اليوم
العالمي للغة الأم
عادل حبه
21 شباط 2008
في أعوام 1950-1952 قامت الطبقات الوسطى الناهضة في بنغال الشرقية ( جمهورية
بنغلاديش الحالية قبل انفصالها عن الباكستان، والإقليم الشرقي لباكستان بعد
الإستقلال)، بالشروع بانتفاضة عُرفت لاحقاً
بـ"الحركة اللغوية البنغالية". قام البنغاليون بهذه الحركة كرد فعل على قرار
الحكومة المركزية الباكستانية المتركزة في غرب الباكستان وعلى لسان محمد علي
جناح ، الحاكم العام للبلاد في اجتماع جماهيري في 21 آذار عام 1948 الذي أعلن
فرض اللغة الأُوردية، وهي لغة الأقلية ولغة النخبة آنذاك، كلغة وطنية
وحيدة يتم التداول بها على الأراضي الباكستانية. وكرر هذا القرار اللاديمقراطي
حاكم بنغال الغربية خواجة نظام الدين.
نصب شهيد منار في داكا
وقام البوليس الباكستاني بفتح النار على الطلبة المتظاهرين بعد أن دعى الطلبة
إلى اعلان الأضراب الوطني العام في بنغال الشرقية احتجاجاً على القرار. وراح
ضحية هذا العنف خمسة من الطلبة البنغاليين بالقرب
من كلية الطب في مدينة داكا، العاصمة الحالية لجمهورية بنغلاديش. ونتيجة لذلك
العنف من جانب البوليس، أمتدت الاحتجاجات العارمة لتعم سائر الأقاليم
البنغالية بالرغم من إعلان الأحكام العرفية، مما أضطر الحكومة المركزية على
الاعتراف باللغة البنغالية كلغة تتداول على قدم المساواة مع اللغة الأوردية في
الباكستان. وفي الحقيقة فإن هذه الحركة، وباعتراف المؤرخين، قد بذرت بذور
الحركة الانفصالية للبنغال عن الباكستان في عام 1971. وقد قامت الحكومة
البنغالية بتشييد نصب لشهداء الحركة أمام كلية الطب في داكا، يعرف بنصب شهيد
منار.
وبعد مرور عدة عقود على هذا الحدث، بادرت اليونسكو إلى تخليد هذا اليوم تحت
عنوان "اليوم العالمي للغة الأم"، وذلك في 17 تشرين الثاني عام 1999، حينما
وافقت المنظمة على اقتراح من بنغلاديش وبدعم من 28 دولة بالاحتفال بهذا اليوم.
كما خصصت جائزة توزع في هذا اليوم على "اللغويين والباحثين والبرفسورية ونشطاء
المجتمع المدني لقاء عملهم في مجال التنوع اللغوي والتعليم المتعدد اللغات".
وشُرع بتوزيع هذه الجوائز منذ عام 2002، وحاز عليها
13 شخصاً ومؤسسة تعليمية من 11 بلداً. وبدأت اليونسكو تحتفل بهذا العيد كمناسبة
وتدعو جميع اعضاء هذه المنظمة الدولية للمشاركة في هذا الاحتفال من أجل الحفاظ
على التنوع الثقافي واللغوي وتعدد اللغات. وأصبحت اللغة في صلب أهداف منظمة
اليونسكو. وراح الجميع يبدون اهتمامهم بحفظ لغة الأم باعتبار أن ذلك يشجع
التنوع اللغوي والثقافة المتنوعة، إلى جانب أن ذلك يوجه الأنظار نحو التقاليد
والتراث اللغوي بما يعزز التضامن بين البشر والقائم على الفهم المتبادل والحوار
والتسامح. والحديث يدور عن عالم يتكلم سكانه بما يزيد عن 6000 لغة،
وبعضها يتهددها الانقراض وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وبضمنها العراق، إضافة
إلى سكوتلاندا والهند وكندا واليابان وماليزيا والمكسيك والأرجنتين. لقد انمحت
في العهود الماضية من ميدان التداول أكثر من 200 لغة. وبذلك خسرت البشرية
منظومات لغوية وثقافية بأكملها جراء تعامل بعض البشر بفظاظة وتعصب مع اللغات
والثقافات.
ومازلنا نحتاج في عالم اليوم إلى العناية والبحث في إحياء اللغات والثقافات
التي تتعرض للاندثار والنسيان. كما أنه من الضروري الضغط على الحكام الذين
يصرون على تجاوز هذا التراث الإنساني بدوافع عنصرية أو دينية متطرفة تارة، أو
بدعاوى بناء دولة النقاوة العرقية والدينية تارة أخرى. فلا يمكن أن توجد دولة
النقاء العرقي في عالمنا. وقد فشل من سار على هذا النهج رغم أعمال البطش التي
مورست في تحقيق هدف بناء دولة عرقية نقية. وشاهدنا على ذلك مصير هتلر وحلفائه،
أو عفلق وصدام وشاه إيران ومن هم على شاكلتهم في منطقتنا. لقد خسر العراق تراث
هام وكبير وهو التراث اليهودي في العراق الذي يمتد إلى قرابة 2500 سنة ومنذ
السبي البابلي لليهود، والذي يعد أهم تراث يهودي في العالم. فالمتطرفون
الإسرائيليون لم يعثروا في فلسطين حتى على حجر "يهودي" كي يبرروا تسلطهم على
"أرض الميعاد" وإخراج الفلسطينيين من وطنهم الأصلي. ولا ندري
ماذا حل بكل تلك المخطوطات والوثائق والكنوز
التي ربما أصابها التدمير أو النهب بعد أن تم ترحيل العراقيون اليهود إلى خارج
العراق قسراً ليضيفوا مأساة أخرى إلى ما حل بالشعب الفلسطيني بعد مأساة 1948.
لقد خطى العراق خطواته الأولى خاصة بعد ثورة تموز عام 1958. فقد تم الاعتراف
بالتعدد اللغوي والثقافي في البلاد، ونص على ذلك في دستور الجمهورية المؤقت.
ولكن ما أن تراجعت الثورة وعصف بالبلاد إعصار 8 شباط عام 1963، حتى تم تصفية كل
مظهر من مظاهر التنوع اللغوي والثقافي. وتم تغيير حتى الأسماء التي اعتاد عليها
المواطن العراقي، بحيث تم تغيير حتى إسم "الحنطة الكردية" لتصبح "حنطة الشمال".
عائلة أرمنية مهاجرة إلى بغداد مراسيم لمواطنين
عراقيين مسيحيين في بغداد
بداية القرن العشرين بداية
القرن العشرين
عراقيون
مندائيون أثناء أداء مراسيمهم الدينية
مرقد النبي اليهودي ذي الكفل الذي يتبارك به عائلة
يهودية عراقية
العراقيون من كل الأديان
مطلع القرن العشرين
لالش المكان المقدس عند الأيزيديين العراقيين
ولم يعد هناك أي ذكر للغة وثقافة سكان العراق الأصليين من الآثوريين والكلدان
ولغتهم السريانية العريقة، وغيرهم من المجموعات الأثنية التي عاشت في العراق.
وفرض حتى على المواطنين الأيزيديين والشبك تغيير هويتهم الثقافية والعرقية،
وليحملوا هوية عرقية غير هويتهم الأصلية. وزاد الطين بلة بعد عودة حزب البعث من
جديد إلى الحكم عام 1968. وكانت أولى إجراءات هذا الحزب هو القيام بالتصفية
العرقية المنظمة، وتم تهجير وإبادة الآلاف من الفيليين والعراقيين العرب أو من
هم من أصول فارسية، ثم تبعه تغيير ديموغرافي وتهجير
وإبادة للمواطنين الكورد العراقيين بشكل بربري ومأساوي، مما هدد
باضمحلال لغات العراق المتعددة وثقافاته المتنوعة التي تعايشت في العراق خلال
آلاف السنين وكونت الثقافة العراقية، ناهيك عن ما أحدثه ذلك من تدمير معنوي طال
العلاقات الاجتماعية والهوية والمواطنة العراقية. و شنت حملة واسعة ضد المراكز
والمدارس والنوادي الثقافية لجميع مكونات الشعب العراقي غير العربية. ولم يجد
تعلم لغة الأم مكاناً في قاموس نظام التطهير والنقاء العرقي.
ولكن جرى تحول كبير مع سقوط نظام التطرف القومي في نيسان عام 2003, ليقر النظام
الجديد بالتعددية اللغوية والثقافية في العراق. فقد نص الدستور الجديد وفي
المادة 4 على مايلي:
"أولاًـ
اللغة العربية واللغة الكوردية هما اللغتان الرسميتان للعراق، ويضمن حق
العراقيين بتعليم ابنائهم بلغة الأم كالتركمانية أو السريانية
والأرمنية
في المؤسسات التعليمية الحكومية على وفق الضوابط التربوية، أو بأية لغة أخرى في
المؤسسات التعليمية الخاصة".
وهنا ينبغي التوقف عند نقطة هامة وهي أن الدستور رغم الإنجاز التاريخي الذي
حققه بالاعتراف بهذه التعددية وحفاظه على لغة الأم لمكونات الشعب العراقي
اللغوية والثقافية، إلاّ أنه لم يشر إلى اللغة الفيلية ولا المندائية ولا اللغة
الآذرية ولا لغة الكتب الدينية الأيزيدية. ومن الملاحظ أيضاً أن الدستور لم يشر
إلى اللغة الفارسية التي يتداولها عراقيون من أصول فارسية في بيوتهم.
وما كان على المشرّع العراقي الوقوع في هذا المطب وارتكاب هذا الخطأ الذي جرى
بفعل عوامل سياسية سلبية. فاللغة الفارسية تعد أحدى اللغات التي يتم تداولها في
العراق. إن التطاحن بين حكام البلدين وحشر الخصومة السياسية بين حكام بلدينا في
موضوعة اللغة، ومنع هؤلاء العراقيين من دراسة لغة الأم وثقافتهم، والتي تعد
واحدة من لغات الثقافة والحضارة العالمية، هو إخلال في الطبيعة المتنوعة
والمتعددة للغة والثقافة في العراق. البعض يظن أن تجاهل ذلك هو بمثابة حصانة
للغتنا العربية وثقافتنا التي نعتز بها. والحقيقة إن من يخسر في هذا الموقف
المتطرف غير المبرر هو العرب العراقيون أنفسهم. أن من يتبنى هذا الموقف يقع في
خطأ كبير، لأن الثقافة هي مزيج من ثقافات متنوعة شأنها شأن الحضارة نفسها.
وينطبق الأمر على اللغة أيضاً. والتنوع في اللغة والثقافة هو غنى للبلد
وللثقافة العربية ولغتها أيضاً وعلامة صحة للمجتمع وليس العكس. إننا إذا ما
تمسكنا بإضفاء صفة العربية زوراً على عمالقة الثقافة والعلوم المنحدرين من
أثنيات غير عربية مثل إبن سينا الأوزبكي والفارابي الفارسي وغيرهم، كما جرى
ويجري حتى الآن في كتبنا التاريخية المزورة، فإننا لا نعلم أبناءنا وبناتنا
إلاّ الافتراء على الحضارة وعلى العلماء العرب أنفسهم والذين لديهم ما يفتخرون
به وما قدموه للحضارة الإنسانية.
وانسجاماً مع "يوم لغة الأم العالمي" وتوصيات اليونسكو في هذا المجال، يترتب
على السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية العراقية، وخاصة المؤسسات التي تعني
بالتربية والتعليم والعلوم والأدب والثقافة، أن تعير أهمية خاصة للغة الأم
وتجلياتها في بلد
كالعراق يتسم بالتعددية اللغوية والثقافية. كما ينبغي على المؤسسات اللغوية أن
تبذل جهودها لإحياء ما إندثر من لغات وما يتهدد منها بالإضمحلال، إضافة إلى فتح
مراكز لغوية علمية تعمل على تطوير وأصلاح لغتنا العربية ولغات الشعب العراقي
الأخرى بما ينسجم مع متطلبات التطور العلمي والتكنولوجي السريع في العالم. هذا
المنحى هو الذي يساعد على مد جسور المودة والتفاهم بين العراقيين، إضافة إلى
أنه يساعدهم على متابعة ما يتحقق عالمياً في الثقافة والعلوم كي ننقل بلادنا
إلى مستوى من المعرفة والثقافة يتناسب مع تاريخ هذا البلد العريق وطموحات
شعبه.
|