سريان مابين النهرين
ولغة العرب
بقلم: د. يوسف جرجيس الطوني
السريان (سٌورإيُيِا): هم الآراميون بحسب التسمية التاريخية القديمة، إذ ان
جميع الشعوب السامية القديمة الأخرى، التي كانت تستوطن الهلال الخصيب، وما
جاوره من البلدان بعد أن تنصروا في القرون الميلادية الأولى، أصبحوا يسمون
بالسريان، لربما نسبة الى الرسل والمبشرين الذين اتوهم من سوريا، بحيث أصبحت
لفظة "سُورايا" او "سوريايا" تعني المسيحي او الناطق بالسريانية على حدٍ
سواء. ويدخل ضمن هؤلاء: الأشوريون، الأكديون، الكلدانيون وغيرهم، لأنَّ
لَغَتهم الرئيسية اصبحت هي السريانية. ويمكن التعرف عليها خلال العصور
المختلفة، بواسطة ما وصل الينا من نقوش وبردي ورق ونصوص أدبية ودينية أشهرها:
آرامية العهد القديم، التلمود، آرامية تدمر، الانباط، الحضر، السامرة، ولهجة
أوديسا (الرها). وكانت الآرامية قد انتشرت إنتشاراً واسعاً، بحيث ان بلاد
أشور، ثم الفرثيين، والساسانيين، وبعد ذلك السلوقيين، قد جعلوا منها لغة
رسمية. عَمَّ استعمالها في مناطق شاسعة، امتَدَت من بلاد الصين شرقاً وحتى
جزيرة الفيلة في جنوب مصر، فأصبحت بذلك لغة جميع أنحاء الشرق الأدنى، فكانت
كاللغة الانكليزية في انتشارها اليوم، مما حدا بالمستشرق الفرنسي آرنست رينان
أن يقول بصددها في مطلع القرن العشرين: إنَّ الآرامية في القرن السادس قبل
الميلاد، طمست كل اللغات التي سبقتها وأصبحت اللغة الأولى، خلال أحد عشر
قَرناً، والمعبر الأول للعقلية السامية.
من جانب آخر وبعد القرن الثالث الميلادي، ظهرت الخلافات العقائدية في الكنائس
المسيحية، حول طبيعة المسيح، وحول غيرها من القضايا الثانوية، فانقسمت بذلك
تلك الكنائس، إلى قسمين رئيسيين، عُرِفا فيما بَعد بالنساطرة واليعاقبة. عقب
ذلك إنقسام سياسي، أُضيفَ إلى الفروقات الثقافية واللغوية فيما بعد في النطق
والتراكيب والمفردات. فَبَرزَت هُناكَ سريانية شرقية مصدرها لهجة نصيبين،
عُرِفَت فيما بعد بالكَلدانية خَطأً، فكانت لغة الفروض الدينية، للمناطق التي
تتبع الكنيسة النسطورية أو المشرقية في العراق والبلاد الواقعة الى الشرق
منه، ثم السريانية الغربية، ذات اللهجة الرهاوية، وكانت لغة كنائس السريان
اليعاقبة أو الارثوذكس والملكيين في العراق وبلاد الشام جَميعاً (أي سوريا
ولبنان وفلسطين).
في كل الأحوال قام السريان بدور عَظيم في نقل الفكر الاغريقي إلى الشعوب
السامية والأضافة إليه. وقد كان لسريان ما بين النهرين بالذات ومدارسهم
الشهيرة دور كبير في إعانة العرب في شتى المجالات. ومما يجدر ذكره، أنَّ
المصادر العربية قد جعلت جميع الشعوب التي أنشأت حضاراتها في بلاد ما بين
النهرين وسوريا من السريان، كما جعلت لغة العرب المستعربة، وهم القحطانيون
وبنو اسماعيل، السريانية ايضاً. كما تروي مصادر عربية أخرى، أنَّ زيد بن ثابت
كاتب الرسول محمد، كان يجيد السريانية. وعليه فقد أفادَت هذه اللغة، العَرب
في وضع الأحكام اللغوية حسب نماذجها، فكان لها تأثير واضح عليها من خلال
الأوزان والاستعمالات، كما في وزن فعلوت مثل: ملكوت، وصلوة (بالسريانية:
ملكوثا، صلوثا) وعن طريق ذلك دخلت الى العربية مفردات كثيرة، فقد جاءت في
كتاب السيرة النبوية لفظتا (المنحمنا) و (روح القسط) وهما لفظتان سريانيتان
وردتا في انجيل يوحنا (15: 26) حيث ظلَّتا على شاكَلتهما وتعني الأولى المعزي
أو المُحي والثانية (الروح القدس). وتسمية حروف الأبجدية ذاتها، تعمد الى
ترتيب حروف الهجاء بالسريانية فهي بالسريانية: ا.ب.ج.د.. بينما بالعربية هي:
ا.ب.ت.ث.ح.د..
كان اهل الجزيرة العربية قبل الاسلام يتغذّون على النتاجات الثقافية
والحضارية وأدواتهما الوافدة من العراق والشام، حيث كانت السريانية لغة رسمية
لمعظم سكان أهل البلاد الأصليين. وقد بقيت كذلك قرابة قرن من الزمان بعد
الفتوحات العربية، وكان ممن عرف شيئاً كثيراً عَنها ابو الأسود الدؤلي الذي
عني بتنقيط القرآن، وقد جرى ذلك في مَدينة الكوفة، التي كانت مركزا اسقفياً،
يطلق عليها اسم عاقولة، وتعني كلتا التسميتين (الكوفة وعاقولة) "المستديرة"
إقتبس العرب الخط من السريان الذين كان لهم نوعان من الخط: نسخي مدور، ومزوي
للزخرفة يسمى سطرنجيلي، لأنهم كانوا يؤثِرونه في نسخ الكتاب المقدس (= سطر
انجيلي). اما العرب فكان لهم خطان أيضاً، نسخي وكوفي، أُستُعمِلَ الأول
للمعاملات، أمَّا الثاني، ويشبه الاسطرنجيلي، فقد أُستُخدِمَ لكتابة المصاحف
وعلى الأبنية والجدران. ويظهر أثر السريان فيما يتعلق بالخط العربي، في أمور
عديدة، كاستِعمال أحرف الهجاء للأرقام العددية، فضلاً عن الأثر الكبير، في
وصل الحروف وفصلها، في الكلمة الواحدة باستثناء حرفي التاء والصاد. ويظهر هذا
الأثر في طَريقة كتابة المقطع المفتوح الممدود، وهكذا تكتب كلمات مثل: "قام،
رحمان، مساكين، يتامى، مساجد"، كما هي في رسم وكتابة القرآن الكريم الى يومنا
هذا (قم، رحمن، مسكين، يتمى، مسجد). وتُسَقّط في العربية أحياناً، ألف وزن
فاعل وتفاعل، كما في السريانية، فتكتب "بارك" بصيغة "برك". ومثل هذا نجده
أيضاً في حذف ألف جمع المؤنث السالم، كما في "صدقت، طَيَّبَت" (صدقات،
طَيبات) وفي شهد، وكفرين،عوضاً عن "شاهد وكافرين". كما حذفت ياء المتكلم، كما
في كتابة "يا ربِّ" عوضاً عن "يا ربي". إن كلمات "حياة، صلاة، زكاة" التي
اقتُرِضت من الآرامية، تُلفِت النظر إلى أمر آخر هو أنَّ نهايتها في
السريانية كانت "اوثا" (ءووتـ ا)، "ءووث" قد كُتِبَت في العربية بنفس الطريقة
أي بفتحة طويلة بعدها تاء مربوطة (ااة) وكان ينبغي أن تكتب بضمة طويلة وتاء
مفتوحة وأن تعتبر أسماء مذكرة كما هي في السريانية. كما كانت الآفعال "كاد" و
"زال" يُنطقان بِكسرة طويلة (كـ ى ى دا ـ زى ى ل ا) وذلك في نظير السريانية
"ميث" وفي العربية "ميت، مـ ىىتـ ا)وهذا يعني أنَّ الصيغ ذات الكسرة الطويلة
الضيقة (ىى) ليست سوى تطورات السريانية، ذلك ان الصيغ التي يواجهها النحاة
العرب بصعوبات جمّة فسرت على أنها انواع مختلفة من المحاكاة لاتتفق مع انواع
المحاكاة التي وجدت في اللغة العربية الفصحى. وقد اقترضت العربية كثيراً من
الكلمات التي هي على شاكلة "ملكوت" و "جبروت" كما أن كلِمة "قار" وهي (زفت)
تُنطق في العراق وفي الحجاز بصيغة (ق ىىر) آقتُرِضَت من الكلمة السريانية
(قىىرا) وهذا الاصل السرياني لا يستبعد أن يكون قد أُخِذَ من اللفظ السومري
(ج ي ر). أما الأغريق فيحتمل أنهم أخذوها من ذلك الأصل السرياني وهو (كـ ي ي
روس) حيث شاعت في اللغات الاوربية بصيغتها المعروفة كيروسين.
وعملاً
بالصيغ السريانية فان كثيراً من متكلمي بعض لهجات العربية كانوا يُسقِطون
الضَمة الطويلة كما في "قاتلوا" والكسرة الطويلة والاخيرة مثل يقتضي في
الوصل. اما لفظة حيوان مأخوذة من جمع الكلمة السريانية "حيوثا" أو "حيواثا"
وهي بمعنى الكائن الحي. كما إنَّ كلمة "قرآن" هي لفظ في "قريان" السريانية
بمعنى "قراءة".
إنَّ هذه النماذج البسيطة والمحددة قد سُقناها للدلالة على الشراكة العميقة
التي ربطت السريانية بالعربية، حيث كان لاهل العراق من هؤلاء وهؤلاء دور فاعل
في هذا التفاعل والتلاقح، وقد تم ذلك قبل فتوحات العرب وبعدها وبسبب صلة
الرحم الوثيقة والسبق التاريخي للسريانية في ميدان النضج
والعطاء.
المراجع الرئيسية:
1) مروج الذهب للمسعودي، 2) تاريخ اليعقوبي، 3) تاريخ الدول السريان لابن
العبري، 4) صبح الأعش للقلقشندي؛ 5) في اللغة العربية: د. أنيس فريحة،6) فقه
اللغة المقارن، د. ابراهيم السامرائي، 7) اللهجات العربية الغربية القديمة لـ
CHAIM RABIN.
|