بعثٌ آرامي في فلسطين
29/10/2014
كأننا أمام فصل من كوميديا ناجحة، توجّه
نقداً لاذعاً للفلسفة السياسيّة الحديثة.
مهما اتخذنا الأمر على محمل الجد، لا
يسعنا التخلّص مما يحتويه من عبثٍ هزليّ.
ما القصّة إذاً؟
استيقظ وزير الداخليّة الإسرائيليّة صباحاً وقرر أن المسيحيين في
فلسطين ليسوا عرباً.
هكذا:
لستم عرباً.
طيب ماذا نحن؟ قال:
أنتم آراميّون.
حدث في أحد صباحات أيلول/سبتمبر
الأخير أن استيقظ أكثر من 130 ألف
إنسان فلسطيني مسيحي داخل الأراضي المحتلّة العام 1948،
ووجدوا أنفسهم قد فُطموا من العروبة لمصلحة القوميّة الآراميّة.
بعد أيّام قليلة من ذلك القرار استقال
الوزير. قصّة استقالته لا تزال
بؤرة نميمة في كواليس الصحافة الإسرائيليّة حيث تسود ادعاءات تورّطه
بقضايا ذات طابعٍ جنسيّ. لكن
الاستقالة لم تغيّر شيئاً من البرنامج، فالمشروع أكبر بكثير من مجرّد
قرار وزاري. «المؤتمر الأوّل
للقوميّة الآراميّة» سيُعقد في
مكانه وزمانه من دون زحزحة، وقد صار ذلك فعلاً يوم 21
تشرين الأوّل/أكتوبر
في مدينة اسمها «نتسيريتعيليت»،
أقامها الإسرائيليّون على أراضي مدينة الناصرة وقراها المحيطة.
هنا، يجدر التذكير أن الناصرة هي واحدة
من المدن الرئيسة في الرواية التاريخيّة المسيحيّة، ويُحكى أن فيها
بشّرت الملائكة مريم العذراء بولادة المسيح.
عُقد المؤتمر تحت حراسةٍ أمنيّة
إسرائيليّة مشددة، ومنعت الصحافة من دخوله.
إلى جانب الوزير المستقيل حضر كاهن
التجنيد، واسمه
جبرائيل ندّاف، وهو
كاهن من طائفة الروم الأرثوذكس أقالته الكنيسة من أي منصبٍ دينيّ لكنّه
لا زال، بحمايةٍ إسرائيليّة، يرتدي رداء الكاهن.
وإلى جانبهم حضر أيضاً رئيس بلديّة
«نتسيريتعيليت»،
وهو بموازاة سياساتها «السبّاقة»
في ماراثون العنصريّة الصهيونيّة، ضليع
أيضاً بقضايا الرشى والفساد. بهذه
الأجواء الاحتفاليّة، افتتحت «القوميّة
الآراميّة» مؤتمرها الأوّل في
«إسرائيل».
تحالف المتحجّرات
في المجلّد الأوّل من مؤلفه المؤسّس،
«دراسة التاريخ»،
الذي كُتب في الثلاثينيّات، يطرح المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي
نظريّته التأريخيّة التي تتناول الحضارات بصعودها وسقوطها، تناولاً
نفسياً سلوكياً يصل به إلى منح الحضارات صفة نهائيّة.
هذا من باب الاختصار.
في الفصل السابع من المجلّد يتحدّث
توينبي عن الاستثناءات في هذه النظريّة، خاصةً عن الشعوب التي أعيد
إحياءها بعد آلاف السنين، وهو يخص بالذكر اليهود والسريان، ويصفهم
(وإن كان وصفاً قاسياً)
بالمتحجّرات التاريخيّة.
إذاً يرى بهم حالة «ضحايا
تمييز دينيّ يمثّلون مجتمعات منقرضة، لم تواصل بقاءها إلا كمتحجّرات»،
إذ أنها لم تختف عن الوجود، لكنّها بالتأكيد ليست حضارات حيّة.
أما في أرض فلسطين فلم يكن للآراميّة إلا
الوجود اللغوي، وللدقة فقد كانت الآراميّة لهجة من لهجات اللغة
السريانيّة، إضافةً لطريقتها الخاصّة في كتابة الحرف.
ولم تكن هذه اللهجة محكيّة في أرض فلسطين
إلى العام 540 ق.م.
تقريباً، بعد عودة اليهود من «السبي
البابليّ» في بابل.
هناك اكتسبوا الآراميّة التي انتصرت على
أكاديّة الآشوريين، كما اكتسبوا هناك أيضاً ما سُمي لاحقاً بالتقويم
العبريّ وعادوا بهما إلى فلسطين.
وقد كانت الآراميّة اللغة التي تحدّث بها السيّد المسيح الذي وُلد
فقيراً بين فقراء، إذ أنها كانت هي لهجة العوام والطبقات المعدمة بين
القبائل اليهوديّة، بينما احتكر الأسياد من كهنة ورجال دين اللغة
العبرانيّة. في جدليّة السيّد
والعبد، لا زال السيّد يتحدّث العبريّة إلى يومنا هذا، أما المستعبَدين
فمنهم من قبل بالعبوديّة برحابة صدر، شرط أن تكون بالآراميّة القديمة
لا بعربيّة الحاضر.
«آرامي
ورأسي مرفوع»
لم نخترع قصّة القوميّة الآراميّة، بل
استوردناها من لبنان. ولعلّ أكثر
ما يُثبت تمسّك الفلسطينيين في إسرائيل بانتمائهم للأمة العربيّة هو
نسخ كل المصائب السياسيّة التي تصيب الوطن العربيّ إلى مجتمعنا.
ومثلما نُسخت الطائفيّة ونُسخ التكفير،
نُسخت أزمات اليسار ونُسخ بلاء النيوليبراليين، نُسخت «النزعات
الانفصاليّة» أيضاً. «القوميّة
الآرامية» هذه ليست غريبة عن
نزعات التسييس السريانيّة في لُبنان، وذروتها الحرب الأهليّة.
وجدنا موقعين للآراميين على الانترنت،
واحد منهم هو موقع «التنظيم
الآرامي الديمقراطي»، ولديهم
نشيد (بالعربيّة وليس الآرامية،
والله أعلم) تتحدث كلماته عن
انبعاث نسر سرياني، يقولون فيه:
«ولنا النهر ولنا البحر من آرام إلى
كنعان»، وأناشيد أخرى مثل
«آرامي وراسي مرفوع»
وتحريف لأغنيّة
«أنا مش كافر»،
يقولون فيه: «الي بيخطف كافر والي
بيقتل كافر، لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا علينا مجموعة من الكافرين؟»،
وتحريف آخر لأغنية
«شو هلأيّام»
يقولون فيه:
«بيقولو لك هلصليبيّة أخذوا أرضن
للعُربان...».
بروتوكولات من وكر التجنيد
في فلسطين المحتلّة، قاد «الحملة
الآراميّة» ما يُسمّى «منتدى
تجنيد المسيحيين». وهو تنظيم بدأ
في العام 2012 وبقي يمثّل نفراً
قليلاً من العملاء من أبناء الطائفة المسيحية، وقد وضعوا نصب أعينهم
هدف الانسلاخ عن المجتمع العربي الفلسطيني والاندماج بمجتمع المستعمرين
الصهيونيّ عن طريق الانخراط في الجيش الإسرائيليّ.
أسس المنتدى رائد في جيش الاحتلال، بدعم
من كاهن التجنيد ندّاف، ويمثّلها اليوم بالأساس نقيب سابق في سلاح
المظليين الإسرائيليّ. وفّرت
الحكومة الإسرائيليّة لهذا «المنتدى»
كل الموارد «على
بياض». مكاتب وموظّفين ومِنَح
ومبالغ ماليّة طائلة من أجل تجنيد أكبر عدد ممكن من المسيحيين في الجيش
الإسرائيلي. وكانت 2014
سنة «الإنجازات»
بالنسبة للمنتدى في عمله تجاه الحكومة
الإسرائيليّة. في يوم 16
كانون الأوّل/ديسمبر
من العام 2013 عُقدت في الكنيست
الإسرائيلي جلسة خاصّة للجنة برلمانيّة أطلق عليها «لجنة
تجنيد الأقليّات»، ترأسها عضو
البرلمان آيليت شاكيد التي نادت علناً إبان الحرب الأخيرة على غزّة
بقتل «النساء والشيوخ أيضاً».
لم تحظ هذه الجلسة بالتغطية الإعلاميّة
الفلسطينيّة الكافية، رغم أن البروتوكول قد نُشر عبر الموقع الرسميّ
للبرلمان. عُرضت في الجلسة معطيات
دقيقة حول تجنيد العرب في الجيش الإسرائيلي، وحول نيات الجيش والحكومة.
ويتوضّح من المحضر، بشكلٍ يثير الضحك
والشماتة والبكاء في آن، صراع الديوك بين العملاء على أنواعهم من أجل
مكاسبهم الشخصيّة وسباقهم في تذليل النفس أمام الصهاينة.
تمحور خطاب ممثل منتدى تجنيد المسيحيين
في محضر الجلسة حول مطلبين أساسيين، كلاهما تحققا في العام
2014. الأوّل أن يُرسل للشباب المسيحي في
سن التجنيد أوامر للمثول في العسكر، تكون اختياريّة وغير مُلزمة، فمن
يرفضها (أي الأغلبيّة الساحقة من
الشباب) لا يتعرّض لعقوبة، لكنّها
خطوة مرحليّة لتجهيز الشباب من أجل فرض الأوامر الإلزاميّة لاحقاً.
أما المطلب الآخر فكان الاعتراف «بالقوميّة
الآراميّة». لماذا؟ يفسّر مندوب
منتدى المتصهينين: من أجل
«تخلّص الشباب المسيحي من فكرة كونه
عربيّاً، لأنها الفكرة التي تحول دون دخوله إلى الجيش الإسرائيلي».
لكنْ هناك أسباب أكثر عمليّة فسّر بها
المندوب (بالمناسبة، بالعاميّة
الفلسطينيّة مندوب وجمعها مناديب تعني الجواسيس)
ضرورة إعطاء مكانةٍ قانونيّة لقوميّة
المسيحيين الآراميّة، من أجل فرز الشباب المسيحي عن باقي «الأقليّات»
في الجيش الإسرائيلي.
حيث يسكن هؤلاء استعلاء مقيت على غيرهم
من الدروز والبدو عامةً، وعلى الخادمين منهم بالجيش خاصةً.
إذ يرفض المسيحيّون دمجهم في الوحدات
الخاصّة بالدروز أو بالبدو. وقد
فسّر المندوب في الجلسة بديبلوماسيّة أن «عقليّتنا
تختلف كلياً عن عقليّة هؤلاء».
شهادة فطامٍ من العروبة
يتلازم الاعتراف الإسرائيلي بقوميّة
جديدة مع مشروع خبيث لتجنيد أبناء هذه المجموعة في الجيش الإسرائيلي،
لينخرطوا في قتال إخوانهم في غزّة أو لبنان.
كأن
التجنيد، وهو لا ينمّ عن أي حاجةٍ ماديّة أو عسكريّة في جيش يعتمد على
القدرة التكنولوجيّة لا على الموارد البشريّة، هو «شهادة
فطام» تقدّمها إسرائيل لمن
«يتخلّص»
من هويّته العربيّة.
بين الدروز، مثلاً، تلازمت سياسات
التفرقة مع فرض الخدمة العسكريّة الإجباريّة على الشباب الدروز منذ
العام 1954. فبني معروف، وعددهم
110 آلاف في فلسطين اليوم، شيء
والعرب شيء آخر، لهم مناهج تعليم مختلفة ومكانة سياسيّة مختلفة.
كذلك سعت الحكومات الإسرائيليّة لسلخ
الفلسطينيين البدو، وعددهم نحو 200
ألف إنسان في النقب و100
ألف في قرى شمال فلسطين، عن سائر الشعب
الفلسطيني عبر ما نسمّيه بعمليّة «البدونة»
التي تقوم باستغلال الحالة الاقتصاديّة
العصيبة التي عاشوها بعد مصادرة أرضهم ومنعهم من رعاية الماشية، كما
استغلال التمييز ضد البدو داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، من أجل سلخهم
وتجنيدهم للجيش الإسرائيلي. عبر
مواقع التواصل الاجتماعي، استفزّ أحد النشطاء السياسيين عنصريّة هؤلاء
العملاء واستعلاءهم الشهير على الدروز والبدو، وكتب ساخراً:
«ما
شعور إخواننا الآراميين في أنهم يحققون اليوم «الإنجاز»
الذي حققه البدو قبل ستين عاماً؟».
بالمحصّلة، معطيات الجيش الإسرائيلي تدل
ـ وهي معطيات تُبالغ على الأرجح ـ أنه من العام 2008
وحتّى العام 2012
جُنّد 50
شاباً مسيحياً في كل عام، من أصل نحو
1,000 شاب في سنّ التجنيد سنوياً.
في العام 2013
حققوا إنجازاً بعد صرف مبالغ خياليّة
وفتح مكاتب لتجنيد الشباب المسيحي للجيش، وحملات إعلاميّة، وموظّفين
وتحريك الموارد الحكوميّة الإسرائيليّة كافة لمصلحتهم.
وبهذا رفعوا العدد من 50
إلى.. 53
مجنّداً.
بين قوميّة السيّد وقوميّة العبد
بين الفلسطينيين داخل الأرض المحتلّة
العام 1948، يُنظر للتجنيد للجيش
الإسرائيلي كإحدى أخطر القضايا وأكثرها مصيريّة، وهي واحدة من القضايا
القليلة جداً التي تحوز إجماعاً صارماً بين القوى السياسيّة
الفلسطينيّة في الداخل. ليست
المصيبة في أن تحمل السلاح ضد إخوتك فقط.
بل أساس المصيبة في أن يهرب المستضعَفون
إلى التماهي مع القمع والفاشيّة بدلاً من السعي للتحرر منها.
فالهويّة القوميّة تحت الاستعمار ليست
إلا استعارة لوحدة التوّاقين للتحرر، وتضْحي ثانويّة لحظة التخلص من
الاستعمار، بينما قوميّة القامع فهي شوفينيّة بالضرورة، وتسعى لبقاء
خالد.
وليست
رغبة الإنسان في تعريف نفسه بشكلٍ مخالف هي الأزمة، ولا في رغبة البعض
أن يعلموا أولادهم الأكاديّة أو حتّى الحميريّة، لكنّ الأزمة في ما
تمثّله الهويّات الجديدة من رغبة للضحايا في أن يصطفّوا خلف قاتلهم.
وهم بالمناسبة يردفون انتماءهم «الآرامي»
بانتمائهم «الإسرائيلي».
ولولا أن اليهوديّة ترفضهم، بحيث أن
الانتماء إليها لا يكون إلا برابط الدمّ، لتنازلوا عن الآراميّة أيضاً.
يتخذ الصهاينة، عرباً عملاء كانوا أم
يهود، الأحداث المأساوية ضد المسيحيين في الوطن العربي (متجاهلين
أن الأمة كلها بجميع طوائفها تعاني)،
حجة قويّة ليتبجّحوا «باحترام
إسرائيل للأقليّات الدينيّة فيها».
نبكي
تهجير المسيحيين من الموصل، والإشارة العنصريّة على أبواب بيوتهم
بالطلاء الأحمر، إنما كيف يبكي ذلك من يجلس في حضن من هَجّروا وهدموا
أكثر من 500 قرية ومدينة
فلسطينيّة، من دون أن يتركوا فيها لا باب ولا حجر.
* كاتب
من حيف |