المــوارنـة
ولبــنان
الأباتي بولس
نعمان
جامعة الروح
القدس - الكسليك
المؤرخ الذي
يبحث في نشأة لبنان السياسي، يضع نفسه مباشرة ضمن الاطار العام لحدث هذه
النشأة، فالواقع التاريخي، زمنه والوثائق التي تشير اليه، تبقى العنصر
الاساسي للتحليل. لذا، ان نشأة لبنان، واعلان استقلاله وتعثراته
الدستورية، وحكوماته الاولى، وتنازعية الولاءات التي تتجاذبه، تبقى
الاحداث المدونة من ضمن الزمان والمكان، والمؤشر الاكيد الى مسيرة لبنان
التاريخية نحو الكيان السياسي.
هذا النوع من
المقاربة، التي تختار الاحداث بتسلسلها ونتائجها، يفرض ذاته على المؤرخ
الحريص على الموضوعية، كما يفرض ذاته على حساب تكوين هذا الحدث المرتبط،
اكثر الاحيان، بعوامل خفية لا يشكل الحدث فعليا سوى نتيجته الخارجية
الظاهرة.
اريد ان اركز في
هذه المقدّمة على هذه النشأة، لأشير الى ان وراء الوقائع التاريخية
المنتظمة والمبوبة تبرز الملامح الخاصة لشعب كان رائدا في تطلعاته،
وسماته التراثية، وفراداته الثقافية والروحية، واخيرا في تصميمه على
تأكيد مسؤوليته عن مجتمعه السياسي.
ان التأمل في
فسيفساء الطوائف الاقلاتية التي هربت من الاضطهاد الديني الممارس عليها
في اكثر من مكان، والتي وجدت على هذه الارض المضيافة ملجأ، يرينا انها
بقيت متمسكة بخصوصياتها وحريصة على ذاتياتها، بحيث اننا نتبين بذور
مشروع وطني قادر على تأمين قواعد ثابتة لعيش مسالم، يحترم الجماعات
الاتنو - دينية على اختلافها وفي حرياتها الاساسية.
لم تتخذ هذه
المهمة البناءة جذورا بالفعل، الا من ضمن الجماعات الموجودة على ارض
لبنان. انما كان لا بد من ان تتحمل احدى هذه الجماعات المسؤولية المباشرة
عنها وعن تبعاتها على نحو مثالي متفان. وكان لا بد من ان تحض شريكاتها
على ان تحذو حذوها بانفتاحها وشموليتها الانسانية.
ويبدو ان
الجماعة المارونية كانت السباقة والمؤهلة اجتماعيا وثقافيا وانسانيا،
لمثل هذه المهمة.
1 -
الجماعة المارونية: النشأة والهوية
لهذه الجماعة
اصول تؤهلها للقيام بمثل هذه المهمة التربوية الشاقة، فهي في الاساس تراث
روحي يشد الموارنة الى الانجيل والسيد المسيح - الاله المتجسد - بالوسيط
القديس مارون المثال والقدوة في عيش الانجيل ببساطة واخلاص، بتفان
وبطولة.
وهي ايضا تراث
حضاري يشد الموارنة الى مسيحيي بطريركية انطاكية، ومدرستها الفكرية
الكبرى، ونهجها الثنائي في فهم شخصية المسيح الاله الكامل والانسان
الكامل والتأكيد بنوع خاص على انسانيته الكاملة. بفضل هذه العقيدة وهذا
المفهوم الثنائي لطبيعة السيد المسيح، ارتبطت الكنيسة المارونية، بعد
مجمع خلقيدونية سنة ،451 بكنيسة رومة، وكانت البادرة مبدأ لعلاقات
دهرية، شكلت مع الزمن صفة مضافة الى صفات المارونية تقيها الالتفاف على
ذاتها، وتسمح لها بالانفتاح على التقدم الحضاري العلمي، والاخذ بالمفاهيم
الحضارية الجديدة.
المارونية اذاً
ليست مفهوما مدنيا ولا مفهوما دينيا صرفا، بل هي احد انجح تجسدات الفكر
العملي والتركيب المسيحي في هذه المنطقة. قد استطاعت، بما لها من دفع
روحي ولابنائها من اخلاص العيش في صميمها، ان توحِّد معا، في ذاتها،
التقوى الشخصية والامانة الكبرى للمسيح وللكنيسة الجامعة، بما هي ديانة،
والثقة المطلقة بالانسان المتطور والمتجدد، والامانة الكبرى لخطها
الحضاري الانطاكي بما هي أُمة. استطاعت ان تكون، في الوقت نفسه، ممارسة
دينية وأُمة منظمة من غير ان تدوّل الدين وتديِّن الدولة.
واذا اوجزنا
قلنا ان المارونية، من حيث النشأة، مذهب
فكري انطاكي ديني ومدني معا، ذو صفة مميزة متصلة مباشرة بحضارة قديمة،
هي الحضارة الآرامية السريانية، وبواسطة رومة، بالحضارة العالمية،
ومطبوعة بطابع مسيحي خاص، طابع روحانية القديس مارون، قبل ان تكون طائفة
حسب المفهوم المتداول للكلمة، محصورة العدد تدور في حلقة الصراع الطائفي
في سبيل البقاء.
فالتمسك بالخط الحضاري الوطني - انَّى كان الوطن - والارتباط بالمسيحية
العالمية، مع الحفاظ على روحانية القديس مارون، كلها متماسكة، كفلت هذا
النوع من الوجود للموارنة.
2 - الانتشار
والمشاركة
هذه الجماعة
تركزت، بعد الصراعات والفتوحات التي اعقبت مجمع خلقيدونية سنة ،451 في
المناطق الجبلية، من فينيقيا اللبنانية، حسب التقويم الروماني القديم: ما
بين اهدن - الزاوية، جبة بشري - البترون، وجبة المنيطرة - نهر ابراهيم.
لقد تحصن الموارنة في هذا المثلث الاستراتيجي قاعدة تنظيمهم الاجتماعي
والضامن لأمنهم وكرامتهم وحريتهم الدينية. وقد دفعتهم كثرة الخبرة التي
اكتسبوها في حياتهم الوطنية الناشئة، وخصائصهم التراثية، الى عقد تحالفات
مع امراء بني عسّاف اولاً، وكان العسّافيون من المسلمين السنة، يحكمون
بحسب النظام الاقطاعي المدني المعروف، اي يكتفون بجمع الضرائب، وكانت
باهظة، ولكنهم يتركون للرعايا الحرية الداخلية. هذا الوضع كان يناسب
الموارنة الحريصين على هويتهم، لذا حصل بينهم وبين العسافين اول مشاركة
في الحكم مبنية على المصالح المشتركة ابتداءً من سنة .1516
في هذه المرحلة
ايضاً بدأت هجرة الموارنة في اتجاه المناطق الجنوبية من جبل لبنان، اي
المتنين والشوفين والجرد والغرب والشحّار، ثم ما لبثوا ان عقدوا مشاركة
ثانية مع الامراء المعنيين الدروز ومع الامير فخر الدين بالذات، وكان فخر
الدين يطمح الى الاستقلال عن الامبراطورية العثمانية ويرغب في الانفتاح
على الغرب، ولأن الموارنة كانوا قوّة اتصال مع الغرب اوثقوا صلات الامير
برومة وفلورنسة وتوسكانة وباريس.
قوي هذا الحلف
كثيراً لانه شمل، وللمرة الاولى، المسيحيين والدروز والسنة والشيعة، ومنذ
ذلك الحين بدأت تتبلور فكرة لبنان الحديث التعددي المبني على المصالح
المشتركة وعلى القبول بالغير مع فروقاته. وقد بقي هذا العيش المشترك
مزدهراً طيلة عهد الامارتين: المعنية من سنة 1584 حتى سنة ،1633
والشهابية من سنة 1633 حتى بداية احداث سنة .1842
يتحدث الارشاد
الرسولي "عن التضامن مع العالم العربي" وكأنه يصف هذه المرحلة من تاريخ
لبنان. فيقول: "ان مسيحيي لبنان ومجمل العالم العربي، الفخورين بإرثهم،
يساهمون بنشاط في اكمال الثقافة"... "واني ادعوهم الى اعتبار اندراجهم في
الثقافة العربية، التي طالما ساهموا فيها، موقعاً مميزاً ليقودوا، مع
مسيحيي البلدان العربية الآخرين، حواراً حقيقياً وعميقاً مع مؤمني
الاسلام... ان مسيحيي الشرق الاوسط ومسلميه عرفوا في تاريخهم ساعات مجد
وساعات شدة، وهم مدعوون الى ان يبنوا معاً مستقبل تآلف وتعاون، في سبيل
تطور انساني واخلاقي لشعوبهم".
هذا هو المصدر
والحافز لتوزّعهم الجغرافي على كل المناطق اللبنانية، واشعاعهم، حاملين
ذهنية لاهوتية خلقيدونية تجسدية اشاعتها الكنيسة فيهم بصبر واناة، ذهنية
مشبعة بروح يسوع ابن الانسان المتجسد، الى حد جعلهم يتعاطون مع الغير،
ويعطون ذواتهم للآخرين من دون حساب وبعفوية بالغة بلا تحفظ او شك. فتآخوا
بذلك مع الكل متجاوزين كل الاختلافات، وبنوا علاقاتهم الاجتماعية على
مستوى التفاعل والتبادل اللذين لم يحدّ منهما الا الموانع والمحرمات التي
اقامها الآخرون. ففي صنيعهم هذا بثوا الحس الوطني، وعملوا من اجل المشروع
العتيد، مشروع لبنان الوطن الحاضن والجامع.
3- فكرة
الوطن التعددي
منذ ذلك الحين
بدأ الموارنة بالتفكير الجدي في ارساء الاسس لبناء وطن تعددي يضمن
الحريات الاساسية للجميع، وكانت الكنيسة هي الام والمعلمة، الحاضنة
والموجهة لكل هذه الانجازات الاساسية المهمة.
فالنظام السياسي
التعددي الراهن ليس وليد القوى الخارجية، كما اعتقد البعض، انه وليد نضال
الكنيسة المارونية والشعب معاً حتى لا يخضعا لنظام الذمية وليعيشا
ايمانهما بحرية ويحطّما طوقي العزلة والجهل. لذا عقد الموارنة التحالفات
الداخلية مع الطوائف الاسلامية والدرزية التي كانت ترغب في ذلك، واتصلوا
بالغرب ووصلوا مجتمعهم الشرقي بالحضارة العالمية وكسروا مبدأ الدولة
الدينية، كما كرّسوا مبدأ الدولة التعددية ليتمكنوا من ممارسة عقيدتهم
الرسولية.
ان هذه المهمة
التاريخية التي كرّس لها الموارنة ذواتهم يوم تأمنت قاعدتهم الجغرافية،
برهنت على جدواها وثباتها حتى يومنا على مستوى لبنان بكليته. وهذا ما
تثبته، على نحو لا يخطئ، قراءة متأنية لتوزّع الجماعات الطائفية، حيث
المسيحي والماروني خصوصاً يخالطان الطوائف الاسلامية ويشاركانها، دونما
استثناء.
يفتش الماروني
عن التخالط ويقبله، خلافاً لغير جماعات حيث تنعدم هذه الظاهرة. ففي حين
ان الامتداد الدرزي يطال 7% من قرى لبنان، والسني 24% من الجغرافيا
اللبنانية، والشيعي 30% من مساحة لبنان، يبلغ الامتداد المسيحي نسبة 51%
من الارض اللبنانية. سواء نسبنا هذا التوزع الى خصائص فردية او الى
انتماء طائفي يدعو الى ذلك، كل هذا لا يبدّل النزعة الغالبة للاتجاه
الدمجي الذي اعتمده الماروني مبدأ تعامل، رافضاً بذلك كل شكل من اشكال
المسافة الاجتماعية.
ولقد اظهرت
التقصيات والدراسات في علمي النفس والاجتماع ان اجتماعية الماروني تجعله
الاقرب الى الشخصية المؤسسة للبنان.
فالماروني يحمل
في ذاته كل عوامل التقارب والنزوع نحو الآخرين، رضينا بذلك ام لم نرض،
لانه يشكّل الجامع التاريخي والانساني الضروري لاي تآلف بين الجماعات
الطائفية.
ويظهر لنا على
المستوى الجيو - سياسي العام، أنّ تشكّل الجماعات البشرية هو الدليل
الساطع عما نقول. ان مسيحيي الجنوب، بالتحديد الموارنة الذين يسكنون
القاطع الممتد بين تومات نيحا - جزين ومشارف صيدا، شكّلوا المنطقة
العازلة التي تفصل الدروز عن الشيعة، وكان ذلك بطلب من الامارة المعنية،
مما حفظ المسافة الاجتماعية، التي تظهر ههنا واقعاً تاريخياً ملازماً
وضرورياً للتوازن الجيو - سياسي الطائفي، وهذا ليس من باب المصادفة.
لا ريب في ان
الماروني فتش عبر تحالفاته عن مصالح مشتركة. وهذا امر طبيعي بالنسبة الى
الجماعات البشرية وفي المعادلات السياسية. لكننا لا نستطيع ان نجعل من
انفتاحه على الاخرين هدفا صغيرا او مقتصرا على "استراتيجيا" مصالح. فهذا
امر يناقض روح المسيحية المكونة من محبة فاعلة وكرم منفتح تواق. ان
المهمة التربوية والتنشيئية التي تحمّل الموارنة تبعاتها حيال الطوائف
الاسلامية والدرزية، ان في لبنان او في الخارج، تُظهر علنا حرصهم على
العدالة والمساواة.
وهكذا تحولت
الجماعة الرهبانية الى كنيسة - مجتمع مفتتحة بذلك مشروع وطن يتحرك من ضمن
دائرتها وملازم لها على نحو مثالي.
هذه هي امثولة
الكنيسة - المجتمع النابعة من الروحانية الانطاكية المتجسدة والتي تشكل
طينة الماروني. ان الثقة بالغير امر يثبته التاريخ من خلال قصة البطريرك
الحويك الذي حمل قضية لبنان الكبير الى المحافل الدولية. ففي اصراره على
منع اجتزاء لبنان وتصغيره، اكد انه يفضل التعايش بين المجموعات الطوائفية
على "المعزل" المسيحي. لقد بلغ خياره مدى ابعد من التوازن الديموغرافي.
لقد اتجه نحو الصيغة التآلفية - الفيديرالية المسيحية - الاسلامية.
ان روحية
الماروني تحكي بدورها عن الثقة التي امست غفرانا. ان الموقف الروحي
المطهر، هذا الحرص على تنقية الضمير من كل حقد، هذا المعنى المسيحي
للغفران، حدا بالماروني على العودة الى الآخر وقبوله وملاقاته وحمايته
رغم كل التجارب المرة السابقة التي اكتوى بنارها.
يخطئ من يعتقد
ان ذاكرة الماروني قصيرة، او انها واهنة. ليس الماروني رجل مرارة، فهو لا
يضمر حقدا دينيا او "إتنيا" ولا يخبئ حس انتقام داخلي، وهذا ما يظهره
اندفاع الكنيسة واصرارها على اعادة بناء لبنان بعد دمار سنة ،1860 مع
البطريرك بولس مسعد، وبعد محنة 1975 - 1990 مع البطريرك نصرالله صفير.
فالماروني يعي قيم حياته، ويقبل في بلواه نسيان الظلم الذي لحق به، ويعيد
ثقته بنفسه، وهذا مؤشر نكران للذات وعلامة رجاء اساسا.
انهيار لبنان
السياسي
في ضوء هذه
المعطيات الانسانية، نفهم كيف تحوّل لبنان مشروعا سياسيا، وكيف ان تطور
الدولة اللبنانية هو حصيلة نمو المصير الماروني الذي يشكل الخميرة التي
لا بديل منها لأي صيغة تآلف او تسوية تاريخية او عقد اجتماعي.
اما اليوم،
فالتحامل على الموارنة وتهجيرهم واضطهادهم، الى المآسي الشخصية
والاجتماعية، كل هذا لا يعني الا انهيار لبنان السياسي. ان تقلص
الوجود الماروني - الجغرافي والسياسي - هو اعدام لفكرة الدولة اللبنانية
المستقلة والعودة الى حياة القبائل والعشائر في القرون الوسطى، حيث
العائلات والطوائف والحكومات المستلبة الارادة تتقاسم سلطة وهمية هشة.
ان الحضور
الماروني في كل مناطق لبنان هو الضامن لوحدة لبنان والشرط الاساسي
لديمومته. من هنا نتبين عدم حقية او صدق الاتهام الموجه الى الموارنة
بمحاولة خلق "معزل" ماروني. ان المسكونية السياسية التي حركت الماروني لا
تزال هي نفسها المحرك الاساسي وسط هذا الوضع المقلق والمرارة التي نعيش.
فالموارنة لم يتخلوا عن لبنان الـ10452 كلم،2 والماروني هو الذي اطلق هذا
الشعار وكان ضحيته، لا بل اكثر، فقد قدم الشهداء وصرف قرونا من الجهد
والكد من اجل تحقيق هذا الهدف.
ان الذين
ارتكبوا الاعمال العدوانية البربرية ضد الموارنة لن يستطيعوا اخفاء عجزهم
العميق عن قبول الآخر، ولن يسعهم ستر عنفهم والخوف من مواجهة الابعاد
الانسانية الاصيلة.
ورغم كل
الاختلافات وكل اشكال الحقد، وانطلاقا من مسؤولياته الانسانية، التي
اكدها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في الارشاد الرسولي "رجاء جديد
للبنان"، الذي وقعه في بازيليك سيدة لبنان في حريصا، سوف يعمل الماروني
جاهدا وفي كل لحظة على اساس الغفران من اجل اعادة بناء لبنان المحبة
والثقة المتبادلة، "لأن مسيحيي الشرق الاوسط ومسلميه ،... مدعوون الى ان
يبنوا معا مستقبل تآلف وتعاون، في سبيل تطور انساني واخلاقي لشعوبهم.
والى ذلك، ان الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه يمكن ان يساعد
على تحقيق المسعى نفسه، في بلدان اخرى".
عن النهار
الجمعة
24 كانون الثاني 2003 - السنة 70 - العدد 21505 |