية وأعوانهم ملوك أديابانة، فاتحاً سلوقية وقهسيوفون ونصيبن، جاعلا من المنهقة "والية مابين النهرين الرومانية"، ثم أضاف اليها ابنه كركلاً (211- 241 ) محمية أوسريانة، اي الرُّهاوية (215).

    و قام أردشير (226- 241)، فقلب حكم الفرثيين و أنشأ سلالة الساسانيين في قطسيفون، التي عرّفها العرب بالمدائن، فاسترجع من الرومان "ولاية ما بين النهرين".

 فجيش على الساسانيين الامبرطور والريانوس (253- 260)، الا أن شاهبور الاول بن أردشير (241- 272) خذل جيوشه وأسره في الرّها، وتقدم حتى أنطاكية فأحرقها. ولكن أذينة (260- 267)، أمير تدمر الموالي للرومان، أنقذ الموقف، فتراجع الفرس الى الفرات وتمركزوا وراءه، متفرّجين على تطاحن أرملته زينب (267- 272) والرمان الغربيين، حتى انهيار امبراطوريتها التدمرية.

    و انتابت رومة ثورات داخلية رفعت الى العرش قسطنطين 306- 3379، فتنصّر وأطلق الحرية للمسيحيين (312)، ونقل عاصمته الى بيزنطة، فأصبحت القسطنطينية وعلى إثر وفاته، تجذّدت الحرب، فانتصر شاهبور الثاني الكبير( 311- 380) على يوليانوس الجاحد (361- 363)، الذي قتل في المعركة، وثبّت حكمه على ما بين النهرين. أما تيودوسيوس الكبير (379- 395)، فأقرّ السلام، وأعلن المسيحية ديناً رسمياً. ثم شطر الإمبراطورية الرومانية شطرين، غربي وعاصمته روما، وشرقي في دولة بيزنطية، وكان ذلك سنة395 . وكان أحد الفاصل بين البيزنطيين هؤلاء والساسانيين خطاً يمرّ من ميفارقاط ميافارقين، وهي مدينة الشهداء، الى دارا ونصيبين وقرقيسيا، منها يمتدّ مستقيماً حتى خليج العقبة.

 و هكذا بقي عدد من المدن الآرامية السريانية تحت النفوذ الفارسي، ودخل قسم آخر تحت الحكم البيزنطي، بما فيه مدينة الرُّها، في ولاية "سوريا الرومانية الثالثة"، أو سوريا الفراتية"، وقاعدتها هيرابوليس، أي منبج، في حين كان بعض العرب، كالمناذرة اللّخمبين والغساسنة، يعزّزون اماراتهم حوالي هذا الخطّ الى الجنوب.

   وبالرغم من هذه الحرب والمناوشات ، بل في ظلّها، تابعت المسيحية تتوغّل شرقاً، فتثبت في سوريا الشمالية، وتنتقل الى ما بين النهرين إلى الولايات الفارسية، والفرثيون والسّاسانيون يغضّون النظر عن أتباعها، بل يشجعونهم في سبيل استدراجهم إلى سياستهم، أو يسومونهم ألوان العذاب إذا ما اعتبروهم أعواناً للرومان، ثم للبيزنطيين.

 وقد سجّل القرن الرابع نصراً مبيناً للدين الجديد، وبالتالي للقومية السريانية ، التي نادت بها مدرسة الرُّها فنبذ المسيحيون اللغة اليونانية، متفردين بالسريانية، و قاوموا الكتابات الوثنية، ما أمكن، ولو آرامية، وقاموا بنشاط ديني وفكري لا مثيل له في التاريخ.  فظهرت الاديار تغصّ بالرهبان ، واهلت الاقفار تتلألأ بصوامع النساك، وانبرى العلماء القديسون يرشدون النشء ويحاربون الوثنيين، فنال مار افرام (+373) مثلا شهرة واسعة في نصيبين اأولا ثم الرُّها ، فوطدَ دعائم الكنيسة السريانية الجامعة، كما فاح عطر مار مارون الناسك (+410)، في مجاهل القورسية في الشمال الشرقي من انطاكية، فتهافت اليه المؤمنون للإستماع الى إرشادانه، وكوّنوا نواة الكنيسة السريانية المارونية.

 وكان لا بدّ لمثل هذا النشاط أن يؤدي الى جدل نظري في المعتقد، كانت ذروته في القرن الخامس. ذلك أن نسطوريوس (380- 440)، بطريرك القسطنطينية، نادى (428) أن في المسيح شخصين مختلفين، وتبعه عدد من المؤمنين، لاسيما في العراق وفارس، بتشجيع من الساسانيين وارتأى رأيه المناذرة العرب.

 ودحض هذا القول اوطيخا (378- 455)، مؤكداً (447) الطبيعة الواحدة في المسيح، اي المونوفيزية. وكان من أشهر مبشري هذه الفكرة برصوما كبير النساك آنذاك (+458)، ثم ساويروس (460- 538) بطريرك انطاكية، وكان قد تلقّن الفقه والفلسفة في مدرسة الحقوق. فأوضح المقصود بالطبيعة الواحد في معتقد السريان الصحيح. و من أشهر المناضلين في سبيل هذا المعتقد، في القرن السادس، يعقوب البرادعي (+578)، مطران الرّها وبلاد الشام، فكان لنشاطه, في جميع انحاء آسيا الغربية، أن تبعه العديد من الآراميين السريان، والعرب الغساسنة و سواهم...

    وانبرى المسيحيّون في المشاحنات، حتى ظنّ الامبراطور هرقل (610- 642) التوفيق بين النظريتين، باعتماد مذهب ألمونوتيلة، أي المشيئة الواحدة، الذي نادى به سرجيون الرّهاوي، بطريرك الإسكندرية (610- 738).

     أما الكنيسة الرومانية فنبذت كل هذه المذاهب بعقد المجامع المسكونية، حدّدت فها قانون إيمانها، وحرمت الخارجين عنها، ممّا زاد البلبلة في الاوساط المسيحية، بالإضافة الى ما كانت أحدثته، فيماسبق، مانَويّة ماني (   215- 276) القائمة على ثانوية المبدأ ،خيراً وشراً، واربانية آريوس(280- 236) النافية لألوهية المسيح.

 والسريان، في كل ذلك يبقون على خلافاتهم النظرية، إلاّ في مقاومة مذهب الامبراطور ولغته، مما أدّى بهم إلى ضعف سياسي من جهة، وانفصال تام، من جهة آخرى، عن الإمبراطورية، عقائدياً، وعاطفياً، وسياسياً. فما كان من الروم الاّ ان عزّزوا هذا الانفصال بالقطيعة الإقتصادية، محرّمين الإتجار مع بلاد فارس وما اليها، ما عدا نصيبين وسواها من مدن الحدود، ومشجعين انطاكيا و بيروت و صور في نشاطها الصناعي والتجاري.

والحق يقال أن السوريين، سبق لهم وأجروا محاولة اتفاق، اذ عقدوا مجمع سلوقية دجلة (410)، فاعترفوا بمقرات مجمع نيقية (325) في دحض الأريانية، ونظّموا ملاكهم الكنسي، مقيمين بطريركاً في سلوقية قطسيفون، يعاونه عدد من الرؤساء برتبة متروبوليت، في المناطق الآرامية.

 غير أن بلاط البيزتظيين ما انفك يناوىء اللاهوتيين الرهاويين، فيعمد الى طردهم (457)، فيلجأون الى نصيبينن، وسائر فارس، ويعقدون مجمعاً في بيت لابات (484)، يعلنون فية انضمامهم الى النسطورية، فيأجذ بقرارهم الجاثليق أكاسيوس، بطريرك قطسيفون، ويحترم معتقدهم ملك الفرس فيحمي كيانهم.

ثم ان يوستينوس الاول (518- 527)، شنّ حرباً عواناً على المونوفيزيين (519)، آمراً باقفال اديارهم، وتشتيت جموعهم، وسجن رهبانهم، ولم يأتِ هذا الاضطهاد إلا بازدياد الدعوة إلى تعزيز الانشقاق. و أضاف الى ذلك يوستنيانوس (518- 565) أن حرمهم من الوظائف العامة وحتى من الحقوق المدنية، لكن زوجته تيودورا أخذت بناصرهم، فعمد الإمبراطور إلى سياسة اللين والاتفاق، فانطلق المونوفيزيون في أعمالم التبشيرية، لاسيما في آسيا الصغرى وبلاد العرب والنوبة، مدى ثلاث سنوات (540- 543). إلى أن بلغوا أوجهم في عهد اسقفهم يعقوب البرادعي، ونصبوأ احدهم بولس بطريركاً على ابطاكية (550)، فاضطرّ يوستنيانوس ان يتقرّب منه، ويحرّم النسطورية؛ ولكن مساعيه ذهبت ادراج الريح.

 وكان الفرس يستفيدون من كل هذه التقلبات، اذ يجدون المسيحيين متفككين، فيضطهدون من كان على مذهب الإمبراطور، ويستميلون من لم يكن على مذهبه. وغالباً ما كانت المناوشات تقتصر على هاتين الفئتين، وقد حفل بها القرن السادس. من مثال ذلك أن الروم أطلقوا أعوانهم الغساسنة على المناذرة، حلفاء الفرس، فظهر الحارث بن جبلة الغساني (530-570) على المنذرة بن ماء السماء الحميري  في موقعة قنّشرين (544)، رداً لهجمات كسرى انو شروان (531- 578) الذي كان أسقط منبج و أحرق حلب و سبى أهل انطاكيا الى قطسيفون (540)، )، وعاد يحاصر الرُّها (544)، الى أن تعهّد يوستنيانوس بدفع ضريبة سنوية، لقاء الرجوع إلى الحدود السابقة، حيث أقام تحصينات جديدة على الفرات، ولقاء الإعتراف بحرية المسيحيين الدينية. وعاد يوستنيانوس الثاني (565-578) الى الحرب، فحاصر نصيبين، إلا أن انو شروان ردّه عنها، ثم قطع الفرات، واستولى على أفاميا، و زحف حتى ملطيا (575). وتابع الزحف ابنه هرمزد الرابع (578- 590)، مستعيناً بالنساطرة، فارسل الامبراطور موريقي (582- 602) في وجههم الغساسنة ، فردّوهم على أعقابهم (589). ثم أعان الامبراطور ولي عهد الفرس، حفيد انو شروان، الى استرجاع عرشه، وهو كسرى الثاني ابرويز (590- 628)، فنال منه دارا و ميفلرقاط، والحرية المطلقة للمسيحيين.

 وتحلّى موريقي هذا ببعض التسامح، فاستفاد النساطرة لتوطيد دعائم كنيسَهم، وتعزيز رسالتهم ، يساعدهم في ذلك ملوك الفرس، فانطلق علماؤهم من مدرسة نصيبين ييشرون في البلاد العربية، وايران، والهند، وآسيا الوسطى الى الصين. وما كان من بطريركهم يشوعياب الاول إلا أن عقد مجمعاً في سلوقية (585) ضد المونوفيزيين، اشترك فيه اسقف الحيرة. وكان هؤلاء ضعفوا بسبب الخلاف القائم بين بطريرك انطاكية وبطريرك الاسكندرية، لم يخلُ من أسبابه التمسك باللغة القومية الافليمية، و قد أصبحت السريانية في سوريا و القبطية في مصر اللغة الليتورجية، مما أدى أيضاً إلى الإنعزال السياسي.

و كان أن فوقاس ثار على موريقي واغتصب العرش (602- 610)، وعاد يضطهد المونوفيزيين ، فحماهم ابرويز وسار على المغتصب منتقماً لموريقي حليفه (608)، فقطع الفرات واحتلّ سورية وتقدم حتى أبواب بيزنطية (609)، ثم دخل دمشق واورشليم (614) ونقل منها عود الصليب الى قطسيفون، وتابع الى مصر فاتحاً (618)، وبسط حكمه على كل آسيا الغربية، مدة عشر سنوات (611- 722)، حتى قام هرقل (610- 642)، وأنقذ العرش البيزنطي، وحمل على الفرس ست حملات (622)، فتغلب عليهم في نينوى، ثم حاصر عاصمتهم قطسيفون، فاضطروا الى طلب الصلح الذي عقد في اذار 630، و تسلم هرقل عود الصليب في منبج، وحمله بالتكريم الى اورشليم (23 حزيران 630).

وخرجت الدولة البيزنطية من تلك الحرب السياسية ، والمشاحنات الدينية، ضعيفة، لا تقوى في وجه فاتح عنيد، متفككة، سرعان ما تهوى إذا ما حطّ عليها خطر جديد، فانهارت عند ظهور الاسلام.

 وكان للجدل العقائدي، المستفحل في القرن الخامس، وللإضطهادات التي عقبته، أن كوّن للمسيحيين في المشرق حياتهم الدينية والقومية والسياسيةأ وأن شطر السوريين، أو السريان، شطرين، دون أن يؤثر ذاك الإنقسام على جوهر لغتهم الآرامية السريانية، وهي آرامية الرّها بنوع خاص، التي بقيت واحدة ، إلا فرقاً  بسيطاً في اللفظ فقط، تميزّ به النساطرة الشرقيون عن  المونوفيزيين والموارنة الغربيين.

 وجاء العرب فاتحين (638)، واستولوا على بلدان الآراميين، فجعلوا لسوريا كياناً جغرافياً، ناسبين إليها من استقرّ فيها من المسلمين، فلقّبُوهم "بالسوريين"، ومحتفظين بلفظة "السريان" لسكانها القدامى، و قد أصبحوا اقلية قومية، معتصمة، الى اليوم، بدينها المسيحي و لغتها السريانية، اعتصامها بسبل الحياة.

 كميل افرام البستاني (دير القمر- لبنان) استاذ في الجامعة اللبنانية - كلية الفنون والآثار صاحب كتب تعليم اللغة السريانية في الجامعة اللبنانية(3 اجزاء) 

فولوس غبريال (خربوط - تركيا) مدّرس السريانية في الجامعة اللبنانية - كلية الآداب ومترجم وصاحب كتب تعليم اللغة السريانية (3 اجزاء)

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها