عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
أيمن شحادة  

أيمن شحادة

 *كاتب من لبنان


ماذا قُتل العقيد معمّر القذافي

20111028

 قد يبدو للوهلة الأولى أنّ الثوّار قاموا بقتل القذافي في خضمّ الفوضى التي سادت لحظة إعتقاله، وذلك كنوع من الإنفعال العفوي الذي سيطر على غالبيّتهم. فالقذافي لم يفارق الحياة نتيجة نزف الجروح التي أصيب بها في القصف قُبيل اعتقاله، بل نتيجة إصابته برصاصة في الرأس في أعلى مقدّمة وجهه لجهة اليسار أُطلقت عليه بعد فترة وجيزة من إعتقاله.

بغضّ النظر عن المشاهد المهينة التي رافقت لحظات اعتقال ومقتل القذافي والتي أظهرت للعالم وجهاً همجيّاً ومتخلّفاً ومعيباً للثورة لا يبرّره ظُلم نظام القذّافي، فعمليّة قتله هذه لا يُمكن أن يستوعبها إنسان عاقل إلاّ على أنّها تصفية متعمّدة.

إذا كانت كلّ هذه الإتّهامات التي تسوقها الثورة بحق معمّر القذافي وأسرته حقيقيّة، ألا يُفترض أن يكون هناك مخطّطاً دقيقاً جدّاً وتعليمات صارمة في كيفيّة التصرّف عند احتمال اعتقاله وأفراد أسرته والمقرّبين منه ؟

 قادة المجلس الإنتقالي يقولون أنّ فترة حكم القذافي طغى عليها الظلم والفساد والإجرام والنهب المنظّم للأموال العامّة لدرجة أنّهم يؤكّدون أنّ القذافي وأسرته حوّلوا إلى الخارج وعلى مدى سنوات، أموال تتجاوز قيمتها الـ 200 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى مسؤوليّة القذافي وأجهزته عن تصفية مئات أو آلاف المعارضين إبّان فترة حكمه، فإذاً كيف يُعقل أن يُقتَل القذافي ونجله فور اعتقالهم ؟ من المستفيد الأوّل من موته ودون تقديمه إلى التحقيق والمحاكمة ؟

الكلّ يعرف أنّ أموال قادة الدول الديكتاتوريّة لم تعد تودع في بنوك الخارج بأسمائهم أو أسماء المقرّبين منهم، ولا تحوّل من الأساس إلاّ بطرق ملتويّة شديدة التعقيد ويصعب تعقّبها، .... فما حصل للديكتاتور الفليبيني ماركوس بعد إطاحته في الثمانينات لجهة مصادرة أمواله المودعة بين أمريكا وفرنسا وبريطانيا وحتّى سويسرا والتي ناهزت الـ 50 مليار دولار، كانت كفيلة بـ "تثقيف" باقي أعضاء نادي القادة الديكتاتوريّين ليكونوا أكثر حرصاً وحذراً عند سرقة وإيداع الأموال.

 1 في حال صحّت ادّعاءات المجلس الإنتقالي لناحيّة الـ 200 مليار، فإنّ أولى ثمرات قتل القذافي وأولاده ستكون خسارة حتميّة للجزء الأكبر من هذه الأموال المسلوبة، ..... فدول العالم الغربي لن تكون متحمّسة أبداً لتعقّب تلك الأموال من عشرات أو مئات المليارات وإعادتها إلى ليبيا، وهي حاليّاً بأشدّ الحاجة لاستقطاب رؤوس الأموال وزيادة الودائع، ..... ولن تضع في تصرّف النظام الليبي الجديد سوى الأموال المودعة بشكل مباشر تحت أسماء أقارب القذافي الذين كان لهم دور مباشر في إدارة الحكم، (وهذه الأموال بالتأكيد غير ذات قيمة تذكر)، بالإضافة إلى حسابات المكاتب الليبيّة للإستثمارات الخارجيّة والودائع الرّسميّة الليبيّة والمقدّر إجماليها بـ 4 مليارات دولار.

 2كان معمّر القذّافي يعالج الكثير من المشاكل السياسيّة أو يحاول تعزيز موقعه على الساحة الدوليّة من خلال تقديمات ماليّة كبيرة، وذلك بصورة شخصيّة لا رسميّة، لشخصيّات سياسيّة غربيّة وعربيّة من مستوى رؤساء دول ورؤساء حكومات وصولاً إلى رؤساء أحزاب ورؤساء جمعيّات، فكان هناك كلام أكيد عن تقديمه أموالاً كثيرة لشخص الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ولرئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير، ولعدد كبير من سياسيّي العالم الغربي والعربي والأفريقي، بالإضافة إلى تقديمه تسهيلات ضخمة لشركات رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني، ...... ولكن كانت كلّ هذه النشاطات تبقى ضمن ممرّات ضيّقة بعيداً عن الإعلام.

  3 لو كان عهد القذافي هو عصر المخالفات والفساد والإجرام كما يؤكّد أعضاء المجلس الإنتقالي، ألا يُفترض بهم الحرص على إلقاء القبض عليه حيّاً وتقديمه إلى المحاكمة لتحديد المسؤوليّات وربط الوقائع ومعرفة الحقائق وكشف المسؤولين عن كلّ الحقبة الماضية ؟ فأيّ زعيم ديكتاتوري لا يمكنه أن يحكم دون فريق عمل كبير جدّاً يحمل مسؤوليّة مباشرة عمّا وصلت إليه البلاد.

 لو وضعنا هذه النقاط الثلاث تحت المجهر لوجدنا أنّ موت القذافي الفوري دون تقديمه إلى المحاكمة هو مطلب بعض الدول الغربيّة حيث ودائعه "النائمة إلى الأبد" بعشرات المليارات ومردوداتها عليهم ..... بالمليارات، ... 
 ولوجدنا أنّ موته الفوري دون إفساح المجال الأمامه للدفاع عن نفسه وسرد سيرته وكشف خبايا حكمه، سيحمي عدداً كبيراً من أهل السياسة في أوروبا وأفريقيا والعالم العربي من مغبّة المسائلة والمحاسبة والعقاب، ويُبقي أسرارهم ضمن إطار الإشاعات والإفتراضات والإتّهامات التي لا مسوّغ لها ولا دليل بعد موته
 ولوجدنا أيضاً أنّ غالبيّة الطاقم الفاسد في الحكم السابق قد أصبحوا بمنأى عن أيّ اتّهامات أو إدانات بعد سقوط القذافي وفريق عمله المقرّب في فخّ الموت، وبالتالي هم اتنقلوا إلى ضفّة الثورة وأصبحوا يحاضرون في ظلم وطغيان القذافي، وأنّهم كانوا أسرى بطشه وجبروته (وما أكثرهم)
 
 ربح الشعب الليبي حريّته وأطاح بنظام العقيد القذافي، ... ولكنه أضاع مداخيله لعشرات السنين في دهاليز البنوك الغربيّة، ................. فيما عدد كبير من سياسيّي العالمين الغربي والعربي تنفّسوا الصعداء وحافظوا على مراكزهم وسمعتهم، .......... في حين نجحت غالبيّة الطاقم الفاسد من فريق عمل القذافي في الخروج من معادلة النظام المنهار بكلّ أمان طمأنينة وثقة نفس منتقلة إلى صفوف الثوّار، ........ والفضل في كلّ ذلك يعود لعمليّة تصفية العقيد معمّر القذّافي بهذه السرعة.
  هذا ما يدعونا للإعتقاد بأنّ مقتل القذافي لم يكن مجرّد حركة عفويّة من هؤلاء المتخلّفين الجهلاء الذين ألقوا القبض عليه، بل كان هناك مخطّطاً منذ البداية يقضي بإلقاء القبض على القذافي ميّتاً ..... أو قتله فور اعتقاله، لأنّ سوقه إلى التحقيق والإستجواب والمحاكمة سيحرم الكثيرين من أموال ونِعمٍ موعودة، كما سيفتح على آخرين في الداخل والخارج أبواب جهنّم.

chehade@gmx.com

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها