مقالات
سابقة للكاتب
باحث وكاتب سوري
نبيل
فياض
من يشتري
هويتي السورية ؟!
لست وطنيّاً ولا قوميّاً، ولا علاقة لي بالعروبة المزعجة، كأنفلونزا
الصيف، إلا عبر اللغة التي اضطررت آسفاً لتبنيّها، كلغة أولى غير
أخيرة، بسبب ظرف جغرافي-اجتماعي؛ لست بعثيّاً ولا ناصريّاً، ولا أكره
شيئاً في العالم أكثر من شعار " وحدة، حريّة، اشتراكيّة"، بكل
ترتيباته الغبيّة، عفلقيّة كانت أم إتحاد-إشتراكيّة؛ والشعار الشقيق
الآخر الأكثر استلاباً لكلّ ما اسمه عقل أو منطق: "أمّة عربيّة
واحدة، ذات رسالة خالدة".
لا علاقة لي على الإطلاق بكلّ ما أسموه انتماء: حتى عندما قلت مرّة،
انتمائي إلى اللاانتماء هو بحد ذاته انتماء، فأنا أنتمي إلى
اللاانتماء، أجده اليوم ليس أكثر من تفلسف صبياني ساذج، على الطريقة
البعثيّة، هدفه لفت النظر عبر غباء أرعن! لأن واحداً وأربعين عاماً
من الحكم البعثي كافية لإشعار المرء بأنه لا ينتمي حتى إلى
اللاانتماء.
لست معادياً لأحد، ولا صديقاً لأحد؛ لا أكره الإسرائيليين، ولا أحب
السوريين؛ لا تضايقني نواه ولا يثير صباح فخري إعجابي؛ لا أقرأ عموس
عوز، ولا أعرف يوسف ادريس؛ فقدت حبي لإيلان بابيه، الذي ضربه معتوهو
اليمين الإسرائيلي، لأنه وصف طالباً تراجع عن رسالة ماجستير حول
مجزرة "الطنطورة"، بالجبن؛ ولم أستطع يوماً أن أعجب بأي باحث في
سوريّا التقدّم والاشتراكيّة، خاصّة نخبة الجهابذة في متحف علي عقلة
عرسان الشمعي، المسمّى "اتحاد الكتّاب العرب".
لست من جماعة المجتمع المدني "المشبوهة"، ولا أعرف شيئاً عن الجبهة
الوطنيّة التقدميّة للغاية غير أنّ زوجة أحد رؤساء أحزابها، الذي لا
أعرف اسمه، والذي يمتدح حزب البعث أكثر من صلاح الدبين البيطار، تمّ
توزيرها في موقع "أنثوي"، وأن رئيسة حزب آخر مغرق في تقدّميته -
ينقسم كلّ موسم كالباراميسيوم، ليس على أساس أيديولوجي طبعاً - تصرّ،
بديمقراطيّة أبهرت إنغمار برغمان، على أنه لا يوجد أفضل من ابنها
ممثّلاً لحزبها الطليعي في البرلمان السوري، المنتخب بديمقراطيّة
سويديّة!
في رحلاتي القصيرة النادرة في سوريّا، خاصّة الساحل الملوّث، وجدت
مفهوماً للوطنيّة يختلف تماماً عمّا درّسونا إياه في كتاب التربيّة
الوطنيّة في المرحلة الإعداديّة أو كتاب القوميّة في المرحلة
الثانويّة: فمن القصور الأسطوريّة لمجمل أشخاص يحمل ثلاثة أرباعهم
الاسم ـ الكارت بلانش، "علي" ـ أدركت أن الوطنيّة، وفق القاموس
السوري غير المعلن، تعني أن يأكل الجوع الشعب، بكلّ طوائفه، في سبيل
الوطن؛ وأن يأكل المسئولون مستقبلنا، بعد أن أنهوا ماضينا وحاضرنا،
في سبيل الوطن أيضاً.
أعلن فشلي الأصرح بأني لم أفهم إصرار هؤلاء على الإمساك بمجد
الوطنيّة من طرفيه: فهم، من ناحية، قمعوا الناس حتى ملّهم القمع،
وسرقوا أموال الناس، من ناحية أخرى، حتى لم يبق ما يمكن سرقته. ـ مع
ذلك، فتفسيرينا المغرق في سذاجته يقول، إن هؤلاء العليين، لم يكن
باستطاعتهم، دون قمع، أن يسرقوا بتلك العلنيّة الصريحة.
وكلّه تحت رايات الوطنيّة المضمّخة بدماء الشهداء. إذن، فاللصوصيّة
والقمع وجهان لعملة واحدة.
وكيف أستطيع تعريف التبعّث؟ دون إطناب بعثي ممل، التبعّث صرعة لا
تنقصها البذور الماورائيّة، تقدّم نفسها للغير وكأنها ديانة أرضيّة
تقفل الزمان والمكان، لا يطالها الباطل لا من فوق ولا من تحت، لكن لا
تقوم لها قائمة في ظلّ وجود مطلق آخر منافس. التبعّث هو العملة التي
وجهاها اللصوصيّة والقمع: هل نحن بحاجة إلى أدلّة أكثر من احتكار
المتبعّثين لخيرات الوطن وشركاته ومطاعمه وفنادقه؟ هل نحن بحاجة
لزيارة الصبّورة ويعفور وبصيرة وبانياس وكازينو دي ليبان؟ هل نحن
مطالبون بتقديم أدلّة غير المرتديلا الفاسدة والوزارات الفاسدة
والنفوس الفاسدة؟ هل نحن بحاجة لاستعراض التاريخ السرّي لمعارضي
التبعّث؟ هل نحن بحاجة للمرور على القيادة القطريّة " الحكيمة "،
بأعضائها الذين لا يوجد فيهم من يبدّي أقاربه على الغير، لأنه يؤمن
بأنه دون الرجل المناسب في المكان المناسب، لا يمكن للوطن أن يقفز
نحو الأمام؟ هل نحن بحاجة للتساؤل عن مغزى وجود قيادة قوميّة، غير
البحث عن توظيف من الدرجة الأولى، والقوميّة صارت الاسم الآخر
لاحتلال الآخر عند اللبنانيين والكويتيين وسكان الجنوب السوداني
ودارفور وكردفان وساقية الذهب..؟ هل نحن بحاجة لأن نورد اسم ذاك
البعثي، من قيادتنا القطريّة الحكيمة، الذي يضع بسطاره، منذ أيام
مينا موحّد القطرين، على أعناق المثقفين، ليفرز من هو وطني عمن هو
عميل - بمنظوره الذي لا يعرف معنى "باطل"؟
الانتماء، كما تعلّمناه من أرض الواقع، يعني أن تنتمي لعشيرة؛ أن
تنتمي لطائفة؛ أن تنتمي لدين؛ أن تنتمي لمنطقة؛ والأفضل: أن تنتمي
لأحدهم! أمّا أن تنتمي لوطن، لإنسانيّة، لعالم مفتوح على المستقبل:
فتلك موضة استهلكها الرفاق ورموها في مرحاض الماضي. لا شيء يمكنه
حمايتك غير الانتماء إلى كتلة لا علاقة لها بالحضارة: فهؤلاء الرفاق،
الذين أضجروا مسامعنا بأحاديثهم القاتلة عن التقدّم وذيوله، لا يسكن
تحت جلودهم غير أكثر أنواع غرائز القبيلة بدائيّة؛ هؤلاء الرفاق
الذين امتصوا دماءنا على مدى عقود مؤلمة، لا يشبهون، وهم يهلّلون
لحضارة الغد المأمول، غير قبيلة في مجاهل الغابات من أكلة لحوم
البشر، ترقص حول غريب مقيّد إلى عمود خشبي نصف مهتريء!
ليست لنا طائفة تحمينا؛ والعشيرة مفهوم هو الأكثر اغتراباً على
أنفاسنا: كيف يمكن أن نواصل العيش في بلد حيث اليد العليا للطائفة أو
العشيرة؟ وأكرّر من جديد، أنّ المصيبة أنّه ضمن التقاسم الأبعد عن
الإنسانيّة للمدجنة السوريّة، أدخل بعض الضباط من العلويين مفهوماً
أكثر تخلّفاً من مفهوم الطائفة، بالمعنى الديني: وأعني بذلك العشيرة،
ضمن الطائفة الواحدة. فصرت تسمع، للمرّة الأولى في التاريخ السوري
الحديث، أنّ هذا المنصب مخصّص للنميلاتية، وهذا المنصب محسوب على
الرشاونة، أما ذاك الموقع الأمني فمعروف أنه للمتاورة.. وهكذا.
وكلّها، لمن لا يعلم، أسماء لعشائر علويّة: مع العلم أن العلويين
العاديين، كانوا قد أوشكوا على نسيان التقسيمات العشائريّة، لكن
بعضهم كان على استعداد لبعث الروح في أية مومياء منتنة ما دامت تساعد
في تحقيق بعض مصالح آنيّة.
هل نحن بالفعل نعادي إسرائيل؟ شخصيّاً، لدي صورة لمسئول سوري سابق ـ
بحمد الله ـ من جريدة فرنسيّة قديمة، أي في عزّ الصراع، والصورة
معنونة كما يلي: فضيحة في دمشق. والمسئول السوري السابق، الذي كنّا
نتوقّع منه أن يكون نبوخذ نصّر العرب، يقف في الصورة التاريخيّة
إياها، في حمّام سباحة دمشقي عام، يعني على عينك يا تاجر، مع فتاة
إيكوسيّة يزعم كاتب المقالة أنها يهوديّة وعميلة لإسرائيل. ومثل ذلك
أكثر من أن يعد أو يحصى. والجميل أنّه إذا حاول واحدنا أن يحتج على
تصرّفات من هذا القبيل، لا أسهل من شهر سيف العمالة لإسرائيل في
وجهه.
مع ذلك، رغم أننا لا نطيق رائحة "تساحيا ها ـ نغبي"، الوزير
الإسرائيلي السابق، والإرهابي الدائم، الذي تصدّى ذات يوم لعزمي
بشارة في الجامعة العبريّة بالجنازير؛ ابن الإرهابيّة غئولا كوهين من
أحد أزواجها، التي أسّست يوماً لحزب اسمه "ها ـ تحيا" [يمكن ترجمة
التسمية إلى "البعث"]، لا يشبه شيئاً في العالم غير غئولا ذاتها؛
إلاّ أننا بالمقابل لا نستطيع سوى الإعجاب برجل من نمط إيلان ليفي،
السكرتير السابق للمفكّر والإنسان، يسرائيل شاحاك، الذي عرّى
الصهيونيّة أمام الرأي العام العالمي، وطبعاً الإسرائيلي! رغم أنّنا
لا نستطيع أن نسمع، دون قرف أو بداية تقيؤ، باسم أريئل شارون،
الإرهابي المتأصّل، إلاّ أننا لا يمكن غير أن ننحني أمام يهودي آخر،
اسمه ليني برينر، صاحب الكتاب العلامة الفارقة، الصهيونيّة في عصر
الديكتاتوريّات، الذي يحتاج الباحثون العرب إلى ألف سنة ضوئيّة كي
ينتجوا فصلاً من فصوله!
صحيح أن إرهاب ليمور ليفنات، وسمعتها التي سارت بها ركبان سارة
نتنياهو، التي بدورها اضطر زوجها، بيبي، للضغط على أحد أصدقائها
السابقين لمنعه بديمقراطيّة عن إصدار كتاب بحق السيّدة الأولى وقتها؛
لكن روعة ليئة تسيحل كافية لموازنة بركان الغلّ الذي يتصاعد، دون
هدوء، من صدري الوزيرة الحاليّة وزوجة رئيس الوزراء السابق.
كما يمكن أن نجد بين الإسرائيليين أشخاصاً من نمط سلفان شالوم وشاؤول
موفاز وبيني بيغن، كذلك يمكن أن نصادف نماذج من نمط يولي تامير
وفيليتسيا لانغر وإيبي ناتان؛ لكن الأضواء، كما هي الحال حين لا
تسلّط إلاّ على الأوساخ في الثوب، فهي لا تركّز إلاّ على النماذج
السيئة. ولطالما حاولوا عندنا، خدمة لمصالحهم ومصالح الطرف المتطرّف
المقابل، أن لا يتوقّفوا لثانية عند أي وجه غير ملوّث.
أرييل شارون ونقيضوه: كلّهم لا يريد سوى دق طبول الحرب لأنّ السلام
عدو الطرفين.
ونحن دائماً نقول كلاماً قاسياً؛ والمشكلة أننا مثل فلسطينيي 1948،
عرب داخل. ولأننا نحمل الهويّة السوريّة، يمكن لسيف الجلاّد أن
يطالنا على الدوام: تحت عناوين كثيرة.
من هنا أسأل الأخوة الأكراد، الذين تظاهر بعضهم مطالباً بالهويّة
السوريّة: من يشتري مني هذه الهويّة ـ بلا مقابل!!! |