دعا الرئيس بشار الأسد المفكر
والمصلح السياسي السوري عبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) أو
(1851-1902) (والله أعلم) إلى مائدة إفطار فخمة في القصر
الجمهوري بحي المهاجرين بدمشق قبل أيام، وحضر هذا الإفطار
كبار المسئولين السوريين من كافة القطاعات. وكانت الحفاوة
بالغة بالمفكر التنويري الكواكبي. وكان الغرض من هذه الدعوة،
نفي تهمة الاستبداد والطغيان عن عهد الأسد،
الذي
اتصف بكثرة من اغتالهم وسجنهم وعذبهم نظام بشار الأسد خلال
السبع سنوات الماضية من حكمه، والذين فاقوا بعددهم ومكانتهم
السياسية في سوريا ولبنان خاصة من اغتالهم وسجنهم وعذبهم والده
الديكتاتور السابق.
كان على مائدة الأسد ما لذا وطاب من الأكلات الشامية المعروفة
في رمضان.
ورغم أن عبد الرحمن الكواكبي كان بطبعه مقلاً وبسيطاً في أكله
في رمضان وفي باقي الشهور الأخرى، ويفضل الفاكهة والخضار
الطازجة على الطعام المطبوخ، إلا أنه في هذه الليلة أكل بشراهة
كما لم يأكل من قبل، وتذكَّر طعام أمه التركية الدسم. وكان
الكواكبي طيلة مدة تناول طعام الإفطار يتحدث حديثاً هادئاً عن
الحرية والديمقراطية والاستبداد، الذي شغل عقله وفكره طيلة
حياته، ودفعه لكتابة كتابه الشهير 'طبائع الاستبداد ومصارع
الاستعباد'. وخلال هذه المأدبة العامرة دار الحديث التالي بين
الكواكبي والأسد:
سأل الأسد وهو يتأتيء، وتهتز ملعقة الطعام المليئة بالرز في
يده المرتجفة قائلاً:
- ماذا تقصد يا مولانا بقولك: أن المستبد يتخذ الممجدين
سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن، أو تحصيل
منافع عامـة، أو الدفاع عن الاستقلال؟
ورد الكواكبي بهدوء وهو يجيل النظر بتؤدة في من حوله على
المائدة من كبار المسئولين السوريين:
- سيادة الرئيس، الكلام واضح، ولا يحتاج
إلى شرح.
- ولكن هل تعتقد أنه ينطبق على كل زمان ومكان؟
ويعيد الكواكبي النظر في وجوه الحاضرين، وقد بدأت وجوههم تمتقع،
وقال:
- أظن ذلك. فهذه المقولة عابرة للتاريخ، وتنطبق على كل
مستبد. اقرأ التاريخ وسوف ترى ذلك واضحاً.
- أنا أقرأ التاريخ كل ليلة.
- ولكنك لا تنتفع بحوادثه على ما يبدو، كما كان يفعل جدك
الأكبر معاوية بن أبي سفيان.. الذي كان يضع كتاب التاريخ تحت
وسادة نومه، ورغم ذلك لم ينتفع، ولم يتعظ من التاريخ.
- وهو جدك أيضاً. ألم يقل بعض المؤرخين الذي أرّخوا
لحياتك، أن نسبك ينتهي بالسيدة فاطمة الزهراء والدة الحسين بن
علي، وبالتالي فأنت من أهل البيت، أو من قريش، كما هو معاوية؟
- حُطْ بالخُرج.. ثم إذا كان الأمر كذلك، فجدي معاوية
نسباً. أما معاوية فجدك سياسيةً واستبداداً وطغياناً.
وهنا امتقع وجه الأسد، وتلعثم قليلاً بالكلام، وأراد أن يدير
دفة الحكي جانباً، فسأل الكواكبي :
- ولكنك قولك ذاك يعني أن يكون الحاكم بلا أعوان وبلا
حاشية حوله؟
- النظام الديمقراطي يا مولاي لا يحتاج
إلى حاشية من المنتفعين والمهرجين الجهلة والأميين. ولكنه
يحتاج إلى خبراء وعلماء في شتى وجوه المعرفة. وأعوانه هم سواد
الشعب عامة.
وكان فنجان القهوة التي أُحضر للكواكبي قد برد، فنبهه الأسد
إلى شربه قائلاً:
- اشرب قهوتك يا سيدي؟
- أخشى أنه..
فقاطعه الأسد مبتسماً وقال:
- تقصد مسموم.. لا.. لا تخف، فأنا لست السلطان الأحمر عبد
الحميد الثاني، الذي يقال أنه دسَّ لك السم في فنجان القهوة.
- سامحه الله، لقد كان يخشى النقد والنقاد.
- نحن لا نفعل مثله.
- ولكنك تقتل أعداءك بما
هو أفظع..
- تقصد بالسيارات المفخخة..؟
يقهقه الأسد:
-هأ هأ هأ هأ..
- تماماً..
- لو عُرف التفخيخ في زمن السلطان عبد الحميد لفعل ذلك.
- ولكن السمَّ ارحم من التفخيخ..!
- كيف ذلك؟
- بالسم يموت المقصود بهدوء، أما في التفخيخ فيموت إرباً
وحرقاً وقطعاً متناثرة.. وفي السم يموت المقصود فقط، أما في
التفخيخ فيذهب معه عشرات الأبرياء.. لقد كان السلطان عبد
الحميد أرحم.. فعندما دسَّ لي
السم متُّ هادئاً ووحدي.. شكراً للسلطان المستبد العادل!
- ألسنا نحن بعادلين أيضاً؟
- نعم ولكنكم مستبدون أكثر منه، وعادلون أقل منه..
- هذه دعاية صهيونية – أمريكية ضدنا، ينشرها في العالم
العربي عملاء الصهيونية والاستعمار، ومن يطلقون على أنفسهم
الليبراليون الجدد.. كتّاب المارينز.. أبواق المحافظينالجدد..
البوشّيون.. اشرب قهوتك ولا تخف..
- (يرشف الكواكبي رشفة من فنجان القهوة وهو يقول) بسم
الله.. الإنسان يموت مرة واحدة، يا فخامة الرئيس.
- هذا صحيح.
- ولكن الحكام المستبدين يموتون ألف مرة.
- كيف ذلك؟
- من شدة خوفهم من انتقام عبيدهم.. يموتون كل ليلة.
- لا عبيد لدينا كما ترى.
- (مشيراً إلى من حوله من المسؤولين الرسميين) وما هؤلاء؟
- موظفون.. ومسؤولون رسميون..
- هل يجرؤن على نقدكم؟
- صدقاً لا..!
- (يلاحظ الكواكبي أن وجوه الحاضرين قد
|
رياض الترك
وزوجته أسماء الفيصل |
امتقعت أكثر، وهم يطأطئون رؤوسهم) إذن فهم عبيد!
- كيف ذلك؟
- العبد هو الذي لا يجرؤ على نقد سيده. الفرق بين السيد
والعبد.. هو الفرق بين الفاعل والمفعول به. إذا وجد الفاعل
والمفعول به في المجتمع كان المجتمع مجتمع عبيد. أما إذا كان
الكل فاعلاً فهو مجتمع أحرار. كل المجتمع أسياد فتلك هي
الديمقراطية. وإذا كان الفاعل فاعلاً والمفعول به متلقياً فقط،
يستقبل الفعل أياً كان، وينفذه دون نقاش، فتلك هي العبودية.
كذلك - وكما قلت في كتابي 'طبائع الاستبداد' - فإنه يستدل
على عراقة الأمة في الاستعباد أو الحرية باستنطاق لغتها هل هي
قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلا، أم أنها غنية في عبارات
الخضوع كالفارسية، وكتلك اللغة التي ليس فيها بين المتخاطبين
أنا وأنت بل سيدي وعبدكم.
- الحمد لله، نحنا هون
ما عنا عبارات التعظيم الاستبدادية.
- كيف ذلك، وأنت تلقّب بالقائد، وبطل المسيرة، وباني مجد
سوريا. ووالدك كان يلقب بالأب القائد، وسوريا الأسد، وبطل
العروبة.. الخ.
- نحن لم نلقب أنفسنا.. الشعب المخلص هو الذي لقبنا بهذه
الألقاب.
- خوفاً منكم.. ودفعاً لشركم..
- (يضحك بشار) هأ هأ هأ.. لا..لا..لا.. أنت غلطان يا عبد
الرحمن.. أنت ما زلت تعيش في عهد الطاغية السلطان عبد الحميد
الثاني ولم تخرج منه بعد.. تعال وعش بيننا وستعرف الحقيقة..
- (الكواكبي منتفضاً) لا.. لا.. لا أريد أن يكون مصيري
كمصير رياض الترك، وعارف دليلة، وميشيل كيلو، ورياض سيف، وكمال
اللبواني وغيرهم، وقبلهم وبعدهم..
- هؤلاء عملاء المخابرات الأمريكية.. أما أنت..
- (الكواكبي مقاطعاً) وأنا سأكون كذلك.. ما أسهل هذه
التهمة.. وكما قلت في كتابي السابق.. يبدو لي أن العرب قد
بدأوا ينالون المزيد من النقاط وشهادات الخبرة في مجال
الاستعباد عاماً بعد عام.. هل
قرأت 'طبائع الاستبداد' يا سيادة الرئيس..
- نعم قرأته عدة مرات.. وحفظته.
- وهل انتفعت به؟
- لا يصلح لهذا الزمان ولهذا الشعب..
- ولماذا؟
- أنتم المفكرون بينكم وبين الواقع العملي هوّة عميقة..
أنتم تعيشون في أبراج عاجية. ثم إن هذا الكتاب كتب ليس لنا
ولكن للسلطان الأحمر عبد الحميد الثاني كما تقول.
- وما الفرق.. الحال هو هو؟
- أتق الله يا رجل..!
- ماذا تغير.. بل أصبح الحال أسخم من ذي قبل؟
- أنظر كيف تعيش سوريا حالة من الاستقرار لم تشهدها من
قبل..
- إنه استقرار البركان، الذي
لا يلبث أن ينفجر. ألم تتعظوا مما حصل بالأمس مع صاحبكم في
النضال الحزبي القومي صدام حسين. ألا تخشون المصير نفسه، أم
أنتم واثقون أنكم خالدون على هذا الكرسي.
يدخل السكرتير الخاص للرئيس الأسد، ويهمس في أذن الرئيس،
ويخرج على عجل. ينظر الرئيس إلى ساعته ويقول:
- عفواً سأضطر لتودعيكم، لدي اجتماع عاجل مع سفير كوريا
الشمالية.
ينهض الأسد، ويصافح عبد الرحمن الكواكبي وهو يقول :
- خلّينا نشوفك دايماً.. أستاذنا.
- إن شاء الله، إن سلمنا وعشنا.
- يطوّل عمرك..
وينصرف الرئيس. ويصافح الكواكبي الحضور من المسئولين مودعاً،
ويغادر المكان. وبعد دقائق يُسمع انفجارٌ مدوٍ. ويقول الرئيس
الأسد في سرّه وهو يهزُّ برأسه.
- الله يجازيك يا آصف شوكت، أما قلت لك أجّل الموضوع شوي،
وبلاش في رمضان.. الله يرحمك يا عبد الرحمن.
إيلاف