الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

اقرأ المزيد...

جذر الاستبداد في البيئة العربية (1)

 

 

 

 

 

 

عمران سلمان، 3 أغسطس 2004

يُنظر إلى الاستبداد أو القمع في البيئة العربية غالبا بوصفه من الخصائص الطبيعية للسلطة أو النظام السياسي السائد، دون السؤال مع ذلك عن منشأه الأصلي وعن علاقته بالمجتمع وقيمه السائدة.

وتوضع المسألة على النحو التالي: قلة تمارس الاستبداد وتحترفه لخدمة الإبقاء على مواقعها ومصالحها، وفي مقابلها كثرة متسامحة هي ضحية لهذا الاستبداد الذي هو ليس من طبيعتها أو قيمها!

ومن ثم تصبح النتيجة المنطقية، أنه بمجرد انتزاع قدرة القلة على الاستبداد أو منعها من ممارسته فإن الاستبداد سوف ينتهي، ليعود التسامح والحرية فارشين ظلالهما على الجميع.

فهل هذا هو ما يحدث فعلا على أرض الواقع؟ هل أن القضاء على الاستبداد، كما يصور باعتباره نزعة خاصة بشريحة أو فئة معينة، يقضي على الاستبداد في المجتمع؟

الواقع يقول إن الاستبداد لا ينتهي بمجرد تغيير السلطة الحاكمة. فغالبا ما يلجأ الحكام الجدد أنفسهم إلى ممارسة الاستبداد. وفي الدول العربية والإسلامية الكثير من النماذج، التي تمارس الاستبداد، رغم أنها وصلت إلى مواقع السلطة باسم القضاء عليه ومقاومته.

والملاحظ أيضا أن التصفية أو العقاب لا يقع فحسب على المعارضين أو الأباعد، وإنما يشمل كذلك رفاق الدرب وحلفاء الأمس القريب، ممن قاوموا الاستبداد القديم، فإذا بهم يقعون ضحية للاستبداد الجديد، الذي هو من صنع أيديهم هذه المرة.

ولتفسير كل ذلك أو تحليله، لا تكفي العودة للنظريات القديمة حول استبداد القلة وخضوع الكثرة، فهي كما رأينا لا تقدم لنا تفسيرا مقنعا أو حقيقيا. لهذا اقترح أن نذهب أعمق من ذلك، ونبحث عما نريد في المجتمع نفسه، الذي تجري فيه هذه العملية.

إن الاستبداد ظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى، وكونها مرتبطة بالسلطة لا يعني أنها مقتصرة على الجانب السياسي فحسب. ينبغي النظر إلى السلطة هنا بمعناها الأوسع، والتي من الممكن أن تشمل مؤسسات الحكم والعمل والتعليم والمنزل والعمل السياسي أو الأهلي.

ففي جميع هذه المؤسسات توجد سلطة، متمثلة في شخص أو مجموعة قليلة من الأشخاص، تسيطر بهذا الشكل أو ذاك، على باقي المجموع، وإذا كان ثمة استبداد في أحد هذه المستويات فهو يعني أنه موجود فيها جميعا لأنها كلها مجرد حلقات في سلسلة واحدة.

إن الإنسان الذي عانى من الاستبداد في المنزل أو المدرسة على سبيل المثال، قد يشيع هو نفسه هذا السلوك في التعامل مع من يصادفهم في أي من مواقع الحياة من حوله. والإنسان الذي يعاني من استبداد حكومته، فإنه ينقل هذا الاستبداد إلى محيطه الصغير في المنزل أو العمل. والمسألة هنا ليست فيما إذا كنت أريد أن اصبح مستبدا أو لا أريد. إن هذا السلوك في الغالب يحدث بصورة لا واعية ويترجم نفسه على هيئة أفعال وسلوكيات وقيم وآراء وأفكار تصب كلها في مجرى الاستبداد الواسع والعميق. ولو أنك سألت شخصا مستبدا عن سبب استبداده، لنفى عن نفسه هذه الصفة بشدة ولا أجابك مستغربا: وأين هو الاستبداد؟

إن مثل هذا الشخص قد لا يعرف أنه مستبد، وهو يسمع عن الاستبداد كما يسمع باقي الناس وربما يشاركهم في ذمه وذم أهله، رغم أنه قد يمارسه في كل لحظة من لحظات حياته. والمشكلة ليست في أن الناس قد يختلفون حول طبيعة الاستبداد وتصنيفه وتسميته، المشكلة ليست في المصطلح فمن السهل تشخيص الاستبداد والاستدلال عليه، على الأقل في أبرز حالاته شيوعا ووضوحا، أي في الحالات التي يمسك فيها شخص ما بزمام الأمور كلها ولا يسمح لأحد آخر بأن يكون له دور أو مشاركة.

وإنما المشكلة هي في أن مثل هذا السلوك هو كما أسلفنا بطبيعته سلوكا غير واع، فالإنسان يقوم به تحت تأثير عدد متنوع وكبير من العوامل والدوافع غير الظاهرة في اغلب الأحيان.

إن الطريقة التي يلجأ إليها معظم الآباء في مجتمعاتنا مثلا للسيطرة على أبنائهم وبناتهم، تحمل في طياتها مضمونا استبداديا، غير أن الآباء لا يعرفون، وقد لا يهتمون كثيرا، إن قيل لهم بأن ما يفعلونه يسمى استبدادا أم تربية صالحة.

بالنسبة إليهم فإن هذه هي الطريقة الصحيحة (المتوارثة والمتعارف عليها) لضبط من يقعون تحت مسئوليتهم. إنهم يتصرفون من وحي الحاجة للتناغم والانسجام مع البيئة المحيطة والتي ترى بدورها أن هذه هي أفضل طريقة للمحافظة على الأبناء والبنات من الانحراف والضياع.

في هذه الحالة نلحظ نوعا من الاستبداد المعترف به والمزكى من جانب المجتمع، رغم أنه كما قد نرى لاحقا إنما يمهد الأرضية أو النفسية لأنواع مختلفة من الاستبداد في مواقع أخرى من الحياة.

إن المسألة الجوهرية هنا هي أن انتقال الاستبداد من جيل لآخر، أو وقوعه من مستوى على مستوى آخر، إنما يتم في إطار من التوافق الاجتماعي المبدئي. وخلال هذه العملية لا ينظر للاستبداد بوصفه عملا شائنا ومرفوضا من حيث المبدأ أيا كانت الطريقة التي يمارس بها أو الجهة التي تمارسه أو يمارس ضدها، وإنما انطلاقا من قرب أو بعد الموقع الذي يحتله كل إنسان منا في سلم هذه العملية، بمعنى أن الاستبداد يصبح عملا جيدا وضروريا من جانب من يمارسونه، لكنه يتحول إلى اعتداء وعدوان من جانب الذين يمارس ضدهم.  والملفت انه لو تبدلت مواقع الطرفين، وأصبح كل منهما في مكان الآخر، لما تغير الحكم في الحالتين.

ويمكن أن نرى ذلك واضحا في المواقف السياسية، حيث يتم أحيانا تشجيع قتل إنسان هنا بينما يدان قتل إنسان هناك، رغم تشابه الظروف والملابسات والأسباب، ويصبح مطلبا ما، شرعيا وملحا في بلد، بينما يغدو هذا المطلب نفسه مرفوضا وزائدا عن الحاجة في بلد آخر. ويغدو تحريك قضية صغيرة وعادية في بلد ما مسألة حياة أو موت بينما يتم التغاضي عن قضايا أخطر واكثر جوهرية في بلد ثاني، وهكذا.

إن هذا الخلل الأخلاقي في التعامل أو النظر للاستبداد هو أحد الأسباب الحقيقية في استمراره وبقائه في بيئتنا العربية، وربما في بيئات أخرى أيضا، سواء على المستوى السياسي أو المستويات الأخرى.


جذر الاستبداد في البيئة العربية (2)

مشكلة الاستبداد في البيئة العربية أنه جزء من القيم والثقافة والتربية، وليس أحد مظاهرها السياسية فحسب. وهو يحتل بصورة غير مدركة مساحة كبيرة في اللاوعي، تظهر على هيئة تصرفات سلوكية وأفعال وممارسات متنوعة، بدءا من مؤسسة المنزل والمدرسة وانتهاء بمؤسسة الحكم.

ولن يفيد أن نقتطع جزءا من هنا أو جزءا من هناك، كي نرمي عليه وحوله تركة الاستبداد الثقيلة، وإنما من الواجب أن نعالج هذه التركة على جميع المستويات وضمن مختلف مؤسسات المجتمع. وهذا جهد كبير ليس هذا المقال مخصصا من أجله. غير أنني انتهز هذه الفرصة كي أثير أحد جوانب الاستبداد وربما أكثرها إثارة للجدل، ألا وهو الجانب المتعلق بما بات يعرف بالمبادئ أو القضايا الكبرى أو ثوابت الأمة.. إلى غير ذلك من المسميات.

يحدث كثيرا وربما دائما أيضا أن يشهر أحدهم (فردا كان أم جماعة) سيف هذه الثوابت في وجوه من يتصور أنهم يتعدون عليها هجوما أو تشكيكا أو تناولا نقديا. ويحدث أحيانا أن ينجح إنسان ما بالإفلات من قبضة (ثوابت الأمة) هذه، فيعمل قلمه أو مشرطه في الجسد الحي نقدا وتفكيكا وتركيبا لكل ما يعتقد أنه بحاجة لذلك.

لكنه إذ يفعل ذلك، فهو يغامر بأن يصبح في نظر منتقديه متمردا وخارجا على الإجماع. وبالنسبة لمتعهدي (ثوابت الأمة) فإن كل نقاش أو تفكير أو بحث أو نشاط عقلي، ينبغي أن يظل دون سقف هذه الثوابت وأن لا يقترب منها قليلا أو كثيرا، بينما يسمح له بما دون ذلك، أي بما يسهم في ترسيخها وتثبيتها أو فليكن الصمت الذي هو من ذهب. فما قصة هذه الثوابت وكيف تتحدد ومن يحددها؟

بالنسبة للإنسان العربي العادي قد يعتبر ثوابتا كل ما له علاقة بالدين أو بالأخلاق مثلا. أما بالنسبة للإنسان المسيس فهي تمتد بالإضافة لذلك كي تشمل قضايا أوسع، مثل الموقف من إسرائيل، الموقف من الهوية، الموقف من الآخر الحضاري أو السياسي.. الخ.

وهذا أمر يمكن تفهمه بالطبع، فمن حق كل إنسان أن يتخذ لنفسه ثوابتا يدافع عنها، غير أن المشكلة هي أن هذه الثوابت تعامل دائما في العقلية العربية بصيغة الجمع، أي أن فردا أو جماعة ما يمكنها مثلا أن تحدد ثوابت باقي الناس وتتحدث عنها بهذه الصفة. فهذا الفرد لا يقول مثلا ثوابتي (أو ثوابتنا نحن المجموعة) وإنما يقول: هذه ثوابت الأمة!

وبالطبع حين يسمع الإنسان هذه العبارة فإنه يصبح أمام خيارين، إما أن يرضخ لمحدثه ويوافقه على ما يريد، وإما أنه يصبح خارج الأمة وثوابتها. بمعنى آخر فإنه بمجرد أن تذكر هذه الثوابت فإن الحوار يجب أن ينتهي، لأنه خلاف ذلك لا يعود ثمة معنى للحوار.

وهذا نوع من الاستبداد عميق ومركب رغم أنه للأسف قد لا يكون ملاحظا في الكثير من الأحيان. فهو من جهة يضع سقفا للنشاط الفكري الإنساني يستحيل تجاوزه، كما يمنح ممارسيه الحق في إقامة حدوده وتحديد طبيعته وبصورة تقطع الطريق على أي إمكانية للمساءلة أو الاستفهام. ومن الجهة الأخرى، فإن هذا الاستبداد يحظى بالقبول والتسليم به دون مناقشة من جانب أغلبية الناس، رغم أن صيغته وطبيعته تبقى غامضة. وهو من الجهة الثالثة سلاح ماض في يد من يستخدمه وحيث لا يعود المتحدث مطالبا بتشخيص هذه الثوابت أو تعريفها، وإنما يكفيه التلويح بها.

وفي الحالات العامة فإن انشداد الإنسان العادي إلى منظومة (أي منظومة) من الثوابت أو المفاهيم أو القيم الجماعية أمر طبيعي ومفهوم، سيما في ظل الحاجة إلى الشعور بالأمان والاتزان النفسي والثقافي والتماهي إلى حد التناغم والانسجام مع الجماعة البشرية.

لكن المشكلة أنه في التطبيق العملي أو في حياة الناس العادية، لا ترى هذه الصرامة أو الدقة في تحديد (الثوابت) التي يجري الحديث عنها. بل أنك لترى أن كل شخص أو مجموعة أو فئة اجتماعية تتصرف من وحي ثوابتها الخاصة بصورة يستعصي معها تصور وجود ثوابت جماعية أو موحدة.

 فالأنظمة السياسية مثلا تعتبر أن ثوابتها هي عدم منازعتها على السلطة أو معارضتها بطريقة تهدد وجودها أو مصالحها، ولا فرق عندها إن جاءت هذه المعارضة من جانب المتدينين أو غير المتدينين. وفئات التجار أو رجال الأعمال أو الأثرياء عموما، تعتبر أن ثوابتها هي عدم الإضرار بمصلحتها أو تعطيل تجارتها أو التسبب بخسارتها ولا فرق بالنسبة لها من أين يأتي هؤلاء المتسببون أو إلى أي دين أو جنسية ينتسبون.

وفئات رجال الدين أيضا لديهم ثوابتهم الخاصة بهم والتي هي عدم المساس بوضعهم أو مواقعهم الدينية والاجتماعية. فلا يجوز مثلا تجريدهم من امتيازاتهم الحالية عبر طرح قانون للأحوال الشخصية أو توحيد القضاء في إطار مؤسسة قضائية مدنية أو إيكال الشئون الدينية إلى مواطنين مدنيين في الدولة.

وبالنسبة لهؤلاء فإن أعداءهم يمكن أن يكونوا رجال دين مثلهم ولكن ينافسونهم على امتيازاتهم ويطمحون للوصول إلى مواقعهم، وقد يكونون من غير رجال الدين أو من عامة الناس. وكذلك الأمر مع الفئات الاجتماعية الأخرى.

 بل لعلي اذهب أبعد من ذلك، فأقول إنه فيما خص التيارات السياسية والفكرية التي عرفتها الساحة العربية فإن تيار القوميين كان يعتبر أن ثوابته هي الوحدة العربية التي لا يجب أن تمس في حين أن التيار الماركسي كان يعتبر الاشتراكية من ثوابته وكذلك الأمر مع الليبراليين الذين يعتبرون أن حرية السوق أو الملكية الخاصة هي من أهم ثوابتهم. أما جماعات الإرهاب الإسلامي، فهم يعتبرون أن تسييس الدين أو تديين السياسة والمجتمع أحد ثوابتهم المقدسة التي لا ينبغي لأحد أن يقترب منها أو يشكك فيها.

وهكذا فإن كلا من هذه الفئات والجماعات تلجأ إلى رفع واستخدام سلاح (ثوابت الأمة) حينما تتعرض مصالحها هي للخطر، فتشهره في وجه معارضيها.

وبدلا من أن تستخدم أدواتها وحججها المباشرة التي تعبر عن حقيقة وضعها ومصالحها، فإنها تلجأ إلى (ثوابت الأمة) تطلب منها الحماية والمنافحة، فتتحول هذه الثوابت في واقع الأمر إلى أداة للاستبداد الفردي والجماعي.

إننا هنا لسنا بصدد انتقاد الثوابت (أيا كانت) أو المتمسكين بها، فمن حق أي إنسان أن تكون له ثوابته الخاصة التي يعتز بها، وإنما انتقادنا موجه إلى استخدامها أو توظيفها بصورة تجعلها اقرب إلى أحزمة الحديد والأسمنت التي تمنع وصول الماء والهواء إلى الإنسان. ما ننتقده هو أن تتحول هذه الثوابت إلى حجج وذرائع لقمع كل حرية رأي وتفكير أو قول أو حياة، وبحيث تكون كالسيف المسلط الذي لا يفلت منه أحد.

لأنه في نهاية المطاف فإن هؤلاء الذين يستخدمون (الثوابت) ليسوا أكثر من بشر، لا يختلفون عن غيرهم في شيء ولا يزيدونهم قيمة، ولكنهم مع ذلك يرمون إلى اصطناع امتيازات وحقوق غير موجودة، يبررون بها استبدادهم، وهذا ما لا ينبغي السماح لهم بالنجاح فيه أبدا.

 


جذر الاستبداد في البيئة العربية (3)

لماذا يستبد الإنسان بأخيه الإنسان؟ وهل الاستبداد أمر محتوم لا مفر منه ولا دخل للإنسان أو إرادة فيه؟ ينبغي الاعتراف بأن مثل هذه الأسئلة رغم سهولة طرحها غير أن الإجابة عنها ليست بنفس السهولة.

لقد تعود الناس مثلا على الإجابة بالرفض أو القبول، لدى سؤالهم عما يحبون أو يكرهون. وفي حالة الاستبداد بالذات لا أتصور أن هناك من سيفرح أو سيقبل بأن يصفه الآخرون بأنه مستبد، الطبيعي أن يبادر للإجابة بصورة تنفي عنه هذه الصفة بشدة، ومن هنا فإن مثل هذا الإنسان سيجيبك ردا عن الأسئلة التي ذكرناها أعلاه بالقول: إن الإنسان يستبد بأخيه الإنسان بسبب الطمع والغرور والأنانية، وسيضيف أيضا: كلا إن الاستبداد ليس أمرا محتوما، والإنسان يملك كل الإرادة في أن يمتنع عن هذا السلوك.

هذه إجابة كما نرى تقليدية، وستجدها بسهولة، عزيزي القارئ، على لسان كل من قد تسألهم عن هذا الموضوع.

أنا من جهتي ارفض وآمل أن يرفض القارئ مثلي أيضا أن تقنعه مثل هذه الإجابة، لأنه لو كان صحيحا أن كل إنسان يمقت الاستبداد ويرفضه لكان الاستبداد قد اختفى منذ زمن بعيد.

ولو كان صحيحا أن الاستبداد مجرد رغبة تجتاح الإنسان ويمارسها بكامل إرادته ووعيه، لكان يمكن السيطرة عليها بطريقة من الطرق، ولأمكن عزل الأشخاص الذين يمارسونها وتخليص المجتمع منهم.

لقد أطاحت الشعوب والمجتمعات على مر تاريخها الطويل بعشرات الآلاف من الأنظمة والشخصيات المستبدة، وقتل الكثير من المستبدين على مر هذا التاريخ نفسه. ومع ذلك لا يزال الاستبداد موجودا في الكثير من المجتمعات ومن بينها المجتمعات العربية والإسلامية.

وبالقدر نفسه فإن آلاف الكتب التاريخية والمعاصرة تزدحم بالنصائح والأفكار الحاثة على التسامح ونبذ الاستبداد ومقاومته ومع ذلك فإنها لم تنجح في منع الناس من الاستبداد أو اجتثاث جذوره. الأمر إذن هو اكبر واعمق من تلك الإجابات التقليدية التي تحدثنا عنها أعلاه، والتي أرادت أن توهمنا (ربما بحسن نية) بأن القضاء على الاستبداد يمكن أن يتم عن طريق الأخلاق والتربية الفاضلة وسلوك الطريق القويم والاقتداء بالسلف الصالح.

أعتقد شخصيا أن الاستبداد جزء لا يتجزأ من طبيعة النفس البشرية. إنه ليس أمرا طارئا بالنسبة لها وإنما هو جزء مقيم فيها. لكن شدته أو ضعفه، اتساعه أو صغر نطاقه لا تعودان إلى الرغبة المجردة للإنسان، وإنما إلى عوامل الضبط والتوازن التي ينشئها المجتمع نفسه، للحد من نزعات الاستبداد. وبطبيعة الحال فإن هذا الضبط ينبغي أن يتجه (أو هكذا يفترض) إلى الأماكن الأخطر والأكثر قدرة على ممارسة هذا الاستبداد. أي إلى جماعات النفوذ والقوة في المجتمع. وهذه تشمل الأحزاب أو الفئات الحاكمة، وتشمل مالكي الثروة والنفوذ الاقتصادي، كما تشمل بعض الفئات التي تمارس نفوذا تقليديا مثل زعماء المجموعات الاثنية أو القبلية.

وفي الأنظمة الديمقراطية وحيث تكثر الرقابة على السلطة التنفيذية وكل ما يتعلق بها وحيث توجد وسائل لا حصر لها للمقاومة السلمية فإن الاستبداد يتضاءل. لكن حتى في ظل هذه الأنظمة لا يمكن القضاء تماما على نزعة الاستبداد، يمكن القول إن بعضا من هذه النزعة يظل موجودا بهذا القدر أو ذاك.

إن وسائل المجتمع الديمقراطي قد تنجح في كبح جماح الاستبداد أو السيطرة عليه، وربما جعلته في حده الأدنى الذي لا يؤثر على سلامة هذا المجتمع أو مصالح أفراده.

لكن المشكلة التي تواجه علماء الاجتماع وكذلك علماء النفس هي كيف يمكن السيطرة على الاستبداد داخل الفرد نفسه، وكيف يمكن منع هذه النزعة من فرض سيطرتها داخل التكوينات الاجتماعية الصغيرة، مثل المنزل، مؤسسات التعليم، السجون، الأحزاب السياسية.. الخ.

اعتقد أن المسألة هنا أعمق، فدولة القانون تستطيع في العادة أن تمنع أو تحجم على الأقل استبداد الأفراد أو الجماعات تجاه بعضها البعض، وربما لجأت إلى اتخاذ تدابير رادعة لفرض سلطتها وهيبتها. لكن كيف يمكن لهذه الدولة أن تمنع الاستبداد الذي يقع خارج نطاق سيطرتها أو إطار فعلها المباشر، كما هو الحال مع الاستبداد الذي يمارس في البيوت من قبل بعض أفراد الأسرة ضد بعضها الآخر، أو الاستبداد الذي يمارسه بعض أرباب العمل في منشآتهم أو بعض القيادات السياسية في أحزابها ومؤسساتها.. الخ!

بعض الدول لجأت وتلجأ إلى استخدام وسائل متنوعة لحل هذه المشكلة، بما في ذلك تطوير التشريعات والنظم القانونية، مع ضمان تدخل فاعل للأجهزة القضائية والأمنية، لحماية الضحايا، وبعضها الآخر يركز جهوده على الجانب التربوي والتعليمي لغرس قيم التسامح ونبذ الحقد والعنصرية، مدعومة بترسانة هائلة من القوانين المختلفة والعقوبات الرادعة.

لكن يجدر القول إن هذه الإجراءات رغم أنها قد تنجح في الكثير من الأحيان في الحد من ظاهرة الاستبداد وتقليصها إلى أدنى درجة ممكنة، لكن من المشكوك فيه أن تنجح في اجتثاثها تماما.

إن الخلاص من الاستبداد مثله هنا مثل تحقيق العدل أو إقامة المساواة أو تأمين الحرية المطلقة، جميعها أحلام بشرية رافقت الإنسان منذ أمد بعيد، لكنه لم يستطيع في أي يوم (أو في أي مكان) أن يصل إليها كما يتخيلها أو يريدها مجردة وخالصة.

من الواضح أن قناعة الكثير من البشر المعاصرين باتت تتجه ليس نحو الخلاص النهائي من الاستبداد وإنما إبقاؤه ضمن حدوده الدنيا وتوفير الضمانات والحماية لكل من يطلبها في مواجهته. إن مثل هذه المعالجة يمكنها أن توضح لنا مقدار عمق المشكلة التي تعاني منها المجتمعات العربية، التي تفتقد بصورة حادة إلى أي وسائل عملية لمنع الاستبداد أو التخفيف من سطوته، بل أن الاستبداد في البيئة العربية لا يستند فحسب إلى قيم وعادات موروثة وأفكار مجتمعية تبرره، ولا يستند فقط إلى مؤسسات وأجهزة توفر له الحماية والاستمرارية، وإنما أيضا وقبل كل شيء هو يستند إلى قبول اجتماعي عام. أي أن الاستبداد هنا ليس مجرد إجراء تمارسه هذه السلطة السياسية أو تلك، وإن كان هذا أشدها وأخطرها، ولكنه إجراء تمارسه جميع السلطات في المجتمع، على تنوعها، وبصورة تجعل منه أحد ثوابتها وقيمها الرئيسية. وهنا تكمن مدى خطورته وصعوبة السيطرة عليه في آن واحد.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها