د.
بنغت كنوتسون
مدير
المعهد السويدي للبحث العلمي في استنبول
و أستاذ
ملحق للغات السامية في جامعة لوند، السويد
خلال أكثر من ثلاثين سنة كنت
على اتصال مباشر و مستمرٌ مع العرب و المسلمين.كان هذا، أولاً كطالب
للإستشراق.ثم كممثل للجامعة و
الحكومة ـ بين أشياء أخرى كنت مدير معهدين سويديين للبحث العلمي في الشرق
الأوسط و مبعوثاً ثقافياً للدول العربية من قبل وزارة الخارجية و المعهد
السويدي.من أول لحظة قابلت فيها
العرب عزمت على استعمال اللغة العربية كوسيلة لغوية للحوار، قاصداً بذلك إلى
معرفة و فهم.و
ذلك الحوار كان، إلى حد كبير، يدور حول الإسلام و المسيحية و خول العلاقات
التاريخية بين الإسلام و الغرب.
و قد التقيت عبر السنين
بآلاف من العرب المسلمين في خمسة عشرة دولة عربية، و أجريت آلافاً من
المحادثات و المناقشات معهم، و شاركت في عدد كبير من المؤتمرات الدولية
للحوار بين الإسلام و الغرب.
فليكن معروفاً أنني مقتنع
بصلاحية الخوار، نقلت للمجتمع السويدي وجهات النظر العربية و الإسلامية فيما
يخص تحليل تاريخ ألإسلام و الغرب المشترك.
اليوم سإتوجه، بكل صراحة و
احترام، إلى الجانب العربي و الإسلامي مشيراً إلى نقطة أساسية لم أفهمها
لغاية الآن.وتلك
النقطة تتعلق بالإتهام العربي الإسلامي المعروف و المنتشر و كثير التردٌد بأن
الطرف الذي بدأ العدوان التاريخي بين الإسلام و الغرب هو أوربا.
وذلك، على حد قولهم،
عن طريق الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر
)م(.
لعل البعض منكم
سيتعجبون قائلين إنه لا مكان لمثل هذه التافهة في مؤتمر حوار واسع النطاق
كهذا.
و لكن تفكيري أنا
بالعكس أن تلك التافهة بالذات تليق بالعناية.
إنني أذكر جيداً المؤتمر
الأول لـ
"منظمة
الإسلام و الغرب الدولية"
الذي عقد في البندقية
)فينيسيا(
سنة
1977 و تأثير كلمات
ممثل المملكة العربية السعودية في المؤتمر، الدكتور معروف الدواليبي، عندما
قال:
إن العالم الإسلامي
يشكر الفاتيكان على دعوته الرسمية لعلماء مسلمين للحوار مع الكنيسة
الكاثوليكية
"مبينٌنناً
بذلك انتهاء الحروب الصليبية".صدقوني، إن مندوبي
الغرب في المؤتمر ـ أوربيين و أمريكان ـ استقبلوا كلمات الدكتور معروف
الدواليبي هذه بمفاجأة، بل بتحيٌر.
سبب ذلك أن الإنسان الغربي
العادي، و نظرته دائماً موجهة إلى المستقبل، يعيش معيشة تتميز بالتكنولوجيا
الحديثة و الصناعة المتقدمة و البحث العلمي الرفيع، فلا يفكر عادة في الماضي.
لا تهمه الأعمال التي
قام بها أجداده الأوربيون في العصور الوسطى.
و أكثر من ذلك.
لا يستطيع الإنسان
الغربي العادي تصور أن أحاديث الماضي البعيد قد تكون عوامل حاسمة في العلاقات
السياسية الدولية المعاصرة.عكس ذلك العالم
الإسلامي الذي مجده في الماضي و الذي يعتبر التاريخ عنصراً هامّاً حيٌاً يجمع
الحاضر بالماضي.
أعترف كل الإعتراف أنني، في
أثناء مؤتمر البندقية و فترة بعده، تلقيت الصورة السلبية التي يرسمها العرب و
المسلمون عن الغرب:
أوربا، ليس العالم
الإسلامي، هي المسؤولة عن التوتر السياسي السائد بين الطرفين، أوربا هي التي
سببت الخلافات العنيفة و الحرب المفتوحة.
بأنانية و غرور، بل
بشرٌ، هاجم الصليبيون الإفرنج شرق البحر الأبيض المتوسط مستولين على فلسطين و
مناطق أخرى من دار الإسلام.
و لكن الشك و التجربة، كما
لاحظ مرة صديق من أصدقائي المصريين، هما ميزتان للعقل الغربي.
فلم يمض غير قليل حتى
جعلت أتعمق في الموضوع محللاً للعناصر.
ماذا وجدت؟ وجدت أن
العرب كانوا على صواب عندما يشيرون إلى هجومات الصليبيين و أنهم، كانوا،
بالإضافة
إلى ذلك، على صواب
عندما يشيرون إلى متابعة العدوان الغربي في القرنين الماضي و الحاضر المنعكس
عن سياسة الإستعمار و إرادة السيطلرة على العالم العربي و الإسلامي.
غير أن تحليلي علَّمني
أيضاّأن هذين المظهرين لم يكونا إلا عنصرين في شبكة ضحمة من العلاقات
التاريخية التي يمتاز بعضها بالعدوان المكشوف و بعضها الآخر بالتعايش السلمي.أما الخلافات العسكرية
و السياسية بين الإسلام و الغرب فأدركت من جهة أن الغرب يلعب دوراً جذرياً
فيها و لكن أدركت من جهة أخرى، و لا مؤاخذة، أن الجانب العربي الإسلامي لم
يكن بريئاً.
و آتي هنا إلى النقطة المركزية
في كلمتي، أي إلى توسُّع العرب و المسلمين في القرنين السابع و الثامن، عندما
خرجت جيوش الإسلام من جزيرة العرب و انتشرت عبر الشرق الأوسط و شمال إفريقيا
حتى وصلت إلى اسبانيا، و أتى إلى ذلك التوسع الذي يسميه الجانب العربي و
الإسلامي بـ
"فتح"
و
"تحرير"
و الذي يمكن الجانب
الأوروبي و الغربي، من ناحية أخرى، أن يعتبره استيلاءً و استعماراً.
هذه النقطة تهمُّني بالذات.
بينما تعترف أوروبا و الغرب
بخطاياهما الإستيلائية و الإستعمارية تجاه العالم العربي الإسلامي، فلم
أقابل، لغاية الآن، و أعجوبة الأعاجيب، عربياً أو مسلماً واحداً يصف التوسع
العربي الإسلامي في قرني الإسلام الأولين كاستيلاء و استعمار.
أين المنطق؟
تعوَّد العرب و المسلمون، و
ذلك منذ قرون، أن ينظروا إلى منطقة الشرق الأدنى و شمال افريقيا كأجزاء لا
تتجزأ من العالم العربي الإسلامي.غير أن نفس المناطق، أي
سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية و الجنوبية، كانت تُعتبَر مناطق أوروبية.
نعم!
أتكلم عن إمبراطورية
الرومان حيث كان البحر المتوسط بحيرة أولروبية، و لو بحيرة أوروبية كبيرة.
دليل على ذلك الأسماء
اللاتينية المختلفة للبحر الأبيض المتوسط التي أهمُّها
"ماري
لإنترنوم"
أي
"البحر الداخلي"
و
"ماري
نوستروم"
أي
"بحرنا".
بهذه المناسبة لن ننس
أن تسمية عربية للبحر الأبيض المتوسط هي
"بحر
الروم".
براهين الوجود الأوروبي الشامل
و الطويل في المشرق و المغرب هي الآثار المتوفرة في خط يمتد من تركيا في آسيا
الصغرى عبر سوريا و لبنان و الأردن و فلسطين و إسرائيل و مصر و ليبيا و تونس
و الجزائر حتى نصل إلى المغرب الأقصى.
دامت إمبراطورية الرومان
القرون الطوال و جعلت خاتمها على أوربا إلى الأبد.
إن تلك الآثار الضخمة
في المشرق و المغرب تذكِّرنا بعظمة المدنية الرومانية و أهميتها.وتشهد أيضاً بأن سواحل
البحر الأبيض المتوسط الشرقية و الجنوبية كانت لها قيمة كبيرة لأوروبا، بل أن
لا فرق بينها و القارة الأوروبية نفسها.
هذه، بوجيز العبارة،
الخلفية لما حدث في القرنين السابع و الثامن.
يبدو لي أن العرب و
المسلمين ينسون أنهم، فيما يسمونه
"بفتح
الإسلام"،
لم يأتوا إلى مناطق بربرية و جاهلية، بل إلى مدنية أوروبية قديمة و متطورة.باختصار،عندما وجهت
جيوش العرب و الإسلام لإهتمامها إلى البحر الأبيض المتوسط، أصبح الإسلام
منافس أوروبا.وبعدما استولى الإسلام
على جميع المناطق من سوريا إلى المغرب الأقصى و اسبانيا، وبعدما هدَّد
الإسلام سائر القارة الأوروبية، بعد كل هذا أصبح الإسلام العدوَّ الألدَّ
لأوروبا.
فليفهم العرب و المسلمون أن
"فتح
الإسلام"،
من وجهة نظر أوروبا، لم يكن إلا عدواناً لا عذر له.و حيث أن الإسلام ـ و
لو بواسطة ممثلين غير العرب، يعني العثمانيين ـ واصل هجومه على أوروبا، فبقي
الإسلام المهدٌّد الأول لأوروبا.إنَّ أوروبا لم تنس ما
فقدته للإسلام.
وحيث أنَّ تلك
المناطق، أي سواحل البحر الأبيض المتوسط الشرقية و الجنوبية، ظلَّت في أيدي
العرب و الإسلام، فعزمت أوروبا على الشيء المنطقي و الوحيد وهو الإسترداد،
أو بالكلمة الإسبانية،
"ريكونكويستا":انت الحروب الصليبية،
و كذلك الإستعمار في العصر الحديث، ردٌ فعل أوروبا.
إنها كانت محاولة
أوروبا أن تسترد المناطق المفقودة للإسلام.
إنطلاقاً من تحليلي هذا إذ
أنَّ العلاقات التاريخية بين الإسلام و الغرب تمتاز، بصورة عامة، بالمنافسة و
الخلاف، فجئت أنا بملاحظة لوحظت في مدينة كوبنهاغن قبل سنتين.
كان هذا بمناسبة انعقاد
مؤتمر حوار بين الإسلام و الغرب قامت به منظمة
"دانيش
بين"
في نهاية أيار/مايو
سنة
1994. علَّق أحد
الممثلين العرب على انهيار الإتحاد السوفييتي و انتهاء الحرب الباردة قائلاً
إنه لا يفهم لماذا عيَّن الغرب العالم الإسلامي عدوه الجديد.الجواب هو، وإن
استنكرنا سماعه،إن الإسلام ليس بعدوٍّ جديد،
إنَّما هو عدوُّ الغرب القديم.عندما زال الإتحاد
السوفييتي ـ و تاريخياً الإتحاد السوفييتي عدوّ الغرب الحديث ـ بقي الإسلام.
أيها السيدات و السادة،
تعوَّدنا عادة أن نكره النزاع.تعودنا أيضاً أن نعتبر
النزاع شيئاً سلبيَّاً:
لكنَّ فكرة فلسفية
تعلمنا بأن جوهر الواقع هو الخلاف و بانَّ التوازنية في الدنيا تتطلب النزاع
ـ وكان أول من عبَّر عن هذه الفكرة الفيلسوف القديم
"هيراكليتوس
الغامض"
من
"أفيسوس"
و هو عاش في القرن
الرابع قبل الميلاد.يعني الخلاف إمكانية
لأن الخلاف يشتمل على أمرين، مادَّة و طاقة، المادَّة للتكوين منها و الطاقة
للتكوين بواسطتها.
إن العلاقات التاريخية بين
الإسلام و الغرب تثبت صدق هذا الإدعاء.
من الخلاف و النزاع
ولدت منافسة مدنية إيجابية، قوة ابتكار و تجديد ثقافي.لأن
الخلاف بين الإسلام والغرب ليس سياسياً و عسكرياً فقط بل دينياً و
إيديولوجياً أيضاً.فمن الملاحظ
أن التوتر بين القطب الإسلامي و القطب الغربي أوحى إلى الكثير من المسلمين و
الغربيين بالتفكيلر الجديد، بالخلق و الإبداع، بالتطوير و الإنشاء.
من الصعب، مثلاً أن
نتصور عظمة المدنية الإسلامية في العصور الوسطى و دورها القائد أنذاك بدون
اللقاء مع فلاسفة الإغريق القدماء و تراثهم المنطقي والعلمي.كذلك من الصعب أن
نتصوَّر نهضة أوروبا بدون مقابلة علماء أوروبا للجامعات العربية و الإسلامية
في الأندلس.
في عصرنا هذا شهدنا
تياراً واسعاً من نقل العلم و التكنولوجيا من الغرب إلى الإسلام.و لكن شهدنا أيضاً أن
عدداً متزايداً من الغربيين المفكِّرين يقتربون من الإسلام باحثين عن القيم
غير الأوروبية و الغربية.
ختاماً لهذه الكلمة أودُّ أن
أعطي النصيحة التالية:إذا أردنا نتيجة إيجابية حتمية
من الحوار بين الإسلام و الغرب، علينا ألا نستبعد حقيقة الأمر، ألا نغيٍّر أو
نزيٍّف الواقع.
بهذه الطريقة، ليس إلاَّ،
نستطيع أن نبني جسوراً متينة بين المدنيتين.بهذه الطريقة، ليس
إلاَّ، نستطيع أن نتعلَّم الإحترام المتبادل.بهذه الطريقة، ليس
إلاَّ، نستطيع أن نتوجَّه نحو المستقبل بثقة و أمان.تغيير الكليشيهات بدون
الموضوعية غير ممكن.
و السلام عليكم و
رحمة الله و بركاته.