الصابئة المندائيون في العراق القديم
صباح مال الله ـ لندن
لا أحد يعلم على وجه التحديد متى ظهر الصابئة المندائيون في العراق القديم ،
ولكن اسمهم ارتبط بالنبي ابراهيم الخليل الذي عاش في مدينة اور السومرية ـ
مدينة الهة القمر نانا ـ منتصف الالف الثالث قبل الميلاد، وكان ابراهيم عليه
السلام أول من نبذ الاصنام وودعا لرب واحد عظيم القدرة اطلق عليه السومريون
اسم [ لوگـال ـ ديمير ـ آن ـ كي ـ آ ] ملك الهة ما هو فوق وما هو تحت [ رب
السماوات والارض] . وقد آمن الصابئة المندائيون بتعاليمه واحتفظوا بصحفه
ومارسوا طقوس التعميد التي سنها لهم واستمروا عليها الى يومنا هذا. وقد هاجر
قسم منهم معه الى حران والقسم الآخر بقي في العراق ، وقد عرفـوا فيما بعد بـ
[ ناصورايي اد كوشطا ] اي حراس العهد الذين أسسوا بيوت النور والحكمة [أي ـ
كاشونمال ] ـ بيت مندا (بيت المعرفة) فيما بعد ـ على ضفاف الانهار في وادي
الرافدين لعبادة مار اد ربوثا ( الله ـ رب العظمة)، واتخذوا من النجم القطبي
(اباثر) الذي دعاه السومريون (( نيبورو )) قبلة لهم. كما ارتبطت طقوسهم بمياه
الرافدين فاعتبروا نهريها ادگـلات وپـورانون (دجلة والفرات) انهارا مقدسة
تطهر الارواح والاجساد فاصطبغوا في مياهها كي تنال نفوسهم النقاء والبهاء
الذي يغمر آلما د نهورا (عالم النور) الذي اليه يعودون . ومفهوم الاغتسال
والتغطيس (التعميد) مفهوم رافـديني قديم ورد في العديد من النصوص المسمـارية
حيث كتب الشاعر السومري في مرثية مدينة اور: (( شعب الرؤوس السوداء ما عادوا
يغتسلون من أجل اعيادك ، اناشيدك تحولت الى أنين ، مدينة اور مثل طفل في شارع
مهدم ، يفتش لنفسه عن مكان امامك)).
والصابئة المندائيون هم شعب آرامي عراقي قديم ولغته هي اللغة الآرامية
الشرقية المتأثرة كثيرا بالاكدية .
وقد تواجد الآراميون جنبا الى جنب مع السومريين والأموريين والكلدان وغيرهم ،
واستوطنوا وسط العراق وبالأخص المنطقة الممتدة من بغداد وسامراء من ناحية
دجلة وليس من ناحية شبه جزيرة العرب، في وقت مبكر قد يصل الى منتصف الألف
الثالث قبل الميلاد .
وقد
عثر المنقبون على وثيقة أكدية ـ نقش ـ منذ عهد نارام ـ سن 2507 ـ 2452 ق.م
تتحدث عن انتصاره على مدينتي شيروم ( سامراء) وآرامي
، ويستدل على انهما تقعان في منطقة شرق دجلة بين الزاب الأسفل وديالى، ثم
انتشروا في كل العراق، على ما يبدو.
وفي العهد البابلي الأخير تبنى العراقيون
،
وكل شعوب المنطقة اللغة الآرامية لغة رسمية لأسباب كثيرة واستخدمت بكثرة في
بابل والقسم الاوسط من العراق القديم وكانت اللغة المهيمنة في القسم الجنوبي
من بلاد ما بين النهرين وما يعرف الآن ببلاد خوزستان في ايران وهي نفس اللغة
التي يستخدمها الصابئة المندائيون اليوم في كتبهم ونصوصهم الدينية .
لقد امتهن المندائيون في تلك الحقبة نسخ العقود والمخطوطات وكتابة الرقى
وتولعوا بالارقام ومراقبة والنجوم وافلاكها وزاولوا الطب بنوعيه الروحاني
والسريري (الأشيـپو والآسي) والتي ورثوها عن الأكديين ، حيث كان الأشيـپـو
يعالجون المرضى بطرد الارواح الشريرة بواسطة الطقوس السحرية وقراءة التعاويذ
وكتابة الرقى وأوعية الاحراز، خصوصا اذا علمنا بأن سكان وادي الرافدين كانوا
يعتقدون بأن الأمراض هي عقاب يوقعه الالهة على البشر نتيجة للآثام والخطايا
التي يقترفونها، في حين يقوم الآسين، وهم الصيادلة (العشابون)، باعداد
الوصفات الدوائية للمرضى .
ان العثور على أوعية السحر (الاحراز) في مناطق شاسعة من العراق شاهد على
انتشار المندائيين في وادي الرافدين واستخدام لغتهم ذات الأبجدية المميزة.
لقد تأثر كتبة التلمود البابلي منتصف الألف الأول قبل الميلاد بالمندائية حيث
نجد بصمات هذه اللغة واضحة تماما في سفري دانيال وعزرا من كتاب التوراة، كما
تأثرت بمعتقداتهم الكثير من الديانات كالمانوية وغيرها. ان المندائيين لا بد
ان يكونوا قد وصلوا الى بلاد عيلام (خوزستان الحالية) في القرن الثاني
الميلادي عبر شمال بابل وبلاد ميديا ، وان الدين المندائي قد وصل حينئذ الى
مرحلة من النضج واحتوى على النصوص المقدسة والطقوس الدينية التي نعرفها في
وقتنا هذا. وكل هذه النصوص تشير الى الغرب اي الى منطقة حوض الاردن اي ان
اصولهم من هناك وان بدأت التأثيرات البابلية والفارسية تظهر لديهم واضحة في
أدبياتهم.
إن اول اسم يذكر في تاريخ المندائيين هو امرأة اسمها ( شلاما بنت قدرا ) ،
وهذه المرأة ، التي تسمى باسم امها / او معلمتها في الكهانة ، هي اقدم امرأة
(اسم شخص مندائي ) ورد اسمه على انه ناسخ النص المعروف بالكنزا شمالا كتاب
المندائيين المقدس الذي يتألف من قسمين (يمين شمال) والجزء الأيسر بشكل نصوص
شعرية يتناول صعود النفس الى عالم النور .. و[الكنزا ربا] هو اقدم نص مندائي
. وشلاما هذه يعود تاريخها الى سنة 200 بعد الميلاد ، وهي بذلك تسبق بعدة
اجيال الناسخ المندائي الشهير زازاي بر گـويزطه سنة 270 بعد الميلاد والذي
يعودالى حقبة ماني)) .
لا يمكننا اليوم البت تماما فيما اذا كان الناس الذين يتحدثون بالارامية في
مناطق شوشتر و ديزفول و عيلام و سوسة هم من اصول مندائية ،
ولكن
الكتابات الآرامية التي وجدت في الأهواز والتي تعود الى القرن الثاني هي هي
مقاربة للأحرف المندائية.
إن الكتابة المندائية قد سبقت العيلامية، كما اثبتت البحوث الحديثة قدم
وجودهم في مناطق العراق الجنوبية حيث عثر على قطع نقود تحمل كتابات مندائية ،
وتعود تلك النقود الى حدود سنة 150 ميلادية ، كما عثر على نصوص مندائية
منقوشة على الواح رصاصية تعود لنفس الفترة التاريخية.
في زمن الدولة الفارسية تمتع المندائيون تحت حكم الملك ادشير الأخير بحماية
الدولة (الامبراطورية) ولكن الأمر تغير حين جاء الى السلطة الملك الساساني
بهرام الأول سنة 273 ، اذ قام باعدام ( ماني ) في بداية حكمه بتأثير من
الكاهن الزرادشتي الأعظم (كاردير ) . وامتد الاضطهاد الساساني الديني ليشمل
اتباع الديانات الاخرى الغير زرادشتية مثل المندائية والمانوية واليهودية
والمسيحية والهندوسية والبوذية. ويمكننا ان ننتهي الى ان المندائيين قاموا
بجمع تراثهم وأدبهم الديني وترتيبه وحفظه وهذا واضح في الجهود المكثفة التي
قام بها الناسخ (زازاي ) في هذا المجال.
وبالرغم من حملة الاضطهاد الشعواء التي قادها الحبر الاعظم للزرادشت (كاردير)
الى انه لم يستطع القضاء تماما على المندائية، ولكن التدوين توقف تماما لعدة
قرون ولم نشاهد التأثيرات والكتابات المندائية الا فيما يسمى بأوعية ( قحوف )
الاحراز والأشرطة الرصاصية . ان المدونات المندائية التي عثر عليها كانت
جميعها قد نشأت في بلاد الرافدين والتي يعود بعضها الى القرن الرابع
الميلادي، والقسم الأكبر قد دون قبل ظهور الاسلام، الا ان محاولات التأليف
المندائية لم تنقطع بظهوره وانما واصلت اعمالها تحت ظله الى ما بعد قرون
عديدة.
لقد اصبح المندائيون في العصر الساساني الكتبة والنساخ الرئيسيين للوثائق
الرسمية وعمل التعاويذ السحرية بكل اللهجات السائدة ،
واهتموا باللغات فاصبحوا همزة الوصل بين الاقوام العربية والارامية
وبين الفرس الساسانيين ومن ثم الجيوش اليونانية التي غزت العراق في القرن
الرابع قبل الميلاد واتخذت من بابل عاصمة لها تحت قيادة الاسكندر المقدوني،
وقاموا بترجمة اساطير وعلوم بابل الى لغة الأغريق . وبناء عليه يمكننا ان
نطلق عليهم تسمية (مثقفو) العراق في تلك الحقبة، وقد اتخذ خالد ابن الوليد
اثناء اقامته في الحيرة كاتبا ومترجما (سكرتيرا) مندائيا يدعى (مـُرَّة)
ليقوم بكتابة الرسائل بالفارسية والآرامية والعربية.
كانت الكثرة من اهل المدائن (طيسفون) عاصمة الفرس الساسانيين الشتوية من
الاراميين والمندائيين و فيها لهم معابد عديدة، وازدادت اعدادهم في الفترة
الساسانية خصوصا شرق دجلة وضفاف الكرخة والكارون فاستوطنوا ديزفول (عاصمة
بلاد عيلام) والاهواز والخفاجية والبسيتين والمحمرة وكان اغلب سكان شوشتر من
المندائيين الصابئة، كما اصبحت الطيب (طيب ماثا) اهم حاضرة لهم. وتفوقوا في
صناعة الذهب والفضة والاحجار الكريمة التي كانت تجلب من مملكة آراتا في
المرتفعات الايرانية. اما القسم الاكبر منهم فقد امتهن الفلاحة وزراعة الارض
واستوطنوا الاهوار وضفاف الانهار وقاموا بتنظيم قنوات الري في ارض السواد ،
وأسسوا لهم حواضر مهمة مثل كـوثـا و سـورا ، وقد اطلق عليهم العرب تسمية
انباط او ( نبت ) كونهم ينبتون الآرض وقد ذكرهم الامام علي (ع) بقوله نحن من
قريش وقريش من النبط والنبط من كوثى.
لقد قدمت بابل ومملكتي فارس وميديا ظروفا طبيعية ملائمة لنمو عقائد دينية
توفق بين التقاليد والشعائر القديمة وبين الافكار القادمة من الحضارة الصينية
القديمة بواسطة فلاسفة الهند الفيديين ، تلك الافكار التي جددت عقائد الناس
وبعثت فيهم الروحانيين والهمتهم خلود الروح وان مصدرها الكائن الالهي فاصبحت
بلاد الرافدين بوتقة (كوزموبوليتينية) ضمت ديانات عديدة كالزرادشتية
والمجوسية واليهودية والمندائية (المعرفية) والغنوصية والمانوية والمسيحية
بالاضافة الى عقائد الاقدمين من سكان وادي الرافدين، واقواما مختلفة كالفرس
والاراميين والبابليين والكلدان والاشوريين، والعبرانيين الذين سباهم
نبوخذنصر، والعرب والارمن، والاغريق الذين جلبهم الاسكندر من مكدونيا.
وعلى صعيد آخر برزت مدينة حرّان (حرانو) في الشمال والتي هاجر اليها قسم من
الصابئة مع ابراهيم الخليل كاحدى المراكز الرئيسية للحضارة الآرامية
ووارثة حضارات الشرق الأدنى القديم من بابلية وآشورية وكنعانية وكلدانية،
والبوابة التي تمر من عبرها حضارات فارس والشرق من جهة وحضارات اليونان
والرومان خصوصا بعد فتوحات الاسكندر الاكبر (323 ) قبل الميلاد ونتيجة لذلك
برع صابئة حران في الترجمة واصبحوا النقلة الأساسيون للحضارة الغربية
الهلنستية الى الدولة العربية الاسلامية فيما بعد.
وفي الحقيقة كان المندائيون قد اعتبروا من قبل الاسلام على انهم من اهل
الكتاب ، اذ ان بالتعبير
(( الصابئين
))
الذي ورد في القرآن الكريم، بثلاث ايات لا تقبل التأويل، لم يقصد بلا شك الا
تلك الجماعة العراقية الموغلة في القدم التي آمنت بالتوحيد و اتخذت التعميد
شعارا ورمزا لها. اما النص المندائي التاريخي الأهم هو الذ ي يبين بأنه عندما
جاء الاسلام وجعل يميز بين الاديان ذات الكتب المنزلة والاديان التي لم تكن
موجهة من السماء قدم الريشما ( آنوش بن دنقا ) 639 ـ 640 ميلادية ـ الذي ترأس
وفد الصابئة المندائيون ـ كتابهم المقدس كنزا ربا (الكنز الكبير) للقائد
العربي الاسلامي آنذاك ، وربما كان سعد بن ابي وقاص، واطلعه على ديانتهم كما
ذكر له بأن نبيهم هو يحيى بن زكريا الذي يجله المسلمون فقبل منهم ذلك
واكرمهم.
وليس من شك في ان مؤهلاتهم العقلية وخدمات بعض نوابغهم العلمية هي التي اهابت
بالمسلمين الى منحهم الحماية كأهل الكتاب، وبرز منهم المئات من امثال ثابت بن
قرة وابو اسحق الصابي والبتاني الفلكي وابن وحشية (صاحب كتاب الفلاحة
النبطية) وسنان بن ثابت و الكيماوي الشهير جابر بن حيان.
وقد اجبرت جموعهم ، فيما بعد، الى الاسلام، لأن الدخول الى الاسلام لم يكن
هناك بدا عنه، فقد قضت المصلحة الفردية به من وراءها حب التخلص من تأدية
الجزية وما فيها من اذلال والتهرب من الاذى والرغبة في المناصب والتمتع
بالحرية والامان، كما ارتكبت بحقهم العديد من المذابح . ونتيجة لذلك تناقصت
اعدادهم تدريجيا وباتوا على شفير الانقراض. لقد احصى المستشرق الالماني
بيترمان المندائيين في جنوب العراق فوجدهم بحدود (560) عائلة، وذلك في سنة
1841 .
ومهما قيل في اصل الصابئة المندائيون فإن وجودهم في العراق منذ منذ اقدم
العصور لا يختلف عليه اثنان . فهم الباقون منذ القدم شهودا على عظمة ارض
الرافدين التي كانت مهدا للحضارة البشرية. |