عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

 

سيفو شهداء السريان أضاؤوا الصليب أنواراً

كتب آلان سركيس في “الجمهورية”:

 

كانت بداية عام 1915 كارثية على السريان في تركيا والمناطق الواقعة تحت سيطرة السلطنة العثمانية، إذ إنهم عاشوا زمن الاضطهاد الأوّل، على خطى السيّد المسيح. أكثر من نصف مليون سرياني استشهدوا في مجازر “سيفو” دفاعاً عن كلمة المحبّة والمسيح. سالت الدماء وجُبلت بتراب وصخور جبال طورو والبلدات السريانيّة.

مهما تعدّدت الروايات وكثرت التبريرات التركيّة، تبقى الحقيقة واحدة، وهي أنّ الشعب السرياني تعرّض لإبادة جماعيّة مع الأرمن وبقيّة المسيحيّين، في مجزرة ارتكبتها تركيا لاستكمال التطهير العرقي على أراضيها، غير آبهة لمصير شعب قُتل وذُبح وتشرّد في أصقاع العالم.

ولايات وان وديار بكر ومعمورة العزيز. مناطق طور عابدين، ماردين، ماديان، جبال طورو، جبال السريان، كلها أماكن شهدت أفظع المجازر حيث استخدم أسلوب التدمير والحرق والذبح والإعدام بالحجارة، لكنّ هذه المجازر لم تُظهَّر مثل المجازر الأرمنيّة لأنّ السريان يفتقدون لوطن قوميّ، ولا توجد دولة سريانية مثل ارمينيا تحمل لواء هذه القضيّة.

بين سريان تركيا الذين أُبيدوا، وموارنة جبل لبنان الذين ينتمون الى القوميّة السريانيّة، هناك تَلاقٍ في المعاناة. الجلّاد واحد، إنها السلطنة العثمانيّة التي حاصرت جبل لبنان، فقتلت عدداً كبيراً من أهله جوعاً. لكن، وعلى رغم أوضاع لبنان الصعبة، فقد قصده السريان الذين نجوا من هَول المجازر وتمركزوا بشكل أساسي في زحلة والمتن والأشرفيّة.

المكان يُطبع باسم ساكنيه، وحيّ السريان في الأشرفيّة شكّل ملجأ وبيتاً آمناً للمسيحيين المهجّرين، فقد أطلقت عليه هذه التسمية منذ وصول أولى طلائع السريان عام 1915. في أزقّة كل شارع قصّة ورواية وغصّة، حيث يتطلّع سكانه الى التاريخ، ويتألمون لأنّهم اضطهدوا بسبب انتمائهم الى دين يبشّر بالسلام والمحبّة.

يراجعون واقعهم الحالي، ويرون أنّ الشرق بات فارغاً من أبناء قوميتهم. يرفضون هذا الإنحدار، إذ كانوا يشكّلون في السابق معظم سكّان الشرق من بلاد ما بين النهرين الى النيل، أمّا الآن، فهم أقليّة تضطهد، ويقضى على ما تبقّى منها في سوريا والعراق.

الواقع المرير الذي يعانيه مسيحيو الشرق، يرخي بظلاله على حي السريان المتواضع في الأشرفيّة، لكنّ نَفس المقاومة موجود بين أهله الذين يستذكرون مراحل الحرب الأهلية اللبنانيّة، وحرب المئة يوم في الأشرفية، حيث يؤكدون أنهم حملوا البندقية وقاتلوا بشراسة مع المقاومة المسيحيّة لأنهم لا يتحمّلون أن يهجّروا مرّة ثانيّة من لبنان، أرض المسيحيّة.

يتناقل السريان أخبار المجازر من جيل الى جيل، لكنّهم يحرصون على إظهار الروح السلميّة التي يملكونها، إذا لم يَدس أحد على كرامتهم. لكن من يقترب من سرياني فلَه “الويل والثبور وعظائم الأمور”.

يؤكّد سريان الاشرفيّة تمسّكهم بالمسيحيّة وانهم لن يتخلّوا عنها مهما عنف الإضطهاد. ففي مكتب مختار السريان جان نعمة، أحاديث تتناول المجازر والوضع السياسي العام وأزمة مسيحيّي لبنان. ينكبّ المختار على تخليص معاملات المواطنين ومن ضمنها طلبات لأبناء طائفته التي تهاجر يوماً بعد يوم، ووجهتها الأساسيّة السويد، حيث يفاخر المختار بأنّهم شعب مسالم ومتعلّم، لكنه يحتاج الى فرصة، ففي السويد باتَ هناك 5 نواب سريان إضافة الى وزير للتربية. أمّا في لبنان فليس لديهم سوى 4 مخاتير.

يذكّر نعمة جميع سكّان منطقة الشرق بأنّ أصلهم سرياني آرامي، فكلمة العرب تعني “عربو” بالسريانيّة، أي البدو. كذلك، فإنّ عدداً كبيراً من عبارات القرآن الكريم كُتبت بالسريانيّة مثل “بسم الرحمن” أي “باسم الرحمان” في العربية. حتى اليهود ينتمون الى القومية السريانية قبل أن ينزل بينهم ابراهيم. ويشير نعمة الى انّ السريان الذين استشهدوا يتعدّون النصف مليون شهيد، وهرب قسم منهم الى جبال لبنان، بعدما كانوا يشكلون عدداً لا يُستهان به في تركيا.

وجد السريان الأمان في لبنان، البلد المسيحي والضامن للحريات الدينيّة، خصوصاً أنّ جبل لبنان كان ذا غالبية سريانيّة مارونيّة، وقد سجلوا في إحصاء 1924 ثم في إحصاء 1932، ونالوا الجنسيّة مع أشقائهم الموارنة وبقيّة اللبنانييّن. وتأكيداً على تجذرهم في هذا البلد، فإنّ بطريركيّتي السريان موجودتان في لبنان، وهما البطريركيّة المارونيّة في بكركي، وبطريركيّة السريان الكاثوليك على المتحف، أمّا بطريركيّة السريان الأرثوذكس فمركزها سوريا.

وأثناء وجودنا في مكتب المختار، دخلت دنيز نعمة رحمة من بلدة بشري، وشاب سوريّ يدعى جهاد مع زوجته، وهو من سريان القامشلي وهاجر الى السويد.

وما لبث أن دار نقاش، لتؤكد رحمة أنّ منطقة بشري متمسّكة بجذورها السريانيّة المارونيّة، واللهجة البشرانية هي اللهجة السريانية القديمة، وتشدّد في المقابل على أنّ لا أحد يستطيع تهجير مسيحيّي لبنان لأنهم أقوياء ويقاتلون من اجل البقاء. في وقت يستفيض الشاب السوري في رواية الأخبار التي يتناقلها أجدادهم عن تهجيرهم من تركيا واستقرارهم في القامشلي وتغيير أسماء السكن، مؤكداً أنهم ما زالوا يتكلمون السريانيّة.

لا توجد أرقام رسميّة تشير الى أعداد السريان في لبنان، لكنّ التقديرات تدلّ الى أنهم يتجاوزون الثلاثين ألف نسمة من دون المهجّرين من العراق وسوريا في الفترة الأخيرة. ويؤكدون التزامهم بلبنان مثل جميع اللبنانيين، لكنّهم في المقابل يدعون الموارنة الى أن يكونوا أكثر وعياً وإدراكاً لمخاطر المنطقة.

وفي هذا السياق، يشدّد مطران جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس جورج صليبا لـ”الجمهوريّة” على أنّ “المسيحيّة هي عَيش الإضطهاد والمآسي والشهادة والإستشهاد، والسريان مع سائر المسيحيين جزء لا يتجزّأ من هذه الرسالة، ومع الشهيد الأكبر السيّد المسيح ومار اسطفانوس وأطفال بيت لحم”.

ويقول: “نقدّم الشهداء منذ 2000 عام، وقد واجَهنا منذ 100 عام أبشع شرّ وهو السلطنة العثمانيّة، فقتلونا وهجّرونا واقتلعونا من أرضنا لكننا انتشرنا في العالم أجمع. واليوم، نتذكّر هؤلاء الشهداء الأبرار الذين أصبحوا أنواراً تضيء الصليب”.

ويروي صليبا كيف تمّ القضاء على الوجود السرياني والمسيحي في تركيا، “فأُفرِغَت اسطنبول من مسيحييها، وكان اسمها القسطنطينية، كذلك لم يعد هناك سوى بقايا مسيحيّة في تركيا والشرق فيما عدد المسلمين في هذا البلد يوازي الـ80 مليون نسمة”.

في ظلّ موجات التهجير الداعشية لمسيحيّي الشرق، يستعمل لبنان ممرّاً لهذه الحركة، حيث يشير صليبا الى أنّ “لبنان هو بلد ترانزيت للسريان وللمسيحيين المهجرين”، مناشداً أوروبا وأميركا “التدخّل ووَقف إفراغ الشرق من مسيحيّيه”.

يطالب السريان بالعدالة، فمعظمهم لا يرغب بالعودة الى تركيا التي حوّلت كنائسهم متاحف ومساجد وسينمائيات، وإذا كانوا يشعرون أن لا وجود لدولة ترعاهم، إلّا أنّ لبنان وطنهم مثلما هو وطن كلّ مسيحي مضطهد في هذا الشرق.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها