وسط عجقة صراع الهويات في المشرق العربي، أخرج الساحر الإسرائيلي من قبعته هوية جديدة يريدها للمسيحيين الفلسطينيين.
فالدولة العبرية، التي نجحت في تحويل الهوية الدرزية إلى هوية قومية في إسرائيل، ولو على الورق وفي ملفات التجنيد، استنبطت للمسيحيين هوية قومية جديدة، فهم ليسوا فلسطينيين أو عرباً بل هم آراميون!
هكذا قرر السيد جدعون ساعر وزير الداخلية الإسرائيلي بالإتفاق مع الكاهن جبرائيل الندّاف، وهو كاهن أرثوذكسي في كنيسة يافة الناصرة!
لا أدري لماذ قرر مستشرق يعمل في المخابرات الإسرائيلية إحياء قومية آرامية لا أساس لها سوى في المتخيّل الإسرائيلي الذي يسعى إلى تفتيت ما تبقى من الشعب الفلسطيني في وطنه المحتل إلى قوميات مختلفة!
فبعد فشل الكاهن الندّاف في إقناع المسيحيين بالإلتحاق بالجيش الإسرائيلي، من أجل خدمة دولة سرقت أرضهم واحتلت بيوتهم ونهبت ممتلكاتهم، تفتّق ذهنه أو ذهن مشغليه عن فكرة «عبقرية»، هي استنباط قومية خاصة بالمسيحيين. لا يستطيع الندّاف أو مشغّله التحدث عن قومية مسيحية تمتد من الفاتيكان إلى أمريكا، لأنه لا وجود لها، عدا عن أنها تزعج الإسرائيليين، لذا كان لا بد من العودة إلى الماضي وإخراج هوية ما من مقبرة التاريخ.
كمية الجهل في الإقتراح الآرامي تثير الشفقة، فالسيد الندّاف، عدا عن جهله بتاريخ العائلات المسيحية الفلسطينية التي تنتسب في غالبيتها إلى حوران، حيث مهد المسيحيين العرب، (أغلب الظن أن عائلة الندّاف التي لها فروع فيلبنان وسورية وفلسطين هي عائلة حورانية الأصل)، يجهل تاريخ العلاقة بين اللغة الآرامية والأرض التي انطلقت منها، والتحولات التي طرأت على الناطقين بها.
من يعرف ألف باء التاريخ السرياني يعرف أن دخول المسيحية إلى بلاد الشام، ونشوء الكنيسة الإنطاكية، قادت الناطقين المسيحيين بالآرامية إلى تمييز أنفسهم عبر تبني تسمية السريان. فالسرياني هو الآرامي المسيحي.
جبرائيل الندّاف، الذي يدّعي أنه درس اللاهوت، لا يعرف هذه الحقيقة البديهية، كما أنه لا يستطيع أن يخترع قومية سريانية نظرا لوجود طائفة مسيحية سريانية في فلسطين.
استخدام السريانية في الخدمة الكنسية لم يكن مقتصراً على اليعاقبة أو على الموارنة، بل كانت كل الكنائس المسيحية تستخدم السريانية في الصلوات، إلى أن بدأ التعريب، فتعربت الكنيسة، لكنها لم تتخلَّ عن استخدام السريانية بشكل جزئي، وهذا ينطبق على الكنيسة الأرثوذكسية التي يدّعي السيد ندّاف الإنتماء إليها.
أما استخدام اليونانية في الكنيسة الأرثوذكسية، فقد تم بعد نهاية الحروب الإفرنجية، حيث تعرضت الكنيسة الشرقية إلى أبشع أنواع الإضطهاد خلال الحكم الصليبي، فهاجرت إلى القسطنطينية، وحين عادت بعد قرنين رجعت بالطقس البيزنطي.
المسيحيون، ككل الشعب في البلاد الشامية، كان قبل الفتح العربي يستخدم لغتين: اليونانية البيزنطية والسريانية. ومع التعريب تلاشت اليونانية واندثرت، أما السريانية فتغلغلت في اللغة العربية ولم تختفِ إلا لتصير جزءا عضوياً من لغة الضاد.
ولم تتم المحافظة على السريانية إلا بشكل جزئي في جبل لبنان الشمالي، وفي أوساط طائفة السريان أو السوريين الأرثوذكس التي عاشت في الجزيرة الفراتية.
سريانية الموارنة اندثرت مع الليتنة، أي الإندماج بكنيسة روما، أما سريانية السريان فقد تعرضت لمحن كثيرة، كان أخطرها المذبحة التي طاولت قراهم في تركيا خلال المجزرة الأرمنية.
يمكن أن ننسب مسيحيي فلسطين كغيرهم من أبناء الشعب الفلسطيني إلى مزيج يمتد من الكنعانيين إلى العرب، ففلسطين سميت في التوراة أرض كنعان.
وبعد نشوء الدولة العبرية تأسس ما عرف باسم «الكنعانيين»، وهي حركة أدبية ثقافية كانت تدعو إلى الإنتماء إلى الأرض وليس الى الهوية الدينية اليهودية، واعتبرت الفلاحين الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين بقايا الشعب اليهودي الذي عاش في أرض كنعان.
لكن هذه الحركة، التي كان الكاتب بنيامين تموز أحد روادها، سرعان ما اندثرت في ظل هيمنة الأيديولوجيا الصهيونية العنصرية.
كل ما كتبته أعلاه لا لزوم له لو كان الندّاف يفقه شيئا من تاريخ بلاده وشعبه، ولم يتحوّل إلى مخبر صغير يقوم مستشرق غبي في المخابرات الإسرائيلية بحشو رأسه بمعلومات مغلوطة.
وأطرف ما قرأت هو قول الندّاف إننا يونانيون وآراميون ولسنا عرباً.
وهو يقصد باليونانيين طائفة الروم الأرثوذكس، وهنا يتبدى الجهل في أوضح صوره.
فتسمية الروم كانت الإسم الذي أطلقه على المسيحيين العرب الأرثوذكس اعداؤهم من اتباع الطبيعة الواحدة، متهمينهم بالتخلي عن الكنيسة السورية، التي كانت في ذلك الزمن هي الكنيسة القومية، كما هو الحال مع الكنيسة القبطية.
فالروم ليسوا يونانيين، وصفة الروم التي ألصقت بهم جرى تبنيها مع الزمن. أما الهيمنة اليونانية على كنيسة القدس الأرثوذكسية فهي من مخلفات الزمن العثماني، التي حالت ظروف الإحتلال دون تغييرها كما حصل في الكنيسة الانطاكية في سورية ولبنان.
مجموعة من الأفكار الخرافية، هذه هي فرضية وزير الداخلية الإسرائيلية المستقيل وتابعه الندّاف. والهدف هو فبركة هوية من لا شيء، هدفها سوق الشباب المسيحي إلى التجنيد في جيش الإحتلال.
لو كان هذا الندّاف يعرف ما يقول لذهب إلى قريتي اقرت وكفربرعم واشترك في النضال من أجل حق سكانهما في العودة. وللتذكير فقط فإن سكان هاتين القريتين هم من الطائفة المارونية التي لا تزال تستخدم السريانية في طقوسها الدينية.
هذا الندّاف هو عار على الكنيسة وعلى فلسطين. لو كان يعرف فقط كيف دخلت اللغة السريانية التي كان يتكلمها يسوع الناصري في نسيج العربية، وتفتحت كلماتها فيها… لو كان يعلم كم نحب هذه اللغة الى درجة أنها انصهرت في وجداننا ولغتنا… لو كان يعرف العدد الهائل من الكلمات السريانية التي دخلت في قاموسنا اليومي…
مشكلته ليست جهله، فالذي لا يعرف يستطيع أن يتعلم، مشكلته إسمها القبول بالدونية التي أوصلته إلى الخيانة.
أما حفلة التهريج التي إسمها القومية الآرامية فمصيرها إلى النسيان.
وسط جنون الموت المذهبي والهوياتي الذي يقود المشرق العربي إلى الهاوية، يعرف الفلسطينيون أن وحدتهم هي أثمن ما يملكون، فلا مشكلة هوية تواجههم، لأنهم يعرفون من هم، ولا يحتاجون إلى معلّم صهيوني يرشدهم إلى أنفسهم.
يترك الفلسطينيون أسئلة الهوية والعنصرية للإسرائيليين الذين يبحثون عن هوية دولتهم التي لن يجدوها.
أما فلسطين فهويتها الأرض والألم والحرية والمقاومة.