عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

النداء السابع لمجلس المطارنة الموارنة

وهنا نص النداء الذي تلاه أمين سر البطريركية المونسنيور يوسف طوق:
دأبنا منذ عام 2000 على إصدار نداء في مثل هذه الأيام، نتوجّه فيه إلى أبنائنا وإخواننا اللبنانيين، ونخصّ منهم المسيحيين، لنعرض معهم الحال الاجتماعية والسياسية التي كنا نواجهها جميعا، عاما بعد عام من تلك الاعوام الستة. وفي كل نداء، كنا نحاول أن نشدّد العزائم، ونبعث الأمل في نفوس اللبنانيين أمام ما يعترض سبيلهم، وخصوصا أمام الشعور باليأس من أنهم في بلدهم لا يملكون أمر تدبير شؤونه، وان هناك يداً فوق يدهم، تتصرّف بمقدّراته، وتأخذهم إلى حيث لا يريدون. ونحمد الله على أن هذا الشعور قد خفّ، بعدما زالت الهيمنة التي كانوا يشكون منها في معظمهم، وان يكن هناك من لا يزال يحنّ إلى تلك الأيام، يقيناً منه أنها قد تعيده إلى سابق عهده في السلطة.

أولا – المشــاكل الوطنــية :

1 - فقدان المشاركة الوطنية
أمّا الآن فنرى أن هناك مشاكل عدة تُشعرنا جميعا بأننا، رغم زوال الهيمنة، لا نزال نعاني ما لم نكن نتوقّعه من قضايا برزت على الساحة اللبنانية. وهي هذا الانقسام في الصفوف الذي أفرز اللبنانيين فئات متصارعة، تارة بطريقة خفيّة، وطورا بطريقة سافرة. وكل فئة تزعم أنها تريد الخير للبنان، ولكنها في الواقع الملموس، يبدو أنها تبتغي خيرها الفئوي أكثر ممّا تبتغي خير جميع اللبنانيين. وهذا مرض عضال يجب التخلصّ منه، إذا كنا نريد أن نُبقي بلدنا آمنا، مطمئنا، مزدهرا.
وتظهر اعراض هذا المرض في موقع السلطة الرئيسية، ولا سيّما في المرحلة الخطيرة التي يجتازها البلد، والتي فُقِد فيها التوازن السياسي الذي تقوم عليه صيغة العيش المشترك بحيث شعر المسيحيون خلالها بأن مشاركتهم في مصير البلد قد أصبحت هامشية، نتيجة غياب دور الرئاسة الأولى، التي يُعتبر مالؤها راعيا للحياة السياسية، وحَكَماً بين اللبنانيين. وكم يحزّ في نفوس اللبنانيين، وبخاصة المسيحيين الموارنة بينهم، تجاهل المسؤولين الدوليين وكل القيادات السياسية في البلد هذه الرئاسة، التي أفقد تجاهلها البلد ما يحتاج إليه من توازن سياسي يشكّل عامل اطمئنان أساسيا لكل اللبنانيين. وهذا وضع يفقد مع الزمن موقع الرئاسة الأولى ما لها من هيبة وفاعلية، وتقتضي معالجته.

2 - الأنــانية الفرديــة
تتحقّق المصلحة الوطنية العليا في إيلاء من يتحلّون بالجدارة مراكز المسؤولية في البلاد بحيث يعودون إلى قاعدة التنافس الديموقراطي عليها، بدل التسابق والتطاحـن عليها. لهذا على الموارنة الذين يعود إليهم منصب الرئاسة الأولى أن يلتزموا أصول التنافس عليه، شرط أن ينحصر في مرشّحين يتمتّعون بصفات ومؤهّلات وخبرات وتضحيات وقدرات معنوية وخلقية تؤهّلهم لهذا المنصب.
أجل ان الطموح صفة بشرية طبيعية مستحبة إنما شرطه أن يكون لصاحبه من الصفات ما يؤهّله لما يطمح إليه من مناصب، وخصوصا ألاّ يجعل من الرئاسة مطيّة يسهل على ذوي الغايات والمآرب- أشخاصا كانوا، أم فئات، أم بلدانا - استعمالها لمصالحهم الخاصة، وليس لمصلحة البلد وجميع أبنائه، والا يسخّر ما تتمتع به الرئاسة من حصانة لمآرب تبعد كل البعد عن مصالح اللبنانيين. الرئاسة منصب رفيع يقتضي ممّن يُدعى إلى تبوّئه الكفاية والخبرة والتجرد والتعالي عن الصغائر والتضحية في سبيل خدمة المواطنين.

3 – الأنانية الفئوية
وهذه الأنانية نراها تفتك بالفئات والطوائف، فاذا بها، بدل أن تتعاون وتتساند في سبيل اعمار الوطن وتعزيز شأنه، تتزاحم وتتصارع في سبيل ما يعود عليها وعلى أفرادها، بالخير والفائدة، وكأن الوطن ملك لها، ولا شريك لها فيه. وفي هذه الحال تقع الدولة ومؤسساتها ضحية هذا التطاحن. فاذا بزعيم كل من هذه الطوائف يسعى الى حشد اكبر عدد ممكن من أزلامه ومحاسيبه في الوظائف، والدوائر الحكومية فوق حاجة الدولة، سواء كان كفيا وأهلا لهذه الوظيفة، أم لم يكن، شرط أن يكون ابنا لطائفته، وان يدين بالولاء لمن عيّنه في وظيفته. وهذا مفسدة للأخلاق وللوظيفة وتدمير للمؤسسات الحكومية، وتعزيز للمحسوبيات.
ولبنان محسود على أنه وطن الأقليات التي تتعايش بأمان وسلام ومحبة، على اختلاف المذاهب والأديان، بحيث- على ما هو مفترض- تسعى كل منها الى الخير الوطني المشترك. فيما نرى أن العالم ينقسم فئات دينية ومذهبية تتصارع، ويوقع بعضها بالبعض الآخر، ويقوم بما رأيناه من تفجيرات تودي دفعة واحدة بمئات الناس الأبرياء، وتُشيع الخوف في بلدان كثيرة، كبيرها وصغيرها. وهذا ما يجعل الناس في خوف دائم على أمنهم، وراحتهم، وحياتهم. وان ما يغذّي هذه الحال من الخوف قيام جماعات إرهابية في بعض البلدان لا تتورّع عن قتل الأبرياء والمدنيين، وهي يطيب لها الانتحار بلوغا إلى مأرب مرغوب فيه، على ما يؤكّد بعض العارفين.

4 - التفـرّد بالقــرار
في لبنان ثماني عشرة طائفة، ولكل منها ما لسواها من حقوق وواجبات، على ما نصّ الدستور اللبناني. هذا من الوجهة القانونية، ولكن في الواقع، نرى أن هناك جماعات تتفرّد بالقرار فتأخذ البلد الى حيث لا يريد، وهناك تكون الطامة الكبرى. وهذا ما تكرّر غير مرة.
وكلما انفردت جماعة طائفية بموقف له عواقبه على البلد، جرّت الوبال عليه. والأمثلة كثيرة، وقد تكرّرت على الأقل أربع مرات في مدى نصف قرن في هذه الاعوام الأخيرة. أولا في عام 1958 ابتدأت سلسلةُ تفرّدِ بعض الجماعات بالقرارات الوطنية متنقّلة من توجّه جماعة مؤيدٍ لحلف بغداد ومشروع ايزنهاور، ممّا أدى إلى الانفجار الأول . وفي فترة لاحقة اتخذت غيرها موقفا اعتبرت معه المنظّمات الفلسطينية جيشا لها، وأباحت للكفاح الفلسطيني أرض لبنان على حساب سيادة الوطن، فكان الانفجار الثاني. وأخيرا انفردت جماعة لبنانية باستمرار حمل السلاح بعد تحرير معظم الجنوب عام 2000، وذلك خلافا لأحكام اتفاق الطائف المنعقد عام 1989. وتحوّلت تنظيما دينيا وعسكريا وسياسيا، فكانت الحرب في 12 تموز سنة 2006. وفي كل الحالات المذكورة كانت هناك دول، امُا كبرى، او اقليمية، تتدخل في الشأن اللبناني وتشدّ أزر هـذه أو تـلك من الطـوائف. وفي كل المرّات، وما تشعّب عنها من أحداث خطيرة، خلال أقلّ من نصف قرن، دفع الوطن من أمنه وازدهاره وراحة أبنائه ثمن تفرّد هذه الطائفة، أو تلك الفئة من اللبنانيين بالقرار، فيما القرار يعود إلى الدولة وحدها التي تمثّل جميع اللبنانيين. وهذا أمر متعارف عليه في جميع دول العالم، وخصوصا متى كان الأمر يتعلّق بالحرب والسلم.

ثانيا- ما نحـن فـيه اليـوم

1 - التضامـن
إن العاصفة التي مرّت بلبنان تركت فيه خرابا قد لا يتمكّن من اصلاحه الاّ بعد سنوات طويلة، وأضرارا قُدرّت بخمسةَ عشر مليار دولار أميركي وتزيد، ناهيكم بالخسائر في الأرواح، وبينها اطفال في عمر الورود. اضافة الى تشريد سكان قرى ومدن بكاملها، فتركها أبناؤهـا، وعندما قيّض لهم أن يعودوا اليها بعد ثلاثة وثلاثين يوما من المعارك الضارية وجدوا ما لا يقلّ عن خمسة عشر الف مسكن أصبحت أثرا بعد عين. ولا جسور طرق، ولا أسلاك هاتف وكهرباء، والبلد يخضع بكامله لحصار بحري وجوّي متواصل، مع ما في ذلك من استمرار اعتداء على سيادته، وشعور بالإذلال والمهانة.
ولكن ما يُدخل بعض العزاء الى قلوب اللبنانيين، انهم واجهوا العدوان والمحنة متكافلين متضامنين، واحتضن أبناء المناطق التي لم تُصب بقصف، إخوانهم اللبنانيين من أبناء كل الطوائف، فتجلّت الأخوّة اللبنانية بأبهى مظاهرها. وشعر المنكوبون بما يربطهم باخوانهم اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية، من روابط وطنية لا تقوى عليها التجارب والمحن. وقاسموهم الطعام والشراب والهموم والآمال. فأحسّوا جميعا بأنهم أبناءُ وطن واحد.
وهناك ظاهرة أخرى مشجّعة وهي أن بعض الموسرين بادر الى مساعدة المؤسسات الانسانية وإلى وتعهد دفع تكاليف الجسور المهدّمة كلا في منطقته. وهذه الظاهرة، التي تدلّ على سخاء قلب ويد، شملت تقريبا كل المناطق اللبنانية. هذا اضافة الى منظمات الاغاثة المحلية والعالمية التي اندفعت الى ارسال المساعدات الانسانية الى مختلف المناطق اللبنانية، واضافة أيضا إلى إقدام بعض الدول العربية الشقيقة والدول الصديقة على التبرّع بمبالغ كبيرة لإعادة بناء بعض المدن والقرى اللبنانية المهدّمة، ومدّ يد المساعدة لمؤازرة لبنان على النهوض. وهي تُشكر جزيل الشكر على هذه العاطفة الانسانية التي أظهرتها تجاه لبنان المنكوب.

 - اهتـزاز الثـقة
كان من نتائج هذه الحرب على لبنان ان العديد من اللبنانيين غادروا بلدهم، ومعظمهم من الشبان ذوي الكفايات العلمية، وفي القلب غصّة، وفي العين دمعة، ربما إلى غير عودة. وهم لا يمكنهم أن يواجهوا كل عشرة أعوام خراب ما بنته أيدي آبائهم، وضياع ما جنته جهودهم.


ثالثا : مما نصبو إليه

1 - ترميـم الثقة المفقودة
ان الوضع الحالي، على قساوته، لا يمكنه أن ينال من صلابة اللبنانيين. ومن راجع تاريخ لبنان، تبيّن له أن هذا البلد الصغير ما عاش أبناؤه يوما في راحة. فهم كانوا ولا يزالون موضع تجاذب جيرانهم وإخوانهم، ومحط طموحاتهم ومطامعهم. لقد استصغروه، واستهانوا به، وتجاهلوا قدره، ولكنهم ما لبثوا أن ندموا على ما فعلوا به. وكان لهم الجامعة، والمنتدى الأدبي، والمستشفى، والطاقة الخلاّقة، والابداع الفكري والشعري.
لذلك إنّا ندعو أبناءنا واخواننا اللبنانيين، ونخص منهم أبناء الجنوب الى تجديد ثقتهم ببلدهم الصغير الذي وُصف بأنه نموذج للديموقراطية والعيش المشترك بين مسلمين ومسيحيين، في أيامٍ فرز الإرهابُ فيها الناس مطارِدين ومطارَدين، يتعقّبون بعضهم بعضا خوفا من إيقاع الآخرين بالأولين، وهؤلاء باولئك. وقد جعلوا من هذا العالم جحيما، فيما أراده الله لهم مكان راحة وطمأنينة وسلام، في انتظار أن يدعوهم اليه ليشاطروه سعادته في العالم الآخر.

2 - مرجعية الدولة
الدولة وحدها تبعث الثقة والطمأنينة في نفوس المواطنين. والذين يسيّرون أمورها هم الذين ينتخبهم مجموع الشعب ليتولّوا التشريع، وسنّ القوانين، وإبرام المعاهدات، وما سوى ذلك من شؤون. والمجلس الاشتراعي، الذي يُفترض أن يكون نتيجة عمليات انتخابية تجرى وفق الاصول، يمثّل اتجاهات الشعب اللبناني على اختلافها وتنوّعها. ويجب أن يكون هناك تناوب على السلطة، وفق ما يراه الناخبون الأحرار. ويجب أن يرسخ في أذهان اللبنانيين أنه ليس لهم منقذ الا الدولة القوية العادلة التي يتناوب على تولّي السلطة فيها رجال ونساء ذوو كفاية أخلاقية وعلمية ووطنية، فوق كل شبهة. ليت الشعب اللبناني يقتنع بما انتهجه من تقدَّمَه من اللبنانيين في مستهلّ عهد الاستقلال، فكانت لهم كتلتان انضمّ إليهما كل اللبنانيين من جميع المذاهب والمشارب، وكانت كل منهما تتولّى الحكم بدورها، عندما تدعوها الظروف إلى تولّيه.
ونأمل في أن تكون هذه التجارب المتكرّرة قد علّمتنا أن ما يجب ان نجعل اعتمادنا عليه انما هو الدولة لا الدويلات. والدولة القائمة على أسس متينة بحيث تـكون مسؤولة عن جـميع أبنائها، وأن الاستقواء بالخارج، أيا يكن، يؤدّي حتما إلى خراب الداخل، والأمثلة كثيرة، وماثلة للعيان. وعلى هذه الدولة أن ترعى جميع أبنائها بالتساوي، فلا تفضّل أبناء طائفة على أخرى، فيُحفظ حقُ كل أبنائها وطوائفها في المشاركة الحقيقية الفاعلة في السلطة، وتُفتح أبواب التوظيف في إدارتها للجميع دون تمايز أو تفضيل. وهذا ما يُفضي إلى تفادي فتنة طائفية، وحمل المحرومين أو المنبوذين على الانكفاء أو الهجرة. فنناشد الدولة أن تأخذ مسؤوليتها كاملة تجاه جميع أبناء الجنوب المنكوب وتعمل على تنميته وإنشاء المشاريع الاقتصادية والتنموية التي تثبّت أبناءه في أرضه.
ونأمل أيضا في أن تتولّى الدولة توزيع ما يرد عليها من مساعدات من الدول والمؤسسات الانسانية، وذلك عبر الهيئات والمنظمات التي تخضع لمراقبتها، مع ما يستدعي ذلك من تفعيل لأجهزتها. وكل مساعدة يقوم بها تنظيم أو حزب أو هيئة خارج الدولة، او بمعزل عنها، قد يثير تساؤلات عديدة يطرحها اللبنانيون على نفوسهم وعلى سواهم من الناس.

خــاتـمة

أماّ وقد وصلنا الى ما نحن فيه، فنرى أنه أصبح من واجب اللبنانيين على اختلاف المذاهب والمشارب، أن يلتقوا على جامع مشترك، وهو الانكباب على وطنهم لبنان لتضميد جروحه، وإعادة بنائه، على قواعد ثابتة، بعيدا عن أحقاد ومطامع صغيرة. فلبنان قد خرج لتوّه من محنة قاسية جدّا جعلته محط اهتمام المجتمع الدولي الذي وقف بجانبه لمساعدته على وقف الاعتداء عليه، ووقف حمّام الدم الذي كان مسرحا لها. لبنان هذا يحتاج اليوم إلى الافادة من جوّ الاحتضان الدولي وتكريسه من خلال التزامه تنفيذ ما نصّت عليه القرارات الدولية، ولا سيّما أن تنفيذها سيؤدّي إلى استكمال تحرير أراضيه من الاحتلال، وبسط سيادته الوطنية على ترابه الوطني كاملاً، وبواسطة قواته الأمنية الشرعية، القادرة على حماية الحدود من أي اعتداء، وعلى حماية صيغة العيش المشترك، وبناء الدولة الديموقراطية القادرة والعادلة. الا أن تحقيق ذلك يقضي بأن يكون أبناؤه على مسافة واحدة من جميع جيرانه وأصدقائه، ولا يجوز لطوائفه أن تدين بالولاء لهذا البلد أو ذاك، بحجّة أن معظم أبنائه هم من أبناء دينها أو ملّتها.
وعلى لبنان أن يحترم دستوره وقوانينه وأعرافه، وان يعرف أن كل تجاوز للدستور يتسبّب له بخلل كبير، وكلَ امتهان للقوانين يوقعه في إرباك لا يعرف كيف يخرج منه، وكلَ خروج على الأعراف يجرّ عليه الوبال، ويخرق التوازن القائم بين أبنائه وطوائفه. ويجب أن تكون التجارب المتكرّرة، المتقاربة، قد علّمتنا جميعا أن سياسة الأحلاف تؤذينا أكثر ممّا تنفعنا، وبخاصة إذا تفرّدت بها طائفة دون الدولة. وأننا نريد أن نصادق جميع الناس بقدر ما يريدون مصادقتنا. وهكذا يستمرّ لبنان وطن المعرفة والديموقراطية والحرية والسلام".

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها