عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

لغة المسيح هي الغة الآرامية اللبنانية

الأب بطرس ضو

مما يستوقفنا في خبر اقامة أبنة يائير من الموت كما سرده القديس مرقس مخاطباً يسوع للفتاة المذكورة باللغة الآرامية اذ قال لها:

 "طليتا قومي" الذي تفسيره يا صبية لك اقول قومي(1).

فالعبارة "طليتا قومي" هي آرامية. و الآرامية هي اللغة التي تسمى اليوم السريانية. فالآرامية نسبة الى آرام بن سام بن نوح، والسريانية نسبة الى سوريا. فالآرامية تسمية إثنية والسريانية تسمية جغرافية. ولكن اذا تعمقنا في اصل اللفظتين نجد ان اصلهما واحد. فلفظة سوريا نسبة الى "سيريون" وهو اسم جبل حرمون لدى الصيدونيين والفينيقيين. واسمه لدى الاموريين "سريانا" (2) . فاسمه الكنعاني الفينيقي، والصيدونيون والاموريون فصيلتان من الشعب الكنعاني الفينقي، اسمه الكنعاني "سريون، وسريانا" وهما صيغتان او لهجتان واحدة.

من هذه اللفظة اشتق القدماء اسم سوريا. ومعنى "سريون، وسريانا" الصخرة الكبيرة و منها في اللغة اللبنانية العامية الفظة الشراي الصخر الكبير. و اسم "صور" صيغة اخرى لهذه اللفظة عينها و للجذر عينه. هذا اسم حرمون بلغة الكنعانيين من صيدونيين و صوريين و اموريين هم اللبنانيون القدماء.

و في نص المعاهدة المعقودة في السنة 1350 ق.م بين الحثيين من جهة و الامورين من جهة ثانية ورد اسم حرمون هكذا: "شريانا" (3)

   فاللغة السريانية نسبة بالاصل الى "سريانا، سريون، وشريانا" اي جبل حرمون او لبنان الشرقي.

   و في نص للملك نارام سين (2300 ق.م) باللغة الاكادية دُعي حرمون "ارمانا، ارمانو" (4). ارمانا و ارمانو نسبة الى آرام بن سام جد الآراميون. و من ارمانا و ارمانو لفظة "حرمون" اذ حلت الحاء محل الهمزة كما يحدث كثيرا في اللغات الساميّة.

فاللغة السريانية سواء دُعيت سريانية او آرامية اطلق عليها هذان الاسمان الى مكان واحد هو جبل حرمون الذي دُعي "سريون" و"شريون" بسبب تكوينه الطبيعي الصخري، و دُعي "ارمانو" و "ارمانا" نسبة الى آرام اي الشعب الذي حلّ فيه.

   وحرمون هو جزء من لبنان وقد دُعي على مر الاجيال لبنان الشرقي. و الشعب الآرامي انطلق اصلا من حرمون اي من لبنان. واللغة الآرامية السريانية لغة نشأت في جبل حرمون اللبناني و لدى الشعب الآرامي اللبناني فهي لغة لبنانية الاصل و الجذور، والسّمة و التكوين.

   هذه اللغة الآرامية كانت اللغة الشائعة في فلسطين و خاصة في الجليل في زمن المسيح و بها تكلم المسيح و والدته العذراء والرسل و كافة الشعب ذلك الزمن.

ويعود ذلك الى الاسباب التالية:

1- كانت اللغة الآرامية لغة ابراهيم جد العبرانيين الذي نشأ في اور الكلدانيين فيما بين النهرين حيث كانت الآرامية اللغة السائدة. ثم اقام ابراهيم مدة في حرّان عاصمة مملكة آرامية اسمها في التوراة و النصوص القديمة " آرام النهرين". و هكذا كانت الآرامية لغة ابراهم. و كان على كل يهودي ان يعترف بذلك في هيكل الرب عندما يقدم الذبيحة حسبما يأمر سفر تثنية الاشتراع:

"و اذ دخلت الارض ... فخذ من اوائل كل ثمر الارض.... و امض الى المكان الذي يختاره الرب... و أتِ الكاهن... ثم تجيء  و تقول بين يدي الرب الهك: "ان ابي كان آرامياً تائها فهبط مصر و نزل هناك في رجال قلائل فصار امة عظيمة شديدة كثيرة" (5). هكذا اتى العبرانيون من جهات الفرات و هم يتكلمون اللغة الآرامية.

2-  لما حلّوا في ارض كنعان اي فلسطين اقتبسوا اللغة الكنعانية و هي و الارامية من أصل لبناني واحد فأصبحت لغة اليهود في فلسطين مزيجا من الكنعانية و الآرامية.

3-  نفي يهود الجليل وفلسطين الى بابل و آشور على دفعتين في القرنين الثامن و السادس ق.م و هناك لبثوا مدة من الزمن تغلبت عليهم فيها اللغة الآرامية حسب لهجتها التي كانت سائدة في ما بين النهرين. و عادوا الى فلسطين بهذه اللهجة الآرامية الميزوبوتامية.

4-  يهود الجليل تغلبت على لغتهم الآرامية اللهجة اللبنانية الصرفة لانهم بعد عودتهم من سبى بابل و قبلها كانوا يعيشون مختلطين مع الفينيقيين فوق الارض الواحدة كما رأينا سابقاً. وبسبب هذا الاختلاط و بسبب تفوق الفينيقيين على اليهود حضارياً تغلّبت على يهود الجليل اللهجة الآرامية اللبنانية. لذلك كانت تختلف لهجة يهود الجليل الى حد ما عن لهجة يهود القدس وفلسطين الجنوبية كما يتّضح من انجيل متى:

"اما بطرس فكان جالساً في الدار خارجاً فدنت اليه جارية و قالت له: انت مع يسوع الجليلي. فانكر قدام الجميع و قال: لست ادري ماتقولين. ثم خرج الى الباب فرأته جارية اخرى فقالت للذين هناك: هذا ايضاً كان مع يسوع الناصري. فا نكر ثانية بقسم... و بعد قليل دنا الحاضرون و قالوا لبطرس: في الحقيقة انت ايضاً منهم فان لهجتك تدل عليك" (6).

   هكذا كانت الآرامية اللبنانية لغة المسيح. و قد حفظ لنا الانجيل بعض عبارات من هذه اللغة كما نطق بها المسيح، و بعض الفاظ تركت على اصلها، منها اسماء الاعلام و الاماكن المختومة بالالف المفتوحة مثل توما و شيلا و برأبّا و برنابا و مرتا وبيت عنيا و بيت حسدا و حقل دما.

 و منها لفظة ربوني، و كيفا اللقب الذي اطلقه الرب على سمعان، و قول المسيح للاعمى "افتتح" و للصبية بنت يائر "طليثا قومي" و صراخه على الصليب: "ايلي ايلي لما شبقتاني". و بهذه اللغة كتب متى انجيله.

و قد بقيت مستعملة في فلسطين و الجليل الى القرن العاشر و بها كتب اليهود التلمود و ترجمات التوراة. فلفظة "كيفا" التي اطلقها المسيح لقباً على بطرس هي ذاتها اللفظة التي دعت بها اللغة اللبنانية الاصلية اماكن وقرى مثل راس كيفا في لبنان الشمالي و دير كيفا في لبنان الجنوبي. فلغة المسيح و لغة لبنان الاصلية هي ذاتها.

   ويقول ابن العبري : تنقسم اللغة السريانية الى ثلاث اهجات افصحها الآرامية و هي لغة اهل الرها و حران و قسم من الشام، و بعدها الفلسطينية وهي لغة اهل دمشق و جبل لبنان و باقي الشام، واسمجها الكلدانية النبطية و هي لغة اهل جبال اشور وسواد اعراق (7).

   وقد قلنا ان الآرامية السريانية بلهجاتها المختلفة انطلقت اصلا من لبنان اي من حرمون وما يجاوره من الجبل اللبناني.

   فالكلمة اللبنانية كانت لغة المتجسد و بها خاطب العالم و بها نطق بانجيله الذي اصبح دستور و شرعة الانسان المتحضر وروحه.

   و فضلا عن ان الآرامية السريانية هي لغة المسيح و العذراء و الرسل و الفوج المسيحي الاول و بها كتب الانجيل الاول فانها لغة بلغت في عهدها الذهبي انتشارا عظيما ندر ان ضاهاه انتشار اية لغة اخرى.

يقول العلامة الاب هنري لامنس اليسوعي:

 "من عجيب الامور ان انتشار لغة الآراميين بلغ على عهد السلوقيين (322- 64 ق.م) مبلغاً عظيماً فاضحت اللغة السائدة في كل اسيا السامية اعني في لبنان و سوريا و ما بين النهرين و بلاد الكلدان و جزيرة العرب...

 و قد بلغ امتداد هذه اللغة الى اقاصي الشرق في الصين شمالاً و في الاقطار الهندية جنوبا. و بلغت جنادل النيل. فلا نظن ان لغة اخرى حتى و لا اليونانية جارت السريانية في اتساعها اللهم الاّ اللغة الانكليزية في عصرنا"(8).

   و اللغة الآرامية السريانية خصبة جدا في ادابها و شعرها و فلسفتها و علومها و كنوزها الفنية و الحضارية. و يمكن القول انه مثلما انه ندر مثيلها من حيث سعة الانتشار هكذا، ندر مثيلها من حيث انتاجها الادبي و الفلسفي و العلمي و الفني كمّاً ونوعاً.

   اقدس مقدسات تراثنا. و من اقدس واجباتنا تعزيزها اذ بتعزيزها تعزيز شخصيتنا و هويتنا و استقلالنا و حضارتنا و لبنانيتنا، وتعزيز للحضارة الانسانية.

 --------------------------------------------------------------

  مرقس 5:41 - 1

2 -F.M Abel,Geographie de la Palestine,3 Edit.,Paris,1967,t,I.pp.347-9

3- l.c.

4- l.c

  تثنية الاشتراع 26: 1-5 –5

  متى 26: 69-73 - 6

ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، بيروت، 1958، ص 11 – 7

 المشرق، 1903، ص 705- 707 - 8

عن كتاب تاريخ الموارنة الديني والسياسي والحضاري

الأب بطرس ضو/1980

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها