اقرأ المزيد...
مشاكل الأقليات في العالم العربي.. أزمات
مؤجلة!
عمران سلمان،
26 يوليو 2004
يقع موضوع
الأقليات (الدينية أو العرقية) ضمن قائمة المسكوت عنه من الموضوعات في
البلدان العربية. ولفترة طويلة ظل الحديث عن الأقليات وخاصة الدينية يحوطه
قدر كبير من التحفظ مع سعي واضح للتقليل من أهميته أو نفي أي وجود له قائم
بذاته.
وفي أفضل
الأحوال جرى الاعتراف بالمشكلة، لكنها اعتبرت مستوردة، تحركها أصابع أجنبية
وتستغلها لأهدافها الخاصة. ولم يتح أبداً فتح نقاش أو حوار واسع وجدي (على
مستوى الدولة أو المجتمع العربي الواحد) حول موضوع الأقليات.
وحتى في
الحالات التي طرحت فيها مشاكل لها علاقة بالأقليات نفسها على الجميع بصورة
مدوية وعنيفة، فإن النظام الرسمي العربي، ومعه عدد لا يستهان به من النخب
الدينية والسياسية والمتنفذة، سارع إلى ترحيلها إلى أسباب وعوامل خارجية.
ونحن نرى ذلك
اليوم في مشكلة الأقباط في مصر والأمازيغ في الجزائر، مثلما نراه في مناطق
عربية أخرى، الأكراد في العراق وسوريا، والمسيحيين في جنوب السودان، بالإضافة
إلى الأقليات الطائفية على اختلاف في الدرجات والطبيعة.
فما حجم مشكلة
الأقليات في العالم العربي؟ وهل يمكن الموافقة على القول إنها اختراع خارجي؟
ثم لماذا يعرض النظام العربي عن الاعتراف بهذه المشكلة ولا يبادر إلى حلها
بنفسه بدلاً من تركها تتسع إلى نطاق لا يستطيع السيطرة عليها فيه؟
حقيقة المشكلة
إن وجود
الأقليات في المنطقة العربية هو حقيقة قديمة، أولاً بسبب اتساع رقعة المنطقة
واتصالها بحواف عوالم مختلفة (آسيا وأفريقيا وأجزاء من أوروبا) من جهة، ومن
جهة أخرى قدم السكنى في المنطقة العربية وتعرضها لهجرات متنوعة على مر
السنين. فمنذ قدم التاريخ سكنت هذه المنطقة أقوام عديدة، اندثر بعضها وبعضها
اندمج وانصهر مع غيره مولداً أقواماً جديدة.
وولّدت
الإمبراطورية الإسلامية نفسها عدداً كبيراً من الطوائف الدينية، كما أغرت
عدداً من الأجناس بالإقامة في المنطقة أو جلبهم عنوة إليها.
لكن على عكس
الدولة في الغرب التي نجحت (بعد حروب وتطاحن على مدى قرون) في التحول إلى
دولة قومية، صهرت الأجناس والطوائف بداخلها، فإن الدولة العربية التي لم تر
النور إلا حديثاً، لم يتسن لها ذلك، وحافظت على طابعها الفسيفسائي.
وما إن انبلجت
مرحلة الاستقلال الوطني، وبداية تشكل الدولة الوطنية حتى انتقلت إليها مجموعة
الأقليات، ككتل اجتماعية بامتداداتها التاريخية والثقافية.
ولما كانت
الدولة العربية الحديثة، ولما كان الواقع العربي نفسه يقوم على أسس قبلية
وطائفية ومناطقية، سواء على مستوى أنظمة الحكم أو توزيع القوة والنفوذ داخل
المجتمع، فإنه من الطبيعي أن تشعر الأقليات بالحاجة إلى حماية نفسها وتأمين
مصادر قوتها الخاصة. ومن الطبيعي أن تبدأ في التفتيش عن حلول لمشكلتها، شأنها
في ذلك شأن باقي أطراف المجتمع المحرومة.
وليس من باب
الصدف أبداً أن نرى في الكثير من فترات التاريخ السياسي العربي أن أبناء
الأقليات ينخرطون بكثافة في الحركات المعارضة، أو ينشأ تحالف طبيعي بين هذه
الأقليات (ككتل اجتماعية) مع القبائل أو الطوائف أو القوميات أو أبناء
المناطق المستبعدة من الحكم والحقوق.
لقد اعترفت
الدولة العربية عموماً بالوجود الاجتماعي للأقليات على أراضيها، مثلما اعترفت
بهم إلى حد ما على صعيد التاريخ، لكنها رفضت الاعتراف بهم سياسياً وثقافيا.
لقد انتهجت
معظم الدول العربية (وفي معظم الفترات) أسلوب الإلغاء والتهميش ولم تعترف
بالأقليات كشركاء ومساوين في الوطن، وفي الإرث الثقافي والتاريخي المشترك
بصورة جدية، وإنما مجرد مخلفات لحضارات أو أقوام سابقين تكرّم عليهم المجتمع
فحماهم ولم يتركهم نهباً للانقراض والموت، ومن ثم عليهم أن يشكروا الأغلبية
ويعترفوا لها بالجميل بدلاً من أن يطالبوا بحقوقهم!
ومن يقرأ
كتب التاريخ العربية يجد أن تاريخ الأقليات يعرض فيها باقتضاب، ودائماً عبر
ربطها بأشخاص معينين أو أحداث معينة وليس كوجود اجتماعي وثقافي وديني قائم
بذاته.
يمكن القول
إذن: إن مشكلة الأقليات لها علاقة وثيقة بمشكلة الحكم في الدول العربية وهذا
أحد مظاهر وجود هذه المشكلة. وثمة مظاهر أخرى تدور حول الحقوق الثقافية
والدينية، وأنه ما لم تحل الدولة العربية قضية الحكم والمواطنة، فإنه سيغدو
من الصعب إيجاد حلول لمشكلة الأقليات.
أسباب عدم الاعتراف
يرى كثير من
الحكومات العربية أن الاعتراف السياسي بالأقليات وما يترتب عليه من حقوق
وواجبات، يستهدف تقسيم الدولة والمجتمع، كما يعرضها إلى مطالبات قد تمس
سيادتها، مثل الحكم الذاتي وتقرير المصير وما شابه.
ولهذا السبب
تم وضع مشكلة الأقليات في مصاف القضايا المصيرية، وفي إطار مواجهة الاستعمار
والقوى الخارجية، ونظر إليها كمحاولة من جانب هذه القوى للنيل من هذه الدولة
أو تلك.
وبمعنى آخر
وضعت مشكلة الأقليات على نفس مستوى المشاكل الكبرى التي واجهت الدولة العربية
الحديثة. ولذلك ووجه أي نقاش يتصل بهذه المشكلة (من قريب أو بعيد) بقمع لا
هوادة فيه. كما وصمت الأدبيات أو الأشخاص الذين تجرأوا بالحديث أو إثارة هذه
المشكلة بأنهم خونة يسعون
للنيل من أمن
وسلامة المجتمع.
بيد أن الجهود
الكبيرة التي بذلتها الدولة العربية في هذا المجال، لم تحل مع ذلك دون تفجر
قضية الأقليات بين حين وآخر. كما أن النقاش حولها وإن لم يظهر على السطح فإنه
لم يتلاش.
وكان من نتائج
عدم الاعتراف بالمشكلة أن تم إبعادها لعقود عن أي إمكانية للحل بصورة حقيقية
وجادة، ومن ثم دفعها إلى اتخاذ أشكال سياسية ومجتمعية أكثر تعقيداً.
وضع دولي جديد
حتى نهاية عقد
الثمانينيات لم يكن ينظر لمشاكل الأقليات بصورة منفصلة عن أية مشكلة داخلية
أخرى تخص هذه الدولة أو تلك.
لكن
انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وبروز قضايا الأقليات إلى السطح، سواء في
جمهوريات هذا الاتحاد (أرمينيا، أذربيجان، الشيشان، جورجيا) أو تلك التي تدور
في فلكه (جمهورية يوغسلافيا السابقة) دفع المجتمع الدولي إلى التفكير بجدية
في وضع حلول لهذه القضية.
وتقوم هذه
الحلول على أساس الحق الطبيعي للأقليات في المطالبة بحقوقها التي تكفلها لها
القوانين والمواثيق الدولية، مع الرفض غير المشروط لاستخدام القوة أو التلويح
بها ضد هذه الأقليات.
وفي جميع هذه
الحالات اعتماد الحوار والتفاهم لغة وحيدة في التعامل.
وكانت أبرز
هذه التطبيقات وأوضحها في كوسوفو، حيث تم شن حملة عسكرية جوية ضد صربيا
لدفعها لقبول انفصال الإقليم الذي تسكنه غالبية ألبانية.
وعلى إثر
الحلول التي طبقت في يوغسلافيا السابقة، تشجعت بعض الأقليات في العالم (تيمور
الشرقية مثلاً) على المطالبة بحق تقرير المصير. وهكذا أصبح اليوم ثمة إرث
سياسي وقانوني وعسكري للتعامل مع هذه القضايا، ليس من السهل التشكيك فيه أو
اختراقه.
ومن هنا باتت
قضية الأقليات في العالم العربي ترتدي أهمية جديدة، بالنظر إلى أن المجتمع
الدولي بات يتفهم بصورة أكثر جدية مطالب ومشاكل الأقليات ويرفض استخدام القوة
ضدها من جانب الدول المسيطرة.
وزادت
الولايات المتحدة في الطنبور نغمة، بحيث تكفلت بإجراء تقييمات خاصة بها، على
نحو ما يدل على ذلك «تقرير الحالة الدينية» في العالم، الذي اقترحته إدارة
الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ووافق عليه بحماس مجلسا الكونغرس
الأمريكي.
وبات هذا
التقرير يرصد جميع الحالات في العالم، التي تندرج أو يمكن أن تندرج في إطار
الاضطهاد الديني وحرمان الأقليات من حقوقها الدينية والمجتمعية. ويتوقع أن
يجري التوسع مستقبلاً في هذا التقييم، وربما تم تبنيه من جانب الأمم المتحدة
كأحد المعايير التي تحدد مدى أحقية النظر في هذه القضية أو تلك.
إن التطورات
الجديدة التي رافقت قضية الأقليات طوال عقد التسعينيات، ربما تتيح فرصة لبعض
الدول العربية لولوج سلمي وآمن في طرح مشاكل أقلياتها على بساط البحث والنقاش
الجاد والتعاطي الحقيقي. لكن المؤشرات الحالية لا تبدو مشجعة، فلا تزال مشاعر
الخوف المرضي وترحيل المشكلة نحو الخارج والحديث عن الأصابع الأجنبية
والمؤامرات هي السائدة للأسف.
|