اللغة
الآرامية ولهجتها السريانية
الدكتور أمير حراق
استاذ الآرامية والسريانية – جامعة تورنتو
رئيس الجمعية الكندية للدراسات السريانية
في رسم جداري يزيّن قصرا آشوريا في شمال سوريا يظهر كاتبان أحدهما يمسك
بيده مادة صلبة وقصبة والآخر صفيحة مائلة كأنها ورقة أو بالأحرى جلد
حيوان وشبه قلم. الرجل الأول يكتب بالمسمارية على الطين والثاني يكتب
بالآرامية على الجلد. هذا الرسم يعود الى القرن الثامن قبل الميلاد عندما
أصبحت الآرامية لغة العراق القديم الثالثة بعد السومرية والاكدية. نجد
أول ذكر للآراميين في كتابة مسمارية للملك الآشوري تكلاثبلصر الأول الذي
واجه هؤلاء البدو الرحل في عقر الأرض الآشورية ويبيّن في الكتابات
الملكية كيف حاربهم في تدمر وعانات (عانة في العراق) ورافيقو في بابل
وكيف واجههم في جبل بُشري:
لقد عبرت الفرات ثمان وعشرين مرة مرتين في السنة متعقبا الاراميين
الأحلامو. لقد دحرتهم من مدينة تدمَر في ارض امورّو وعانات في بلاد سوخو
والى مدينة رافقو في كردونياش، ثم عدت الي مدينتي آشور حاملا غنائمهم
واملاكهم.
تعكس الأسماء الجغرافية في هذا النص موطن الآراميين في قلب الصحراء
السورية. بعد قرن من تلك الحرب الآشورية، نرى الآراميين وقد استقروا في
شمال سوريا والجزيرة حصرا، وخضعوا للآشوريين الذين اعترفوا بكيانهم
الديموغرافي والسياسي معا. تعكس أول كتابة آرامية هذا التقارب الوثيق بين
الآشوريين والآراميين، لأن هذه الكتابة ما هي الا ترجمة لنص ملكي آشوري
مكتوبة بحروف أبجدية بخط مستعار من الفينيقية. التمثال الذي يحمل هاتين
الكتابتين يعود الى حاكم آرامي عيّنه الآشوريون على مدينة كوزن في
الجزيرة. في النص الآشوري هو حاكم “شكنو" وفي النص الآرامي هو "ملكا" ولا
يعني هذا العنوان تحايلا على الآشوريين لأن الملك الحقيقي يدعى بالآشورية
شرّو رابو "الملك الكبير" بمعنى الأمبراطور. إن شكل التمثال والكتابة
الآرامية والخط الفينيقي لا يعكسان إلا على قدرة الآراميين على تبني
حضارات جيرانهم بكاملها والتأقلم على الواقع السياسي حولهم وهنا تكمن
عظمتهم. فبتبنيهم خط الفينيقيين وحروفهم الابجدية، استطاعوا أن يفرضوا
لغتهم على بلاد بين النهرين وعلى العالم القديم بأجمعه ويزيحوا الكتابة
المسمارية الصعبة لتحل محلها الأبجدية ثم يصبح الخط الآرامي المتأتي من
الفينيقي الخط العالمي عن طريق الأغريق والرومان ولا زال معظم العالم
يكتب به لحد الآن.
اللهجات الآرامية
للآراميين لهجات عديدة يمكن تقسيمها الى ثلاثة أنواع :
اللهجة القديمة ( 1000 ـ 500 ق.م )
اللهجة الدولية ( 500 ـ 100 ق.م )
اللهجة المتأخرة ( 100 ـ 700 م )
تتميّز هذه اللهجات بمدى تأثير اللغات الأخرى عليها وعلى تطوّر قواعدها
وطرق الكتابة بها، ولو أن كل نوع منها بامكانه أن يتكوّن من لهجات محلية
قد لا يميّزها كثيرا عن اللهجات المعاصرة لها.
الآرامية القديمة
كل الكتابات المكتوبة بهذه اللهجة مسطّرة على الحجر أو الطين أو المعدن
وكلها ملكية ورسمية. ذكرنا أول كتابة للملك هدد يسعي الآرامي الذي اقامه
اسياده الآشوريون حاكما على مدينة كوزانا قرب رأس العين في الجزيرة. تبدأ
الكتابة بما يلي :
د م و ت ا زي ه د ي س ع ي ز ي ش ا م ق د ا م ه د د س ك
ن ك و ك ل ش م ي ن و أ ر ق م ن ح ت ع س ر و ن ا ت ن ر
ع ي و م ش ق ي ل م ا ت ك ل ن ...
"تمثال هد-يسعي الذي أقامه قدام ( الاله ) هدد ـ سكن مفتش السماوات
والأرض ومُنزل الثروات ومُعطي الرعي والسقي لكل البلدان"
تشمل الكتابات الأخرى أسماء ملكية ونصوص قصيرة لملوك آراميين وكتابات
نذور وقبور. أطول نص هو الميثاق أو العهد بين بركئيا وملك آشور. تُظهر
كلُّ هذه النصوص التأثير الكبير الذي فرضه الأدب الآشوري على الارامية
فالعديد من العبارات الرسمية هي آشورية والأهم من ذلك، تبنّى الآرامي كل
الأساليب الكتابية الآشورية ولو أن هناك بعض الكلمات الآرامية التي دخلت
الآشورية وأصبحت ضمنا منها وأخص بالذكر كلمة ايكرتا وهي "رسالة" رسمية
كالتي سمّاها الآشوريونigartu ša šulmi أي رسالة دبلوماسية لإرساء
السلام بين دولتين. أما الكلمات الآشورية التي استعارتها الآرامية معظمها
مصطلحات آشورية تخص البناء والعمارة والعديد من العناوين الادارية والتي
تبناها أيضا الاخمينيون الايرانيون بعد أن أصبحت الآرامية لغة دولية.
لا يجد العارف بلهجات آرامية اخرى صعوبة فهم الآرامية القديمة، وهنا اعطي
هذا النص التأبيني المنقوش على تاريخ كاهن آرامي:
س ن زر بن ك م ر س ه ر ب ن ر ب م ت و ز ن ة ص ل م ا وأرص ت
ا
"سين زير ابني كاهن ( الاله ) القمر في نيرب ( منطقة حلب ) قد مات وهذا
تمثاله وقبره"
الآرامية الدولية
في خريف سنة 539 ق م اجتاحت جيوش قورش الفارسي أرض بابل ليتسلم الحكم
هناك في "ثورة بيضاء" منهيا السلالة الكلدانية التي حكمت بابل منذ سنة
626 بدءا بالملك نابوبلصر. عندما توسعت الدولة الفارسية تحت قيادة داريوس
الملك، اتخذ هذاالملك الآراميةَ لغة بين النهرين لتصبح لغة الدبلوماسية
والادارة مما جعل الآرامية لغة دولية. تعطي المصادر المكتوبة بهذه اللهجة
ومكانات اكتشافها فكرةً عن انتشار الآرامية جغرافيا وشعوبيا. فهناك صفحات
عديدة في سفري عزرا (انظر الصورة) ودانيال مكتوبة بالآرامية الدولية بين
اسفار العهد القديم المكتوبة عموما بالعبرية. وهناك أرشيف كبير ومتنوّع
مكتوب بالآرامية وجد في جنوب مصر خاصة في جزيرة الفيلة وتعود الى عهد
الاخمينيين. انتج هذا الأرشيف الآرامي وحدة عسكرية يهودية خدمت الفراعنة
منذ القرن السابع على الأقل واستقرّت هناك. وتحتوي نصوص الأرشيف على
رسائل رسمية متبادلة بين الحاكم الفارسي في مصر والملوك الفرس في عيلام،
و على نصوص قانونية وادارية وشهادات زواج وطلاق وكتابات ادبية أشهرها قصة
الوزير الآشوري ـ الآرامي أحيقار وحكمته. في مجموعة أحيقار الأدبية هناك
حوارات لطيفة تدور بين الحيوانات أو النباتات أو مواد جامدة تتبارى كل
منها بمزاياها ضد الأخرى ينتهي كل حوار بدرس أدبي كما في القصة التالية.
ن م را ف ك ع ل ع ن زا وهـ ي ع ر ي ه ع ن ه ن م را وأ م ر
ل ع ن زا أتي وا ك س ن ك ي م ش ك ي ع ن ت ع ن زا وأم رت ل
ن م را ل م ه ل ي ك س ي ك ي ك ل دي أ ل ت ل ق ح ن م ن
ي ـ ك ي لا ي ش أ ل ن م ر ا ش ل م ط ب ي ا ل هـ ن ل م
و ن ق د م ه
التقى نمر بعنزه وهي عارية (أو: باردة) أجاب النمر وقال للعنزا : تعالي
حتى أغطيك بجلدي، أجابت العنزة وقالت للنمر : مالي وغطاك ؟ جلدي سوف لن
تلقى مني. ( الدرس الأدبي ) لأن النمر لا يسأل عن راحة الضبي إلا لكي
يشرب دمه!
هذا الاسلوب الادبي معروف منذ عهد السومريين وقد ابتكروه، ومروراً
بالأكديين والآراميين ثم العرب الذي سمّوه “المناضرة “
من بدء تاريخ الآرامية الدولية الى نهاية استخدامها دوليا تحت وطأة اللغة
اليونانية، حافظت تلك على قواعدها وأسلوبها. فمثلا تشبه فصول سفر دانيال
الآرامية (منتصف القرن الثاني ق.م.) قواعديا اسلوب كل الكتابات التي صدرت
قبلها ومن ضمنها نصوص سفر عزرا (القرن الربع ق.م.) وهذا ما يجعلها لهجة
مستقلّة وخاصة.
الآرامية المتأخرة
تنقسم الآرامية المتأخرة الى لهجات عديدة منها الشرقية ومنها الغربية.
تشمل اللهجة الغربية الآرامية النبطية وهي لغة مملكة البتراء (حوالي 200
ق.م ـ 106م) في الأردن، زادت أهميتها التجارة إذ كانت هذه المملكة مركزا
تجاريا يربط الشرق بالجنوب. كما وتشمل أيضا آرامية ارض فلسطين وسنتكلم
عنها لأنها اللغة التي تكلّم بها يسوع المسيح.
أما اللهجات الشرقية فمعظمها لهجات المراكز التجارية كمملكة تدمر في
الصحراء السورية التي أعطت كتابات آرامية منذ القرن الأول قبل الميلاد
حتى نهاية القرن الثالث الميلادي وفيها يبرز تأثير العربية كما هو الحال
للغة مملكة البتراء. أضف الى ذلك مملكتي الرها (والموزائيك هنا هو من
هناك) والحضر. فمن لهجة الرها نبعت اللهجة السريانية التي أصبحت لغة
المسيحية المشرقية، وتشابه هذه اللهجة لهجة مملكة الحضر التي بها دُبجت
أعداد مهمة من الكتابات الحجرية. يظهر تأثير الآرامية الدولية على جميع
هذه اللهجات المتأخرة ففي كتابات مملكة الرها لا زالت صيغة المضارع للشخص
الثالث المفرد والجمع تكتب بالياء (يكتوب، يكتبون) قبل أن تنقلب هذه
الصيغة نفسها الى ( نكتوب، نكتبون ) كما في السريانية. إن كانت كل هذه
اللهجات متأخرة فماذا نسمي السريانية والمندائية وآرامية التلمود
البابلي؟ بما أن تاريخ الآرامية طويل وقديم، يمكننا اطلاق تسمية هذه
اللهجات بالحديثة وهذه الكلمة لا تعني هنا طبعا (المعاصرة). سنتطرّق
بعدئذ الى موضوع السريانية لأنها أهم لهجة آرامية ظهرت خلال الألفي سنة
الماضية.
الآرامية المتأخرة لغة فلسطين في زمن السيد المسيح
إن تكلّم يسوع المسيح الآرامية بدل العبرية فهذا يدّل على أن فلسطين
تبنّت الآرامية الدولية قرونا قبل ميلاده فيها. إلا أن هذه اللغة تفرّعت
الى لهجات فلسطينية عديدة نذكر منها لهجة اليهودية ومن ضمنها اورشليم،
ولهجة السامرة غربي نهر الأردن. أهم هذه اللهجات الارامية هي لهجة
اليهودية التي اليها أولا نقل العهد القديم العبري قبل أن تنقّح هذه
التراجم بعد انتشارها حسب لهجة كل منطقة. والكتابة في هذه اللهجة هي
"سمعية" أي تكتب الكلمة كما تنطق وليس حسب صيغتها اللغوية. أما لهجة
الجليل فقد تأثرت بلهجة اليهودية ذلك لأنها تبنّت التراجم اليهودية التي
تكلمنا عنها ونقحتها حسب لهجتها المحلية وكان ذلك في القرن الثاني
الميلادي. وتختلف لهجة السامرة عن باقي اللهجات الفلسطينية الأخرى في قلب
الحروف الحلقية (الحاء والعين والهاء ) الى همزة.
أما لهجة شرقي الأردن وهي قديمة جدا فتسمى اللهجة الفلسطينية القديمة
وتطوّرت لتصبح اللهجة الفلسطينية المسيحية. إن النصوص السريانية القديمة
للأناجيل تحتوي على بعض التأثيرات الآرامية الغربية ربما من خلال هذه
اللهجة الفلسطينية القديمة.
الآرامية لغة يسوع المسيح ورسله
ولد المسيح وترعرع في الجليل لذا فلهجته جليلية دون شك. بالحقيقة لا نعرف
الكثير عن هذه اللهجة لأنها تركت قليلا من آثارها في بعض الأسماء
الجغرافية والقليل من الرسائل وفي الترجوم الجليلي... ربما تكلّم المسيح
العبرية ولو أن العهد الجديد لا يثبت ذلك ولكنه تكلم الآرامية قطعا
وتحتوي الأناجيل والعهد الجديد على عبارات عديدة بالآرامية تظهر في سياق
النصوص اليونانية لغة هذا العهد ومرارا مع ترجمتها الى هذه اللغة.اليكم
بعضا من هذه العبارات الآرامية:
مرقس 5 : 41 قصة شفاء ابنة أحد رؤساء المجمع :
"طليثا قومي". ترد نفس الجملة في بعض المخطوطات "طليثا قوم" أي اسقطت ياء
فعل الأمر المؤنث كما يحدث مرارا في السريانية وفي اللغة المحكية. لذا
فالصيغة الثانية تعكس الكلام والصيغة الاولى تعكس الكتابة التقليدية.
مرقس 7 : 34 قصة شفاء الأصم :
"افتح" أي ( إنفتح ) وفي اليونانية هي "إفّثا". جذر هذا الفعل "فَتَحَ"
وصيغة "اثفتّح" الآرامية.
متى 27 : 46 حادث الصلب:
"إيلي إيلي لما شبقتني" وفي مرقس 15 : 34 "ايلوي ايلوي لما شبقتني". ردد
يسوع أول آية من مزمور 22 ليس من النص العبري حيث الفعل فيه هو"عَزَبْ"
ولكن من الترجوم الآرامي حيث الفعل هو "شْبَقْ". يظهر تأثير العبرية في
نص متى فعبارة "إيلي إيلي" في بداية قول يسوع يعكس صيغة المزمور العبري
وربما تعكس صيغة مرقس الكلام الشفهي.
يوحنا 1 : 42 الحديث مع الرسول بطرس
"أنت سمعان بن يونا، وستدعى كيفا" ويترجم الانجيل اليوناني هذه الكلمة
"بتروس" والكلمتان تعنيان : الصخر .
أعمال 9 : 40 قصة احياء التلميذة في يافا
"طابيثا قومي" (تشبه هذه الأعجوبة أعجوبة احياء طليثا في مرقس [15: 41]
).
يظهر اسم التلميذة طابيثا الآرامي مع ترجمته اليونانية "غزالة" في أعمال
9: 36 "وكان في يافا تلميذة اسمها طابيثا أي ظبية". رأينا كلمة "طبيا" في
قصة العنزة والنمر في مجموعة أحيقار الأدبية و تشير الكلمة في كل هذه
المواضع الى الغزال. "قومي" هو فعل الأمر للشخص الثاني المؤنث في
الآرامية ألفصحى كما في العربية.
أعمال 1 : 19 مصير يهوذا الأسخريوطي وامتلاكه حقلا بثمن تسليم يسوع :
"وعرف سكان اورشليم جميعا حتى دعي هذا الحقل في لغتهم "حقل دمخ" أي حقل
الدم". تظهر الكلمة الثانية في اليونانية أكيلدما، أكيلديما، أكيلدمخ،
أكيلدمك “والجملة الآرامية القريبة جدا من العربية لا شك فيها.
1 قورنثس 16 : 22
"ماراناتا" : هذه أمنية الرسول بولس يختم بها رسالته وردت بهذه الصيغة في
رسالته المكتوبة باليونانية وبدون ترجمة ربما لأنها كانت عبارة متداولة
ومفهومة. قد نجد ترجمة هذه العبارة الجميلة في سفر الرؤيا 22 : 20 "تعال
أيها الرب يسوع". تُقرأ عبارة مارانا + ثا وليس ماران + أتا. الصيغة
الاولى هي للتمني والفعل فيها هو الأمر وهذا ماهو مطلوب، أما الصيغة
الثانية فتعني “أتى ربنا “وهذا ما لا يعنيه قول الرسول. تعكس الفتحة
الأخيرة في مارانا الصيغة الكتابية أي الفصحى (في السريانية أسقطت هذه
الفتحة وسكّنت نهاية الكلمة فأصبحت "مارَنْ").
الأسماء التي أطلقت على الآرامية
توسعت اللغة الآرامية دوليا بعد أن كانت محصورة في بلاد الرافدين ولذا
اطلق عليها تسميات عديدة من قبل الشعوب الأجنبية، وهذه التسميات منها من
ثبّت وتبنته حتى الشعوب الناطقة بالآرامية ومنها من اندثر وأضمحل. أهم
الأسماء التي اعطيت للآرامية هي: الآشورية والكلدانية والسريانية.
الاشورية
تستخدم النصوص الأغريقية (هيرودتس، زينفون، ثيميستوكليس) عبارة "أسيريا
كرمتّا" Assyria grammata أي الكتابة الآشورية، وذلك عندما يشيرون الى
الكتابة (وبدون شك اللغة) الآرامية. أعطى الأغريق هذه التسمية الأغريقية
بعد زوال الدولة الآشورية بكثير ولكنهم قلما نسوا بأن هذه الدولة العظمى
قد تكلمت الآرامية واستخدمت كتابتها الأبجدية.
يعتقد الباحثون بأن الأغريق هم أول من أطلق التسمية الآشورية على
الآرامية ولكن البحوث الحديثة أكّدت بأن هذه التسمية ظهرت أولا في مصر في
القرن السادس ق.م. وذلك في النصوص المصرية الديموطيقية (الشعبية)
المتأخرة. فاحدى التواريخ المكتوبة بهذه اللغة إستخدمت عبارة’Iš(w)r sh
"كتابة آشور" عندما تكلمت عن خط ولغة إحدى المجلدات التي احتوت على
الشريعة المصرية التي أمر داريوس الأول بتدبيجها. بالحقيقة تُشير كلمة
(إشر) الديموطيقية الى آشور وسوريا معا، ذلك لأن المصريين القدامى في
القرن السادس لم ينسوا بعدُ الدولة الاشورية التى تلاشت قرنا قبل ذلك.
أما التلمود اليهودي فيطلق على الكتابة المربعة العبرية (وهي آرامية)
والتي حلّت محل الكتابة العبرية القديمة عبارة "كْتَبْ أشوري". لقد
استعار التلمود هذه التسمية من اليونانية في زمن متأخر.
الكلدانـية
سميت الدولة البابلية المتأخرة بالكلدانية نسبة الى قبيلة كلدو البابلية
التي حكمت تلك الدولة حتى زوالها على ايدي الفرس الاخمينيين. ليس غريبا
أن تسمّى دولة باسم قبيلة نافذة، فمثلا "ألمانيا" هو اسم احدى القبائل
الجرمانية "ألمند" حلّ محل الأسم الجغرافي ـ الإثني جرمانيا. تكلّمت
الدولة البابلية ـ الكلدانية اللغة الآرامية ولو أنها استمرّت باستخدام
اللغة البابلية ـ الأكدية في مجال الدين والعلم والتجارة المحلية. لذا
ُدُعيت الآرامية "كلدانية"، وفعلا يستخدم سفر دانيال الفصل الأول آية 4
عبارة "لْشونْ كَسْديم" أي لغة الكلدانيين (و "كسديم" هو "كلديم" حيث
قُلب اللام الى سين كما يحدث في العبرية). جدير بالذكر ان بعض النصوص
الرابينية اليهودية تسمى سلوقية على دجلة "آشور" ولذلك هناك احتمال أن
العبارة اليهودية "كْتَبْ آشور" قد تعني "كتابة بابل" لأن سلوقية هي في
بابل.
السريانية
تشتق هذه الكلمة من أسم سوريا الأرض التي تكلّمت الآرامية منذ العصر
الآشوري والتي من صحرائها قرب نهر الفرات المتوسط أتى الآراميون الرحل.
قلنا أن الأغريق سمّوا الخط الآرامي "أسيريا كرمتّا" أي الخط الآشوري وقد
استعاروا هذه التسمية من اللغة المصرية المتأخرة. لكن كثيرا ما كتبت بعض
النصوص الأغريقية هذه التسمية "سيريا كرمتّا"syria grammata، اي اسقطت
الحرف الأول من أسيريا، ممّا يعني أن صيغتي "أسّيريا" و "سيريا"
متجانستان ومتبادلتان. وفعلا يعتقد العديد من العلماء ومنذ زمن طويل بأن
"سيريا" (سوريا) هي مختصر "أسّيريا" (آشور) واعتقادهم هذا منطقي وهناك
حالات متشابهة حيث تسقط الألف في بداية الكلمات خاصة في الأسماء. الخلط
بين كلمتي آشور وسوريا منطقي أيضا لأن الآشوريين ومنذ العصر الوسيط (1000
ـ 1400 ق. م) اعتبروا شمال سوريا جزءا لا يتجزأ من أرض آشور واستمرّ هذا
الانطباع عندهم منذ الألف الأول حتى زوال دولتهم. لذا فتسمية الآرامية
بالسريا (نية) متأتية ليس من المصري المتأخر بل من المصادر الأغريقية حيث
تراوحت تسميتا أسّيريا وسيريا كما ذكرنا.
تشتق كلمة "سرياني" من سوريايا / سوريويو حيث الياء الاخيرة هي النسبة.
يعني هذا أن أصل الكلمة هو في الأسم الجغرافي "سوريا”أي سيريا بالأغريقي.
تقلصت كلمة سوريايا / سوريويو الى سورايا وتوسع معنى هذه الصيغة الجديدة
لتشير الى جميع الناطقين بالارامية. وبما ان هؤلاء مسيحيون شبه الإطلاق
فتوعز هذه الصيغة ايضا الى جميع المسيحيين في العالم أجمع!
السريانية أهم اللهجات الآرامية
ليس من باب المبالغة أن نقول بأن السريانية هي أعظم اللهجات الآرامية
كافة للأسباب التالية :
1 ـ عاشت اللغة الآرامية القديمة والدولية والمتأخرة ألف سنة ولولا
السريانية لماتت هذه اللهجات عند هذا الحد. فالسريانية أضافت الفي سنة
على عمر هذه اللغة العريقة مما يجعلها أطول عمرا من أي لغة في العالم.
لمعت اللهجة السريانية منذ القرن الأول للميلاد وحتى القرن السابع عندما
زاحمتها اللغة العربية. أعطت أشعار مار أفرام وكتابات أفراهاط وقصائد مار
نرساي ومار يعقوب السروجي وغيرهم من الكتّاب والمؤلفين والشعراء اللامعين
دفعا ورونقا للغة الآرامية لا يمكن مقارنتها مع كل الكتابات التي أُنتجت
بهذه اللغة منذ ظهورها وحتى زمن المسيح على الأرض. واستمر الاستخدام
بالسريانية بعد الفتح العربي ولو بدأت تتنافس هذه اللغة مع العربية فظهرت
التواريخ السريانية التي تربو صفحاتها الألوف المؤلفة، واليها ترجم
التراث الأغريقي العريق بحيث ضاع صيت السريانية في أرجاء العالم، حتى دعا
نبي الاسلام أتباعه لتعلمها كما مكتوب في الحديث النبوي:
عن ثابت بن عبيد قال زيد قال رسول الله أتحسن السريانية قلت لا قال
فتعلمها فتعلمتها في سبعة عشر يوما (سير اعلام النبلاء ج2 ص 429)
تجدر الاشارة هنا بأن الخط العربي واللغة العربية ظهرا قبل الفتح العربي
بقرن ونيف في محيط سريانى ـ يوناني ـ عربي مسيحي كما تشير بوضوح كتابة
حجرية ثلاثية اللغات (الصورة ادناه) كانت تعلو باب كنيسة القديس سرجيوس
المكرم لدى السريان والعرب. عُثرت الحجرة المنقوشة بتلك اللغات في خربة
زبد بسوريا وتحمل تاريخ سنة 512 ميلادية. تظهر الكتابة العربية في آخر
سطر افقي، اما الكتابة السريانية فهي منقوشة عاموديا على يسارها.
استمرّ وهج السريانية-الآرامية يلمع الى نهاية القرن الرابع عشر عصر ابن
العبري وأخيه الصافي ثم أعلن العلماء الاروبيون بأن السريانية ماتت تحت
وطأة المغول الهمج واحتضرت المسيحية السريانية. خطأ من تبنى هذا الاعتقاد
فهناك الوف المخطوطات التي استنسخت وتقريبا كل منها تحتوي على "كولوفون"
(حاشية في نهاية المخطوطة) من تأليف الناسخ يتكلم عن تاريخ الاستنساخ
وبزمن أي من البطاركة وكثيرا ما يضيف معلومات تاريخية معاصرة. كل من يمعن
النظر في هذه "الكولوفونات" عبر العصور وحتى نهاية القرن التاسع عشر يعجب
بسلاسة اللغة السريانية وجمالها وقوة التعبير بها مما يدل بأن النساخ
حافظوا على نقاوة هذه اللغة رغم كل الضروف الصعبة. أضف الى ذلك الكتابات
السريانية على الحجر في الكنائس والأديرة ومعضمها انتجت بعد سنة 1850
نتيجة للدمار الذي حلّ في شمال بين النهرين خاصة في الموصل والقرى
المسيحية المجاورة على يد نادرشاه طهماسب الفارسي. في دير الربان هرمزد
وفي الموصل وبخديدا وألقوش، تزيّن هذه الكتابات حيطان المذابح والأديرة
مكتوبة بلغة بليغة ومنحوتة بمهارة فائقة، فالكتابات كلها بارزة وليس
محفورة. أضرحة بطاركة كنيسة المشرق هي من أروع ما نحته النقّار المسيحي.
وبلاغة الكتابة الحجرية على مذبح كنيسة القديسين سرجيس وباكوس في بخديدا
(وهي حديث جميل بين أهل بخديدا ومطرانهم المحبوب كارس) يعكس جانبا قديما
جدا من آداب بين النهرين يسمى بالسريانية سوغيثا وبالعربية مناظرة. أنتج
هذا السلوب الأدبي السومريون وتبناه الأكديون والبابليون والآشوريون ثم
الآراميون وقد اقتفينا آثاره في كتابات مصر الآرامية في مجموعة الوزير
الآشوري أحيقار. ثم استغله السريان أي استغلال خاصة لدى مار افرام فهناك
سوغيثات عديدة، أي مناظرات تدور بين الملاك والشيطان والكنيسة والمعبد
اليهودي، والبتولية والقداسة الخ...
2 ـ تطوّرت السريانية لتجعل من الآرامية لغة أدب وفلسفة وعلم وهذا ما لم
يقم به شعب آخر غير الناطق بالسريانية. كان ذلك من خلال مدارسهم التي
اشتهرت ببحوثها اللغوية والكتابية والتاريخية مثل مدرسة الرها التي هدمها
الامبراطور البيزنطي "زينو" في 488 م لميولها النسطورية ومدرسة نصيبين
التي حلّت محلها والتي وصلنا منها قوانينها وتنظيمها، ومدرسة أنطاكيا
الشهيرة ذات الميول اللغوية والتاريخية والجغرافية. بالطبع لم يكن هناك
مدارس سريانية لا غيرها فلليهود مدارس عريقة في بومبانيتا وسورا وغيرها
في بلاد بابل ولكن الفرق بين النظامين السرياني واليهودي هو أن الأول
وسّع استخدام الآرامية ليشمل جميع العلوم آنذاك ومن ضمنها الفلك والطب
والكيمياء، بينما حصر اليهود استخدامها في مجال تفسير العهد القديم
وكتابة شرائعهم وقلما تطرقوا الى الدراسات الأخرى التي لم يصل الينا منها
أي شيء.
ففي مجال الفلسفة ترجم السريان معظم مؤلفات أرسطو من اليونانية الى
الآرامية منذ القرن الخامس وركّزوا على هذا الفيلسوف دون غيره لفائدة
ميوله وافكاره الفلسفية للدراسات اللاهوتية المسيحية ولو انهم ترجموا
ايضا دراسات بلوتارك، وافلاطون وسقراط وغيرهم من الفلاسفة الكبار. وفي
مجال الطب ترجمت معظم مؤلفات غالينوس وهيبوقراط قام بنقلها سرجيوس
الرأسعيني ثم نقح الترجمة وأضاف حنين بن اسحق عليها، وأصبحت هذه الترجمات
موادا تدريسية أساسية في مدرسة جنديسابور الشهيرة والتي كانت مستشفى
أيضا. كانت الآرامية لغة هذه المدرسة العريقة التي تخرّج منها اعداد
كبيرة من الأطباء خدموا أجيالا من الخلفاء في العصر العباسي. وفي هذه
المدرسة أيضا لعبت عائلة بختيشوع دورا تعليميا وعلميا لم تقم به عائلة
أخرى وتكلّمت هذه العائلة الآرامية والفارسية والعربية معا. وعندما أصبحت
الترجمات عملا يُشرف عليه الخلفاء ترجم المسيحيون أحيانا التراث الأغريقي
من اليونانية الى العربية رأسا. حتى هذه الترجمات العربية تحتوي على
تأثيرات الآرامية في التعابير العلمية والمصطلحات الأدبية ذلك لأنها
استندت على ترجمات سريانية قديمة فما الترجمات العربية إلا زبدة حركة
الترجمة لدى السريان فيها استخدمت الآرامية كلغة "الهدف".
وسّع السريان اهتماماتهم العلمية لتشمل علم المنطق والفلك والكيمياء
والزراعة والتاريخ وما عدا التواريخ السريانية العديدة والضخمة التي
وصلتنا، لم يصلنا الا القليل من الدراسات الأخرى، ولكن من المهم أن نذكّر
بأن كل هذه الدراسات كتبت بالآرامية الفصحى وهي جزء لا يتجزأ من الأدب
السرياني. لقد تحمل السريان العبء الأكبر في عملية الترجمة اذ يذكر ابن
نديم (قرن 11) في كتابه الشهير "الفهرست" 61 مترجما منهم 48 تكلّموا
السريانية، و11 مَلَكي (بيزنطي سوري)، وصابئي واحد ثم فارسي آخر. لذلك
فقد أنتج السريان معاجم سريانية ـ سريانية وسريانية ـ عربية تشرح
المصطلحات الآرامية الصعبة ومعظمها مأخوذة من الأغريق ممّا وسّع نطاق
التعبير بالآرامية. معجم (او بالاحرى موسوعة) ابن بهلول ( قرن 9 ) ومعجم
آخر لحنين ابن اسحق كمّله تلميذه عيسى بن علي، وكتاب الترجمة لإيليا
النصيبيني كلها منجزات ضخمة جعلت من الآرامية لهجة دولية (للمرة الثانية
في تاريخها) ولكن على الصعيد العلمي هذه المرّة.
3 ـ تقاس أهمية اللغة بمدى استخدامها وهذا ينطبق على الآرامية أيضا. لو
جمعنا كل الكتابات الآرامية منذ ظهورها الى القرن السادس الميلادي ما عدا
ما كتبه السريان بهذه اللغة، يبرز النتاج اليهودي شيئا ما. فالتلمود
البابلي المكتوب بالآرامي ضخم وهو حوالي عشرة أجزاء من المجلدات المطبوعة
بحجمها الكبير، وهناك تراجم ( ترجوم ) عديدة أقلّ ضخامة وهي تفاسير للعهد
القديم. بالرغم من كمية هذه الكتابات الارامية، ما أنتجه اليهود قد لا
يتعدّى الخمسة بالمائة مما انتجه السريان بنفس اللغة. فالمكتبة السريانية
ـ الآرامية ضخمة جدا، والقليل الذي وصلنا منها يحتاج الى أجيال من
المترجمين لو قاموا بترجمتها الى اللغات المعاصرة. فمنذ القرن الرابع الى
نهاية القرن الرابع عشر، لم يهمل المؤلِفون السريان ومعظمهم من الرهبان،
أيا من المجالات الأدبية والفكرية إلا ودبّجوا المؤلفات عنها باللغة
الآرامية. أشعار مار أفرام ( القرن الرابع ) هي مكتبة بحدّ ذاتها وكذا هي
المؤلفات الروحية والليتورجيا والفلسفية واللاهوتية والتاريخية... ضخامة
التأليف وتنويعه يدّل على حيوية اللغة الآرامية في "العصر السرياني”ولا
يمكن حتى مقارنة هذا الكم من المؤلفات مع ما كُتب بالآرامية سابقا حتى
وان أضفنا المؤلفات اليهودية على المؤلفات الأخرى القديمة شيئا فوق شئ.
4 ـ إن نَشَرَ الفرس ألأخمينيون الآرامية لتعم مملكتهم المترامية الأطراف
من بلاد فارس والى جنوبي مصر مرورا بالشرق الاوسط، فقد أوصل السريان هذه
اللغة الى حدود الصين مع اليابان مرورا بالقارة الآسيوية بمساحاتها
الشاسعة ولا زال جنوب الهند يستخدمها في الكنائس كما في كيرالا. اكتشف
المنقبون اعدادا هائلة من الكتابات الصينية-السريانية (الصورة)
والتركية-السريانية والمغولية-السريانية والميالايم (جنوب
الهند)-والسريانية (الصورة ادناه) تعكس كلها مدى تغلغل الآرامية في هذه
الشعوب الاجنبية وقد غزت العالم منذ القرن الثامن والى القرن الرابع عشر.
لعب المانويون ايضا دورا في انتشار الارامية في جميع انحاء آسيا ولكن
قلما يفوق نشاطهم باع السريان في هذا المجال والكتابات السريانية
المكتشفة التي لاتحصى هي شاهد على ذاك.
خاتمة
ظهرت الآرامية لغة محلية فأصبحت لغة عالمية. بانت على الحجر والطين ثم
دُبّجت على جلود الغزلان وصفائح البردي ثم الورق الاعتيادي. كانت
الكتابات الاولى ملكية فأصبحت لغة المراسلة والادارة. حوّل اليهود
الآرامية الى لغة دين بترجمتهم العهد القديم العبري اليها فطورها السريان
الى لغة لاهوت وعلوم نظرية وعملية. عمّرت الآرامية كجدّة أبتْ أن تموت
وخاضت القرون وزحم اللغات والضروف القاهرة وها هي تُنطق الى هذا اليوم
بلهجات السورث وتُسمع في الكنائس في الليتورجيات. لن تضاهي الآرامية أيةُ
لغة أخرى على وجه المعمورة اقله في طول عمرها وقدمها ثمّ كفاها أن يكون
السيد المسيح قد تكلّم بها.
الآرامية هي أيضا الدليل الأكبر على قِدم الناطقين بها، بها تتغلغل
جذورهم، قبل ظهور الاسلام وأبعد من زمن المسيح، في بطون وادي الرفدين بل
أبعد من ذلك في سوريا ولبنان موطن القبائل الآرامية الأولى. وشكرا. |