اقرأ المزيد...
التجربة العراقية
والواقع السياسي الجديد
عمران سلمان،
20 فبراير 2005
كنت قد كتبت في مقال سابق عن الانتخابات العراقية ووعدت بالحديث عن مدلولاتها
وآثارها المتوقعة على المنطقة العربية والبيئة السياسية فيها. والواقع أنه
منذ تاريخ إجراء هذه الانتخابات في نهاية الشهر الماضي، وحتى إعلان النتائج
قبل أيام سال حبر كثير، حتى ليخال للإنسان بأن من كتبوا عنها وفيها لم يتركوا
زيادة لمستزيد. لكن الواقع أن الكثير هو الذي لم يكتب بعد.
من بين هذا الكثير، ما أفرزته النتائج التي كانت متوقعة في الغالب، من إعادة
رسم للخارطة السياسية والديمغرافية في هذا البلد وامتدادات ذلك إقليميا، بما
فيه التأثير الهائل على البنية السياسية والفكرية والنفسية العربية.
إن فوز الأحزاب والشخصيات الشيعية كان متوقعا، بحكم التفوق العددي، لكن مجىء
الأكراد في المرتبة الثانية كان عامل دهشة للمراقبين.
والآن لنتأمل الصورة التالية: عراق يكون الرئيس فيه شخصية كردية ورئاسة
الحكومة في يد شخصية شيعية، ورئاسة البرلمان في يد شخصية عربية سنية، ممن لا
علاقة لها بإرهابيي الفلوجة والزرقاوي والجماعات المتحالفة معها.
مثل هذا العراق لم نعرفه من قبل، وقد يستغرق الأمر بالبعض فترة من الزمن كي
يعترفوا بهذا الواقع الجديد.
ولكن أليس هذا هو الواقع؟ أليست هذه التركيبة، مع بعض التفاصيل الهامشية، هي
التمثيل الحقيقي للعراق؟
لقد غيبت حقائق العراق هذه 80 سنة بواسطة الدجل السياسي والثقافي تارة
وبالحديد والنار تارة أخرى، لكنها لم تستطع أن تلغي الواقع.
لماذا لا نقول بأن صورة العراق التي كنا نراها كانت مزيفة وإن الصورة الحالية
هي الحقيقية، والتي أفرزتها الانتخابات عبر الإرادة الحرة للمواطنين؟
ترى كم توجد من صور حقيقية وأخرى مزيفة في هذا الوطن الممتد من المحيط إلى
الخليج والذي يسمى مجازا "الوطن العربي"؟
هل العراق بلد عربي؟ وماذا عن الأكراد والتركمان والأقليات القومية الأخرى،
إنهم ليسوا عربا, فلماذا يفرض عليهم تعريف لا يمثل حقيقة هويتهم القومية؟
هل العراق بلد إسلامي؟ وماذا عن المسيحيين والصابئة واليزيديين وباقي أتباع
الأديان الأخرى؟
أليس من الأنسب أن يقال بأن العراق بلد تسكنه غالبية من العرب ومن المسلمين،
وتوجد به أقليات غير عربية وغير إسلامية متفاوتة في الحجم والعدد.
إن الدين مثل القومية لا يصح أن تطلق على الدول أو الحكومات، لأنها شأن خاص
بالأفراد. فيقال فلان مسلم أو مسيحي أو يهودي أو بوذي أو هندوسي أو
عربي أو كردي..
إلخ.
ولكن الدولة لا دين أو قومية لها، لأن وظيفة الدولة هي خدمة جميع مواطنيها،
بغض النظر عن أديانهم أو أصولهم القومية. إنها بطبيعتها محايدة شأنها في ذلك
شأن أي جهاز خدماتي.
من شـأن الدولة أن تجبي الضرائب من المواطنين وأن تلزمهم باحترام الدستور
والقوانين العامة (وكافة العقود الموقعة فيما بينهم)، لكن ليس من بين وظائفها
إجبارهم على أداء التزاماتهم الدينية، أو تحديد من منهم المستقيم دينيا ومن
هو غير المستقيم، وليس من واجبها أن تميز بينهم بسبب ذلك، فهذه مسألة متروكة
لكل شخص يحددها بنفسه،
فالدين شأن خاص بين الإنسان وخالقه، ولا علاقة للدولة به.
الدول "العربية" وبعض الدول "الإسلامية" هي الوحيدة في هذا العالم التي لا
تزال تفعل ذلك، والسبب أنها لم تمر بمرحلة الحداثة. إنها لا تزال تعيش في كنف
الأشكال البدائية للتنظيم الاجتماعي، من قبيلة وقومية وطائفة وعرق.
إن العراق يوشك أن يخرج من هذه الخانة (إذا قدر لتجربته النجاح) ويلتحق بخانة
الدول المتحضرة والحديثة التي هي دول جميع مواطنيها، بغض النظر عن
انتماءاتهم.
لكن أهمية ما يحدث في العراق اليوم، بما في ذلك الانتخابات التي جرت في أواخر
الشهر الماضي, أنه يفتح باب النقاش في المنطقة كلها، حول أمور وقضايا اعتبرت
حتى الآن من باب المحرمات أو المسلمات أو البديهيات التي لا تجوز مناقشتها أو
الحديث عنها.
ومن المهم أن يبدأ الناس في المنطقة في مناقشة هذه المسائل بصوت مسموع،
كي يتعرفوا على أنفسهم
بصورة أفضل
من صياغة هويتهم بوعي ورضى كاملين، لعل وعسى يكون في ذلك دواء ناجع للداء
العضال والمزمن الذي ابتليت به شعوب هذه المنطقة.
|