عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

مسيحيو سوريا جنّةٌ بالذميّة وجهنم!

الاثنين 27 شباط 2012

بقلم طارق حسون

عندما وصل الرئيس الراحل حافظ الأسد الى سدّة الحكم في سوريا العام 1970، انصّب جهده على معالجة ثلاث مسائل اساسية:

الأولى، توطيد دعائم حكمه المطلق بشتّى الوسائل، حتى ولو تطلّب ذلك سفك الدماء، وإسكات كل الأصوات المعارضة، لا فرق إن كانت مسيحية، او سنّية، او علوية، او درزية، او سواء كانت، عربية، او كردية، او سريانية، او ارمنية أو غيرها...

والمسألة الثانية، كانت عمله، بالتوازي، على إضفاء مشروعية "إسلامية - سنيّة" على حكمه، فسارع الى اعتناق المذهب السنّي، وأفرد للإسلام السنّي، في العام 1973، مادةً دستورية خاصة به، هدفت الى طمأنة المسلمين الُسنّة، واستدرار عطفهم وتأييدهم، بحيث جاءت المادة الثالثة من الدستور السوري لتُشددّ على ان "الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع في سوريا"، وعلى أن "دين رئيس الدولة هو الإسلام". فامتازت الطائفة السنّية عن سواها من الطوائف السورية، بهذه اللفتة الرئاسية - الدستورية.

امّا المسألة الثالثة، فكانت اللعب على التناقضات المجتمعية والطوائفية السورية، فأشعر المسيحيين وسائر الأقليات الأخرى، بتهديدٍ وجودي متأّتٍ من قبل الأكثرية السنّية، طارحاً نفسه بالمقابل، كضامنٍ لأمن، وسلامة، ومستقبل الأقلّيات. فنجح إذّاك في بلورت معادلةٍ شديدة الخُبث، أجبرت المسيحيين وسائر الأقليات الأخرى على تسليم أمرها، مُكرهةً، لنظام الأسد، كسبيل وحيد لحماية وجودها البيولوجي، في مقابل تنازلها عن حقوقها السياسية والإنسانية الباقية.

من هنا، فإن استدراج الطوائف المسيحية في سوريا الى السير خلف الرئيس حافظ الأسد وتأييد حكمه للحفاظ على وجودها البيولوجي- من دون وجودها الإنساني التفاعلي- وضع تلك الطوائف عملياً، في مواجهة الأكثرية السنّية الصامتة، وهذا بالضبط ما رمى اليه حافظ الأسد للإمساك بعصا التوازنات السورية من وسطها.

علماً بأن الوجود المسيحي في الشرق سابقٌ لحكم آل الأسد بمئات السنين، وبالتالي فإن هذا الوجود ليس مرتبطاً ببقاء هذا الحكم او زواله، وعلماً ايضاً، بأن علاقة المسيحيين بمواطنيهم المسلمين في سوريا، لم تكن قبل وصول آل الأسد الى الحكم، بالشكل السيىء الذي يحاول نظام الأسد تسويقه... (للتذكير فقط، كان المسيحيون قد نجحوا بتبوء ارفع المراكز داخل السلطة في سوريا، بحيث انتُخب فارس خوري، المسيحي البروتستانتي، رئيساً لمجلس النواب السوري لمرتين، كما عُيّن رئيساً لمجلس الوزراء لثلاث مرّات كان آخرها في العام 1954، وقد جاء إسناد السلطة التنفيذية لمواطنٍ مسيحي، غير مسلم، في سوريا، ليُدّلل على ما بلغته سوريا حينها من نُضجٍ، وعلاقاتٍ تفاهمية تفاعلية بين مكوّناتها الطائفية كافةً).

واقع الأمر، ان مصلحة الأسد كانت تقضي بتحويل مسيحيي سوريا، من مواطنين فاعلين سياسياً، ومتفاعلين إنسانياً وحضارياً مع مواطنيهم المسلمين، الى مجرّد مُلحقين أقلّويين ذمييّن لنظام قِلّة، سعت الى إحتكار السلطة بشتّى الحيل والوسائل، وعلى حساب الجميع من دون استثناء.

إنطلاقاً من هذه الوقائع، يتمظهر جلياً ان سياسة الأسد، وبخلاف ما يحاول بعض أذيال النظام ترويجه في لبنان، لم تحاكِ تحدّيات الواقع الوجودي المسيحي في سوريا، وإنما تركّزت على محاولة استقطاب واسترضاء الأكثرية السنّية، ليس حُبّاً بأهل السنّة، بل سعياً وراء تثبيت قواعد النظام واستقراره.

وعليه مثلاً، فإن الرئيس حافظ الأسد قارب علاقته بالمملكة العربية السعودية، إنطلاقاً من رغبته بتحقيق امرين اساسيين:


اولاً، إستثمار هذه العلاقة لتثبيت دعائم حكمه الأقلّوي، وإضفاء مشروعية إسلامية وعربية عليه.


ثانياً، محاولة إستظلال عباءة المملكة لممارسة الإرهاب المعنوي والمادي إذا اقتضى الأمر، على الأكثرية السنّية الصامتة، من خلال الإيحاء لها بعلاقةٍ مميزة ومتينة تجمعه بالمرجعية السنّية الأولى في العالم. بينما، وبالمقابل، حاولت المملكة إستيعاب نظام الأسد بهدف تشذيب سلوكه الوحشي بحقّ الشعب السوري من جهة، والحدّ من ضرره على المنطقة العربية برمّتها، من جهةٍ ثانية.

ولو ان حافظ الأسد، كان يأبه فعلاً لمصير الأقلّيات الدينية او القومية، لأحجم عن محاولة تعليب المسيحيين في إطارٍ طائفي أقلّوي مُرتبط بشخصانية ووجود آل الأسد، او لسعى على الأقلّ، الى التشبّه بـ "جاره" مصطفى كمال أتاتورك، في بناء دولةٍ حديثة تحكمها سيادة القانون، والمساواة، والمواطنة الحقّة...

امّا المفارقة المؤسفة، فهي قيام بعض أرباب الدجل السياسي عندنا، وإنطلاقاً من مصالحهم الشخصية الضيقّة، بإختلاق كل الأكاذيب والمبررات، التي تُبيح لهم الدفاع عن بقاء نظام الأسد.

ففي معرض تبريرهم لجرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الأسد، يفتعلون هواجس تتعلّق بمستقبل المسيحيين "بعد رحيل الأسد"، ويُقيمون الحجّة على هواجسهم تلك، من خلال الإدعاء بإن رحيل الأسد سيؤدي حتماً، الى خسارة مسيحيي سوريا مواقعهم ونفوذهم ومستقبلهم، وصولاً الى استنتاج يقول بضرورة "تشبّث مسيحيي لبنان ببقاء نظام الأسد حرصاً على مستقبلهم، ومستقبل أخوتهم المسيحيين في سوريا"...!!

لن نتطرّق الى ما اقترفه نظام الأسد بحق مسيحيي لبنان، من جرائم، وإضطهاد، وإستبعاد عن مراكز القرار، وتهميش، وتجنيس ونفي، وقوانين إنتخابية عوجاء، وهجرة وتهجير... وإنما، بالمقابل، سنكتفي، بطرح جملة أسئلة تتعلق بواقع مسيحيي سوريا تحديداً:

اولاً: إذا كان نظام الأسد يولي هذا القدر من الإحترام لمسيحيي سوريا، ويعترف بحقوقهم السياسية، ويتعامل معهم على قدم المساواة مع الباقين، فلماذا أضاف الأسد الأب، إذاً، مادةً دستورية تُحرّم على اي مسيحي سوري الترشّح الى إنتخابات الرئاسة في سوريا؟ ثم لماذا لم يُقدم الأسد الإبن على شطب هذه المادة من دستوره "المُعدّل الجديد"؟ فهذه هي الذمّية بحدّ عينها، وهي تُطبّق على المسيحيين في سوريا الآن، في القرن الواحد والعشرين، وهي تُفرض من قبل نظامٍ حالي، هو نظام الأسد تحديداً، وليس من قبل نظامٍ "إسلامي" مُفترضٍ...

ثانياً: إذا كان مسيحيو سوريا، شركاء، ومؤثرين، وفاعلين حقيقةً في عملية صنع القرار السوري، فذلك يُرتّب عليهم مسؤولية المشاركة الفاعلة، والمؤثرة، في عملية قتل وإضطهاد، ونفي، وسجن، وتهميش اخوتهم المسيحيين في لبنان، طيلة فترة حكم الأسد!!! وهو ما ليس صحيحاً، فكلنا يعلم ان الضبّاط السوريين المسيحيين الذين نزعوا صمّامات بعض قذائف مدفعيتهم خلسةً، للحدّ من وقوع إصاباتٍ بشرية في صفوف المسيحيين خلال الحرب اللبنانية، تعرضوا للإعتقال والمحاكمة، واُبعدوا عن الخدمة العسكرية في لبنان...

ثالثاً: لو كان مسيحيو سوريا، فاعلين ومؤثرين في نظام الأسد، لكانوا ضغطوا على النظام لوقف المجازر والاساءات بحق مسيحيي لبنان، او قاربوا المخاطر التي واجهها مسيحيو لبنان، لا من منطلقٍ مسيحي أخوي فقط، ولا من منطلقٍ إنساني آخر، وإنما من منطلق "شراكتهم وتحالفهم" مع نظام الأسد.

إن التضامن اليوم، ينبع من منطلقاتٍ إنسانية عامّة، ويفترض الاّ يكون مترافقاً مع حساسياتٍ طائفية بغيضة يحاول أذيال النظام إزكائها، والاّ يكون هذا التضامن ايضاً مقتصراً على مسيحيي سوريا من دون سواهم، وإنما يستوجب ان يشمل كل مجموعةٍ تتعرض للقتل والإضطهاد، بصرف النظر عن هويتها الطائفية، او المجتمعية.

حقيقة الأمر، ان مسيحيي سوريا، شأنهم شأن الغالبية الساحقة من السوريين، يفتقرون الى الحدّ الأدنى من حقوقهم السياسية، في ظلّ وجود قلّةٍ اوليغارشية حاكمة، لا طائفة لها، ولا لون، ولا هويّة، إلاّ طائفة المال، ولون الدماء، وهوّية التشبّث بالسلطة.

خلاصة القول، ان الدعاية التي يحاول بعض أذيال نظام الأسد تسويقها في لبنان، لجهة ضرورة بقاء الأسد، كضامنٍ وحيد وحصري، للشراكة المسيحية الفاعلة في صنع القرار واتخاذه على مستوى القيادة السورية، هي دعايةٌ باطلة جملةً وتفصيلاً، لا بل انها تستجلب ضرراً جسيماً للمسيحيين، وتُحملّهم مسؤوليةً جزئية، تاريخيةً وسياسية، عمّا ارتكبه ويرتكبه نظامٌ منهارٌ، ومعزول، ومُدانٌ عربياً، وإسلامياً، ودولياً.

وبعد، إذا كانت حماية الوجود المسيحيي المادي في سوريا، لا تتّم، إلاّ من خلال تخلّي المسيحيين عن حقوقهم السياسية والإنسانية البديهية، وتوفير بعض "الدعم الذمّي" لبقاء نظام الدم والموت، والدمار... فبئس هذه الحماية، وبئس هذا الدعم، وبئس هذا الوجود من اساسه.

جنّة الذمّية لم نرضَ بها... فهل نتخّذ من جهنّم الذميّة لنا منزلا؟!

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها