على النعامة أن تُخرِج رأسها
د. مصطفى علوش
/الجمهورية/14 كانون الثاني/17
«نعيب
زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو
نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا»
(الإمام الشافعي) ليس من السهل الحديث عن هذا الموضوع من دون أن يُثير
ردّات فعل من غير «ذوي الألباب»، وهمّ كثر. لكنّ «الساكت عن الحق شيطان
أخرس».
لم يعد من المفيد اليوم اتّباع سياسة دفن الرأس في الرمال كما تفعل النعامة
عند الخطر، وبالتالي الخطر الأكبر اليوم هو بالتستّر وراء شعارات التسامح
والإعتدال، فيما تُلصق تهم التطرّف بفئات ضالة أو بخوارج أو بمدسوسين!
فلا أظنّ أنّ المدسوسين سيفجّرون أنفسهم من أجل دسيسة، أو أنّ أبّاً أوصاه
دينه برعاية أبنائه وبناته، يقوم بوأد بناته بمتفجّرة مزروعة على أجسادهنّ،
وهو موقن،ربما، بأنّه يقوم بما فرضه عليه إيمانه.
لا يمكن التأكيد اليوم على مدى تأثير الفكر العنيف على المسلمين عموماً،
ولا يمكن أخذ الأقوال والشعارات كدلائل ثابتة إن صدرت وتضاربت من هنا
وهناك. فمَن كان يظنّ أنّ رجل أمن تربّى في تركيا على قواعد دولة أرساها
كمال أتاتورك العلماني، سيتحوّل فجأةً إلى قاتل انتحاري هلَّل له الكثيرون
في بيئتنا واعتبروه ناصراً للحق، وقد تكون لديهم كلّ الحجج المنطقية لذلك.
ومَن كان يظنّ أنّ مغنّي «راب» سيأتي من بريطانيا ليصبح أصولياً ملتحياً
يعِظ بالدين بلغات متعدّدة ويذبح علناَ بإسم الدين؟ ومَن كان يعتقد أنّ
مُدمنة مخدرات ستتوب وتتحوّل إلى عنصر إسناد في جيش يقاتل في سبيل الدين.
الواضح هو أنّ الأكثرية العظمى من هؤلاء هي من اليافعين، أو الخارجين
حديثاً من سنوات مراهقة مضطربة، أو كهول مصابين بإحباط الغربة عن مجتمعهم،
أو بغربة عن أنفسهم لعدم قدرتهم على التأقلم مع الوقائع.
هؤلاء قلّة؟ وهل أجرينا استطلاع رأي لنعرف النسبة؟ لكنّ المؤكد هو أنّ مَن
سيقرنون أفكارهم بالأفعال وباللجوء إلى العنف هم قلّة! ولكنّ هذه القلّة إن
كانت تعني واحداً في المئة، فيعني ذلك أنّنا أمام نحو المليون قنبلة حيّة
متنقّلة لا يمكن معرفة أين وكيف ستنفجر.
ولو جمعنا ما يمكن أن تحمله هذه القنابل من قوة تفجير لأيقنّا أنّ ذلك
سيعادل قنابل ذرّية عدة، ربما من النوع البدائي، لكنّ تأثيرها السياسي
والإجتماعي والنفسي قد يكون مضاعَفاً في أيامنا هذه.
صحيح أنّ معظم أتباع هذا النهج لا يعرف عن الإسلام إلّا ما ندر، وهناك
كرّاسات تمّ توزيعها على الكثيرين من هؤلاء للتعريف بالإسلام بشكل مُختصر،
وبإشراف داعشي على المحتوى، عند لجوئهم إلى دولة التطرّف والإرهاب.
لكنّ المؤكد هو أنّ مَن يقودهم عارف بشؤون الدين، وقد يكون بعضهم مدسوساً
أو ربما مقتنعاً بما يفعله، ولكنّ ما يفعلونه مستندٌ إلى نصوص قرآنية كثيرة
قاموا هم بانتقائها دون غيرها من النصوص، واجتهدوا بتفسيرها لتخدم أهدافهم.
أما النصوص التي أغفلوها بالكامل فعديدة أيضاً، وكلّها تحضّ على التسامح
والغفران.
الواقع هو أنّ المرجعية الصالحة والموحّدة اليوم مفقودة، وإن وُجدت فهي
معرَّضة للإتهام بالردّة أو الميوعة أو خدمة الحاكم، أو التأثر بالأفكار
الغربية، لذلك نرى الكثيرين من علماء الدين المؤهّلين يخشون البحث علناً في
هذه الأمور، ويكتفون باتهام الفئات الضالة!
هنا من جديد، من الواجب التنويه بما صدر عن الأزهر الشريف سنة ٢٠١٢ حول
الحرّيات العامة والشخصية، وهذه الوثيقة هي ثورة حقيقية على التزمّت وعلى
النهج الذي يعتبر الفرحَ والحبورَ معصيةً بحدّ ذاتها.
لكنّ ما نحتاجه اليوم هو أبعد من إصدار وثائق لن يقرأها إلّا ما ندر من
البشر، فواجب علماء الدين أيضاً هو حماية عقول المؤمنين من الحيرة والشك،
وذلك بالإقدام على توضيح وشرح ما يستند إليه مَن يلجأون إلى العنف في سبيل
الدين ويواجهونهم بالمباشر، بدل دفن الرؤوس في الرمال. |