عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

في الثقافة السريانية

للدكتور ابراهيم السامرائي

  كان للآراميين تأثير كبير في الثقافة العربية، فهم نقلة الفكر عن اليونانية، و من ثمّ فان لغتهم السريانية كانت مصدراً من مصادر المعرفة التي تزوّد بها المسلمون و عرفوا فلاسفة الاغريق.

إذاً ما هذه اللغة؟

 اللغة الآرامية هي إحدى اللغات السامية، التي تشتمل على اللهجات التالية: "الفينيقية، الرهاوية، الفلسطينية، الماندية، التدمرية، النبطية، أماّ أشهرها فهي لهجة الرها أو حرّان".  وقد كتب بها الكتّاب الأوائل، أمثال: برديصان المتوفي عام 222م، ويعقوب فرهاد أو أفراهاط المتوفي عام 345 م، وأفرام السرياني المتوفي عام 373 م، ورابولا الرهاوى المتوفي عام 430 م، وكثيرون غيرهم.

   و يقول المستشرق الفرنسي رينان في كتابه التاريخ العام للغات السامية: "إن الآرامية في القرن السادس قبل الميلاد طمست كل اللغات التي سبقتها، وأصبحت اللغة الأولى خلال أحدَعشرَ قرناً، والمعبر الأول للعقلية السامية".

 و يقول الأب هنرى لامنس اليسوعي في مقال له في مجلة المشرق 1903 ص 705- 707 "ومن عجيب الأمور أن انتشار لغة الآراميين بلغ على عهد السلوقيين مبلغاً عظيماً، فأصبحت اللغة السائدة في كل آسيا السامية، أعني في سوريا وما بين النهرين و بلاد الكلدان والعِراق وشبه جزيرة العرب، و كان المسلمون يدرسونها لكثرة فوائدها، و قد كتب بها الأرمن مدّة قبل استنباط الحروف الأرمنية...  وبلغ امتداد هذه اللغة الى أقاصي الشرق، في الصين شمالاً، والأقطار الهندية جنوباً، كما انّها بلغت بلاد النيل، فلا نظنن أن لغة أخرى حتى اليونانية جارت السريانية في اتساعها، اللهمّ إلاّ اللغة الانكليزية في عهدنا".

   و ظلت الآرامية نشيطة حتى جاء الفتح العربي، فأخذ يسرى اليها الضعف نظرًا لاتصال أهلها بالعرب، وهكذا تغلبت عليها العربية في القرن العاشر، وبقيت الآرامية لغة دينية مقرها الكنيسة تُقام بها الصلوات وتُلفى بها الخطب والمواعظ، و صار علماء الدين يشرحون الكتاب المقدّس للناس بالعربية، و ما زالت مستعملة في كنائس السريان والكلدان والموارنة حتى اليوم.

   و قد تغلبت العربية على الآرامية في المدن وما جاورها بسبب كثرة العرب ومخالطة أهلها لهم، أمّا الأماكن التي لم ينزلها العرب فما زالت تتكلم بالآرامية الى اليوم منها قرى: معلولا و جبعدين و بخعا، في شرقي دمشق، و جبال طور عبدين وقرى آثور و جبال كردستان و زاخو، حتى أنّ لبنان مع قربه من عاصمة الخلافة العربية على عهد الآمويين، فقد ظلت فيه الآرامية اللغة العامة زماناً طويلاً بعد القرن العاشر، واستمرّ أهله  في بعض جهاته العالية يستعملون الآرامية حتى بعد القرن الثامن عشر، كما يظهر ممّا كتبه العلامة جورجيوس السداني الماروني في كتابه " المنار" الذي ألفه عام 1916، ومّما ذكره العلامة مرهج بن غرون الباتي المتوفي عام 1711 م في كتابه " سلاح الايمان" المطبوع في روما عام 1694 م انّه قال: "انّه لأمر يستوجب الاعتبار أن بشرّى و قرية حصرون التي تبعد عنها قليلا و ثلاث قرى و مزارع أخرى غيرها تحاذيها، قد حفظ سكانها و لم يزالوا حافظين اللغة السريانية القديمة، فيها يتكلم الرجال والنساء غالبا".

و يقال ان العلامة السمعاني الشهير المتوفي عام 1768 م لمّا عاد من روما الى قريته حصرون خاطب والدته باللغة السريانية، وفضلا عن ذلك فان عددا لا يُحصى من الألفاظ الكنسية المنقولة عن الآرامية، ما زال يستعملها الخاصة و العامة من نصارى لبنان و سوريا وفلسطين و العراق، مثل: "الشماس، القس، الكاهن، الهيكل، القداس، القربان، الطبليث، الزياح، الناقوس، الفصح، و الملكوت...الخ" ومئات من أسماء المدن و القرى و الأعلام و غيرها باقية على أصلها الآرامي، فمن أسماء المدن والقرى: صيدا "الصيد"، عانا "الغنم" عين طورا "عين الجبل"، برمانا "محل الرمان"، بكفيا "محل الحجارة"،  بتدين "بيت الحكم"، بزمار "محل الترنم"، ماروين "الحصون أو القلاع"، جزّين "كنوز"، كفريا "القرى"، راشيّا "الرؤوس"، فاريّا "الثمار"، رشميّا" رأس المياه"، كفرزينا "قرية السلاح"...  و من أسماء الأعلام : بهرا "نو"، شليطا "متسلط"، مرتا " سيدة"...

  و من غير أسماء القرى والأعلام فلا زالت العربية الدارجة في لبنان و الموصل و غيرها تحتوى الكثير من هذه الرواسب الآرامية مثال ذلك "شكارة" و تعني قطعة أرض، و هي مستعملة في العراق جنوبيه وشماله، و من يرجع الى رسالة الدكتور الجلبي عن الآثار الآرامية، يجد صدق هذه الدعوى.

و لعل وزن (فاعول) أصيل في الآرامية منه بالعربية، وجريانه على الآلات والأدوات مثل "ساطور" و "شاقوف" آلة القطع السريانيتين اللتين بقيتا في العربية. أقول أصيل في السريانية أكثر من أصالته في العربية لأن هذا الوزن شاع  شيوعاً في عاميتنا في باب الوصف و غيره، و ما هو إلاّ لأن المدّ من إطالة الفتحة جريا مع الذوق العامي، فلعوب تصبح "لاعوب" وشغول تصبح "شاغول" و عمود تصبح "عامود"... الخ.

و قد حصل مع تمادى الأيام في الآرامية الرهاوية نفسها، بين الشرقيين والغربيين بعض اختلاف في اللفظ، لم يُؤدِالى جعلها لغتين، بل صيّرها لهجتين، شرقية و هي لهجة الكلدان الكاثوليك و النساطرة، وغربية و هي لهجة السريان الأرثوذكس و السريان الكاثوليك و الموارنة. و الاختلاف الرئيس بينهما في الحركة المسماة "زقافا" فهي تُلفظ عند المشارقة فتحاً طويلاُ أو ألف مدّ، و عند المغاربة ضمّاً طويلاً منفرجاً كأنها حركة (o) في اللغات الأوربية مثال ذلك "عانا" وتعني الغنم، في اللفظ الشرقي،  و "أرعو" على طريقة الغربيين.

و مّما تجدر الاشارة اليه أن العين يُقابلها الضاد في العربية، و يذكر القس بولس الكفرنيسي الراهب اللبناني، انّه سمع سكان قرية معلولا، و هي في القسم الغربي يتبعون الطريقة الشرقية، فيسموّن السوق "شوقا" والبيت "بيتا" و النهر "نهرا"...

و الأسلوب الشرقي هو القديم، و هو الذى حفظ صورة الآرامية الأصلية، يدلنا على ذلك ما ذكره مرهج الباتي عن لغة شمال لبنان، و منها بعض الألفاظ التي لا زالت في اللسان الغربي على صورتها الآرامية الأصلية، أى بالألف المطلقة مثل " يغر سهدوثا" و تعني رجمة الشهادة. و منها الألفاظ التي لا زالت على اللسان الشرقي، ولا يُعرف بالضبط متى حصل هذا الانقسام.

كان السريان يتناقلون اللغة تناقلاً حتى القرن السابع الميلادي، فابتدأ بعضهم يُؤلف في نحوها و بعضهم في جمعها، وقاية لها من الضياع بسبب اختلاطهم بغيرهم من الأمم.

وأول من ألف في نحوها كتابا، يُرجع اليه و يُعوّل عليه الأسقف يعقوب الرهاوي المتوفي سنة 708 م، و كذلك يوسف الأهوازي أستاذ مدرسة نصيبين المتوفي سنة 850 م، ثمّ أبو زيد حنين بن اسحق المتوفي سنة 873 م، وايليا الطيرهاني المتوفي سنة 1049 م، وابن العبرى الشهير المتوفي سنة 1286 م الذي ألف كتابه الشهير المسمى "صمحى" الأشعة، و عنه أخذ كل من صنّف في النحو ولا سيما نحاة الموارنة، ومن هؤلاء: يوسف العاقوري 1648 م، و اسحق الشدراوى 1663 م، و ابراهيم الحاقلاني 1664 م، و الخوري بطرس التولادي 1745 م، و يوسف السمعاني 1768 م، و الأب نعمة الله الكفري 1907 م، و المطران يوسف دريان 1920 م، و الأب جبرئيل القرداحي... و من غير الموارنة المطران يوسف داؤد السرياني 1890 م صاحب " اللمعة الشهية"، و المطران يعقوب أوجين منّا الكلداني 1928، صاحب القاموس الشهير (دليل الراغبين في لغة الآراميين).

و من الذين ألّفوا في جمعها وشرحها على ترتيب الأبجدية أبو يحيى زكريا المروزى 899 م، و أبو الحسن بن علي 903 م، وأبو الحسن بن بهلول 973 م، وجورجيوس السداني الماروني، المتقدم ذكره في كتابه "المنار" والقرداحي صاحب "اللباب".

و قد ألف المستشرقون الأوربيون أيضا في نحوها، كما ألفوا في أدبها، كما سيأتي ذكرهم في الكلام عن الأدب.

و من المشارقة محمد بن عطية الابراشي، والعناني، وليوني محرز، ألف هؤلاء كتاب "المفصل" في قواعد اللغة السريانية و آدابها، و اتبعوا فيه طريقة المستشرقين، و لم يكن من بين مضانهم أي كتاب شرقي.

أمّا كتابة اللغة الآرامية فأقدم قلم يُعرف لها هو القلم الفينيقي، و قد وُجدت كتابات آرامية به في شمالي أنطاكية، و في خرائب نينوى، وجزيرة أسوان بمصر، يرتقي عهد أقدمها الى القرن الثامن ق.م. و قد بقي الآراميون يستعملون هذا الخط حتى القرن الأول قبل الميلاد، ثمّ أخذ آراميو الرها و بابل و تدمر و الجام و فلسطين و حوران يتفنّنون فيه، حتى تفرع منه لكل قوم قلم خاص بهم.

و كان القلم الرهاوى المسمّى باللفظ اليوناني "الاسطرنجيلي" و يعني " المستدير" أجمل هذه الخطوط و لذلك غلب استعماله في الجزيرة و ما بين النهرين و العراق و الشام و لبنان، و من هذا أخذ العرب الخط "الكوفي" ثمّ تفرّع عنه عند الغربيين في نحو القرن السابع القلم الشرقي المعروف "بالكلداني"  و هو شبيه بالرهاوي. و قد امتاز الكتّاب الآراميون باستنباطهم في القرن السادس النقط الدقيقة حركات لكتاباتهم، ثمّ شرع الغربيون منذ القرن الثامن يستعملون أيضاً الحركات الخمس المأخوذة عن الحروف اليونانية التي استنبطها ثاوفليوس الرهاوى المتوفي عام  875 م عنما ترجم الالياذة و الاوذيسا إلى الآرامية، و ربما اقتدى العرب والعبرانيون بالآراميين في استنباط الحركات.

اذن فاللغة التي نسميها اليوم سريانية ليست لهجة من الآرامية، كما يذهب المستشرقون وأوّلهم وليم رايت في مقالته وتبعهم في ذلك مؤلِّفا الأدب السرياني مراد و البكري.

و لا بدّ لي هنا أن أشير إلى التعقيبات البارعة للمثلث الرحمات المطران بولس بهنام الذي كان مدير المدرسة الاكليريكية بالموصل عام 1951 في مجلته " لسان المشرق" - هذه التعقيبات على كتاب الأستاذين المصريين مراد و البكري لأنهما أثبتا في المقدمة "أن السريانية لهجة محلية من اللغة الآرامية". أقول كما يقول غيرى إن هذا الزعم غير صحيح، ذلك ان الآثار التي ظهرت أخيرا تؤيد هذا و منها كتاب "أحقار الحكيم وزير سنحاريب ملك اشور". و الكتاب المقدس يسمّي اللغة السريانية بأسم "الآرامية" دائما، كما جاء في سفر الملوك و دانيال و عزرا و اشعيا.

و يسمّي العلماء الأقدمون السريانية باللغة النهرية، كما جاء في كتاب "الفصاحة" لأنطون التّكريتي، ولفظة "آرامية و سريانية" تتناوبان كما يدل على هذا ما ورد في كتاب مختصر اول لا بن العبري. و قد أنكر المتأخرون ممّن كتب في هذا الموضوع مثل يوسف داؤد السرياني صاحب " اللمعة الشهية" أن تكون السريانية فرعا من الآرامية... و من أجل هذا ترد كلمة سريانية مرادفة بالآرامية، كما جاء في كتاب " اللؤلؤ المنثور" للمثلث الرحمات العلامة مار اغناطيوس أفرام الأول برصوم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، و يبدو أنّه لا فرق بين السريانية و الآرامية، فهما لغة واحدة. و قد جاء في تفسير سفر دانيال لا بن العبري: "وتكلم الكلدانيون أمام الملك بالآرامية" ثمّ يقول و تكلم الكلدانيون بالآرامية أي السريانية، أدّى بها تقادم العهد الى ارتداء حلّة جديدة، كما سنعلم في بحث اللهجات الآرامية.

لهجات اللغة الآرامية  

قال ابن العبري في المدخل في تعليقه على الحركات السريانية: "إن اللغة السريانية تفرعت إلى فروع كثيرة أكثر من جميع اللغات، و ذلك لانتشارها في بلاد شتّى، بعيدة عن بعضها، فصار بين اللهجة و الأخرى بون شاسع لا يستطيع معه أبناء اللهجة الواحدة أن يفهموا المتكلمين ببقية اللهجات إلاّ بواسطة الترجمان كأنهم يسمعون لغة غريبة عنهم". و يُحصي ابن بهلول في معجمه ست عشرة لهجة سريانية، والمعجم مطبوع في باريس وقد حقّه المستشرق دوفل.

و كانت هذه اللهجات نتيجة انتشارها الواسع في البلاد العديدة من جهة وامتزاج الآراميين أنفسهم بأمم غريبة أخرى من جهة ثانية. و كل تلك اللهجات هي فروع عن الأصل اللغوي القديم الذي يُعدّ لغة دولية عامة، كما نفهم ذلك من قراءة سفر الملوك، و سفر اشعياء.

و لابد من القول أن تقسيم هذه اللغة إلى: "شرقية وغربية"، هومن باب التجاوز و تسهيل الأمر و أول من ذهب الى هذا هم المستشرقون، ذلك أنّنا لا نستطيع أن نقول أن لهجة فلسطين هي غربية لأنها كما بينا هي آرامية بابل جاء بها اليهود بعد السبي البابلي. إذن فلا بدّ من أن نقيّد القول بالتقسيم الى شرقية و غربية، و ذلك كما بينّا أن الاولى مفتوحة الآخر، و الثانية مزقوفة أي مضمومة.

يقول "ماسبرو" في كتابه تاريخ شعوب الشرق القديم ص 775 : "إن لغة بابل و نينوى الآرامية ذاتها تفرعت الى فرعين إبّان مجد الدولتين البابلية و الآشورية" و يقول أيضاً: "إن اللهجة المصقولة التي كان كتّاب بابل يستعملونها في عهد هيرودتس لإنشاء الكتابات الرسمية، كانت قد أضحت منذ زمن طويل تشبه لغة نبيلة يفهمها فئة من الناس و يجهلها السواد من العامة، كان العامة من سكان القرى والمدن يتكلمون باللهجة الآرامية التي كانت أثقل من تلك و أوضح، و أكثر تفصيلاً". و معنى هذه أن الآرامية الأمّ تفرعت الى هذه الفروع الكثيرة بواسطة اللهجات المحكية في كل حاضرة من حواضرالممالك السحيقة في القدم، في حين أن الفصيحة حافظت على كيانها، شأنها شأن الغات السامية الأخرى.

 عن مجلة صدى المعرفة، عدد  3  /  1992     

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها