مقالات
سابقة للكاتب
باحث وكاتب سوري
نبيل
فياض
الأزمة المركبّة: العقليّة اليهوديّة والتعامل معها!
قبل سنوات كتبت
بضع مقالات، عبر صديقي اللدود شتيفان دانه الذي شاركني تأليف كتاب
نيتشه والدين، في الصحيفة الألمانيّة القوميّة
jünge Freiheit
! وظلّ الوضع
جيّداً حتى نشرت مقالة عن تفاهة إنشاء دولة على أسس ميثولوجيّة. انفتحت
بوابات جهنم العداء للساميّة. راحت الاتهامات تطاردني، كظلّي، من كلّ حدب
وصوب: رغم أن دافعي الأوّل والأخير للكتابة في الصحيفة الألمانيّة كان
اعتقادي بأنها نيتشويّة الأيديولوجيا والتفكير.
لا أنكر أنني لم
أستطع قط كراهيّة اليهود: بل كان تعاطفي معهم، بمعنى ما، غير عادي. يشهد
على ذلك ولعي المبكر جدّاً بالمفكّرين والروائيين والفلاسفة اليهود: كان
أوّل كتاب نشرته هو التحوّل، الذي يحكي عن مسألة اغتراب الذات عند
كافكا، الروائي الفيلسوف التشيكي اليهودي الذي كان واحداً من أهم الذين
تناولوا اغتراب النفس البشرية في مواجهة الآخر؛ وكانت أول مقالة
نشرتها في حياتي في صحيفة الشعب اللبنانيّة عن دور للممثلة فانيسا ردغريف،
تناولت فيه مسألة الهولوكست. من ناحية أخرى، فإن سبينوزا هو الفيلسوف الأول
الذي توقفت عنده بنوع من التروي في مرحلة النضج. بغض النظر عن ولعي المبكر
أيضاً بهاينه ومارسيل بروست [ يهودي الأم ] وتوماس مان حتى عموس عوز. لكن
هذا لا يلغي اعتباري أن المفكّرين اليهود شيء واليهوديّة شيء آخر؛ بل إن
هؤلاء المفكّرين أنفسهم هم أكثر من توقف عند هذا التناقض الملفت بين
اليهوديّة كبنية ماورائية ميثولوجيّة شرائعيّة تكاملت بذاتها عبر مئات
السنين من ناحية، وبين المفكّرين الليبراليين العلمانيين اليهود من ناحية
أخرى: وليس آخرهم اللامع إيلان بابيه.
رغم تقديرنا
للأركيولوجيين الإسرائيليين الذين يبذلون كلّ ما في وسعهم لمحاولة خلق
توثيق أركيولوجي خارجي حيادي لنصوص الكتاب المقدّس العبراني خاصّة أسفار
التكوين والخروج والملوك، فإن تلك المحاولات رغم الإمكانيّات العلميّة
الماديّة الهائلة المكرّسة لها لا تزال سرابيّة اللون والطعم. فعلى سبيل
المثال، فشلت جهود الباحثين الإسرائيليين في الحصول على أية وثائقيّة
خارجيّة لمسألة التيه السينائي المفترض أثناء الاحتلال العبراني لشبه
الجزيرة المصريّة. من ناحية أخرى، فرغم تعليل ييغال يادين القلب بإمكانية
فرصة سعيدة تكشف عن أرشيف سليمان المفترض أنه مختف في مكان ما، كما كانت
الحال في قمران، فإن ييغال يادين مات دون أن يعرف تلك الفرصة السعيدة، رغم
المحاولات غير العاديّة.
مشكلة
الإسرائيليين اليوم، تشبه في اعتقادي أزمة البعثيين، رغم عدائية الطرفين:
ثمة مؤسسة موجودة معقّدة الهيكليّة لكنها تفتقد الأيديولوجيا المنطقية غير
المستهلكة. كل ما في هذا العالم من بنى ذات طابع فكري تفترض مقدّماً وجود
أيديولوجيا معيّنة تنسج حولها البنى: عند الإسرائيليين، كالبعثيين، الوضع
مقلوب بالكامل. البنى موجودة والأيديولوجيا مفقودة. وإذا ما توخيّنا الدقة،
كان ثمة أيديولوجيا موجودة ثبت بالمطلق أنها غير صحيحة؛ والآن بعد أن
تكوّنت البنى التنظيميّة ثمة حاجة قاتلة لأيديولوجيا تحلّ محلّ تلك التي
انتهى مفعولها. لقد قامت إسرائيل أصلاً على فرضيّات توراتيّة تزعم وجود
شخوص وحوادث يمكن وصل الحاضر الإسرائيلي بها كماض قومي. الآن ثبت بالورقة
والقلم أن ما اعتقد الإسرائيليّون أنه ماض قومي لم يكن أكثر من فانتازيا
تاريخيّة: مع ملاحظة أن أكثر من انتقد الكتاب المقدّس العبراني كان اليهود
أنفسهم. فعلى سبيل المثال، أثبتت علوم "الميثولوجيا ـ الدين" المقارنة أن
قصص خلق العالم والعائلة الأولى والطوفان مأخوذة بتصرّف عن الأساطير
السوريّة القديمة؛ مثلما أثبتت علوم الأنثروبولوجيا والجيولوجيا والفلك
وغيرها استحالة أن تكون تلك الأساطير حقيقية. إذن، الفرق شاسع بين ما هو
حقيقي وما يعتقد أنه حقيقي: وهنا جوهر كلّ الأديان.
الوثيقة
"الدينيّة ـ الميثولوجيّة" والوثيقة التاريخيّة:
يفترض أن ثمة
فرقاً بين هبوط آدم [ مجهول اسم العائلة ] من الجنّة المفترضة ونزول توني
آرمسترونغ الموثّق على سطح القمر. مع ذلك، فاليهوديّة الأرثوذكسيّة وما
فقسّته من عقائد وأديان تتعامل مع آدم هبوطه مجهول الزمن من الجنّة مجهولة
الجغرافيا بطريقة مجهولة التفاصيل والكيفيّة بالطريقة الموثوقة ذاتها التي
تتعامل بها مع نزول آرمسترونغ الموثّق صوتاً وصورة: بل ثمة من يشكّك في
الثاني ويؤّكد الأوّل وكأنه كان في "هاند ـ باغ" حواء حين طردها الله
وزوجها من جنته. إن أبسط ما يمكن أن نطلبه كعلمانيين من الجماعات الأصوليّة
بكافة أصنافها، هو أن لا يتعاملوا مع حدث أسطوري كشق موسى للبحر بالثقة
ذاتها التي يتعاملون بها مع تفاصيل زواجات سارة نتنياهو؛ أن لا يتعاملوا مع
حدث ماورائي كتجسّد الله في مريم العذراء بالروح ذاتها التي يقاربون بها
دقائق مقتل جون كنيدي؛ وأن لا يبحثوا في قصة لا عقلانيّة اسمها الإسراء
والمعراج بالروح العلميّة ذاتها التي يطبقونها على محاولتهم فهم الأسباب
الموضوعيّة التي حولت لبنان إلى سوق نخاسة سعودي من نوعيّة مبتذلة. التفريق
بين الوثيقة "الدينيّة ـ الميثولوجيّة" التي لا دليل على صحتها غير إيمان
صاحبها بها والوثيقة التاريخيّة المدعمّة داخليّاً وخارجيّاً بما يكفي
للتيقن المطلق من صحتها، هو المرحلة الأبسط في أية مقاربة عقليّة نقدية
لمطلق دين: واليهود الأرثوذكس والمسلمون لم يصلوا إلى هذه المرحلة حتى
الآن. لكن، كما تقول التقارير غير المبسّطة، فاليهود الأرثوذكس أضحوا قلّة
قليلة في عالم اليهوديّة المشتت: خاصّة مع تسلّل القوميين والعلمانيين
واللادينيين والإصلاحيين والمحافظين اليهود إلى لبّ ذلك العالم
وسحبهم البساط كلّه تقريباً من تحت أقدام الذين احتكروه منذ البداية
الأولى.
إذن، باستثناء
قلّة أرثوذكسيّة لا تذكر، ففي اعتقادنا أن غالبيّة اليهود تعاني من أزمة
"عقائديّة ـ أخلاقيّة" حيال التبرير المنطقي لإخراج جماعة من أرضها لأن
جماعة أخرى تعتقد أن هذه الأرض لها بموجب وثائق ثبت بالدليل المطلق أنها
غير واقعيّة. وفي اعتقادنا أيضاً أن ظاهرة ما بعد الصهيونيّة المفرطة في
أهميتها كتجسيد معرفي لعرف جلد الذات يهوديّاً، إضافة إلى ظاهرة المؤرخيّن
الجدد وإلى حد ما جماعة ما بعد اليهوديّة، هي الدليل الأوضح على عمق
المأساة الأخلاقيّة التي تعيشها الانتلجنسيا الإسرائيليّة. [ راجع هنا
مقالات مجلة أزور
الإسرائيليّة أو مقاربة الباحثة الهامّة فرمسر لموضوع ما بعد الصهيونيّة ]!
وفي اعتقادنا أن الجنوح العنيف الشاروني نحو اليمين ليس أكثر من محاولة
مؤقتة لجذب الانتباه عن تلك الظواهر المعبّرة عن التأزم الأخلاقي
الإسرائيلي. ولا نعتقد أن باستطاعة شارون ومعاونيه من الجماعات الإسلاميّة
المتطرّفة، الذين لا همّ لهم سوى الحفاظ على المشاعر في أقصى حالات توتّرها
لمنع العقل عن التسلّل إلى الفعل الأبسط، خلق أيديولوجيا بديلة لتلك التي
أثبت الأركيولوجيون الإسرائيليون، قبل غيرهم، عقمها: خاصّة وأن نسف أسفار
التوراة الأولى لا يطال اليهود وحدهم.
المفضّلون على
العالمين:
إذا كان اليهود
الأرثوذكس يعتقدون أنهم شعب الله المختار، فالمسلمون الملتزمون يعتقدون أن
بني إسرائيل مفضّلون على العالمين. وإذا كانت الغالبيّة العقلانيّة
اليهوديّة قد أخرجت قصص التوراة من حجرة الوثائق التاريخيّة ورمتها على رفّ
الأساطير، فإن الغالبيّة الإسلاميّة المعادية للعقل أنزلت تلك الخرافات من
على الرفّ ونفضت عنها التراب والعناكب لتنقلها إلى خزانة الحقائق المطلقة
التي لا بدّ من "قتل" كلّ من يقترب منها أو يصوّرها نقديّاً أو منطقيّاً.
وفي سوريّا نتذكّر جيداً كيف استغلّ البوطي تلفزيون دولتنا التقدميّة
الوطنيّة الواعيّة ليتحفنا بخرافات سرقها أئمته عن كعب الأحبار ووهب بن
منبّه حول سليمان وهدهده وابراهيم وكبشه وموسى وعجله.. حتى آخر قائمة
الأنبياء والحيوانات الشهيرة؛ وكيف حين احتج الفلسطينيون على هذا التسويق
الغبي لأكاذيب التلمود من على الشاشة الرسميّة بادر بوطينا العظيم إلى
تكفيرهم " قشّة لفّة ".
حتى الآن لا أفهم
هذه العدائيّة بين اليهود المتطرّفين والمسلمين اللاعقلانيين؟؟
حتى الآن لا أفهم
كيف يستطيع من يؤمن بأن بني إسرائيل ـ علميّاً: لا وجود لهذا المصطلح
ـ مفضّلون على العالمين أن يحاربهم دون تناقض مع الذات؟؟
وفي نهاية الأمر،
الزمن وحده هو المسؤول عن شعور الشيخ المسلم أنه نقيض الحاخام اليهودي مع
أنه النتيجة الطبيعيّة له؟؟!!
هنالك أزمة
مركبّة يعيشها التطرّف اليهودي واللاعقلانيّة الإسلاميّة على حدّ سواء: وما
هذا الكم المريع من العنف والقتل والدماء إلا محاولة لصرف الذات عن التفكير
بشروخها الأخلاقيّة.
24 فبراير
|