الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

باحث وكاتب سوري نبيل فياضمقالات سابقة للكاتب

باحث وكاتب سوري نبيل فياض

 


 الأزمة المعرفيّة للشعب السوري

 

بقلم: نبيل فياض، 7 ديسمبر 2004

في الثمانينات تمّ اعتقالي في الأمن العسكري في حمص، ووضعت لأيام هي الأسوأ في حياتي في إحدى الزنزانات الإفراديّة؛ وكانت التهمة (؟؟؟) العلاقة مع الكنيسة المارونيّة. فقد كنت في زيارة للمطران الماروني جورج أبي صابر، المقيم في طرطوس وقتها، حيث أخبرني أن السفير الفاتيكاني سيأتي لزيارة حمص، وطلب مني أن أضع المونسنيور والأخ، مسعود اليوسف، راعي أبرشيّة اللاذقيّة المارونيّة اليوم، في صورة الزيارة، وأن يتمّ التحضير لها كما يجب. وهذا ما كان. بل أذكر أن المونسنيور اقترح علي، بسب علاقتي غير العاديّة بالمطرانين الراحلين، ألكسي عبد الكريم (روم أرثوذكس) وملاطيوس برنابا (سريان أرثوذكس)، أن أقوم بدعوتهما شخصيّاً لحضور اللقاء مع الموفد البابوي. كان الشيء المستهجن بالنسبة للأمن العسكري وقتها، ـ وفي سوريّا نادراً للغاية أن تجد من خرج من جلده الطائفي أو العشائري ـ هو أن أعرف، وأنا المنتمي إرثيّاً إلى الطائفة السنيّة، بمجيء شخص غير عادي إلى الكنيسة المارونيّة قبل الأسقف ذاته، وأن يُطلب منّي شخصيّاً دعوة بقيّة الكنائس إلى اللقاء. ولأن السوريين، بغالبيّتهم الساحقة، لا يستطيعون فهم "أبسط" مفاهيم حقوق الإنسان، وأولها حقّ الإنسان في اختيار ما يشاء من عقائد، مهما كانت العقيدة التي شاءت الصدف أن يولد عليها، فإنّ أحداً في سوريّا لا يستطيع فهم ما أعني حين أقول، إن انتمائي الثقافي المعرفي هو للمارونيّة الحضاريّة، وإنه لولا الكسليك، وأحدّد هنا الأب جوزف قزّي والأب الراحل أمبروسيوس حاج، لكنت الآن مثل أي مثقّف سوري، لا يرى أبعد من أنفه. – وأكرّر من جديد أن هذا الانتماء هو الأوّل والأخير عندي، رغم عمليّات التخوين والاضطهاد والتهجير المبرمجة، التي تتمّ بحق الموارنة خصوصاً والمسيحيين عموماً؛ وأنه لولا الموارنة لكان لبنان يمناً آخر، أو بأحسن حال، سوريّا أخرى! ورغم أني لم أتعرّض للضرب أو الإهانة أثناء الاعتقال في الأمن العسكري، إلاّ أن ظروف الاعتقال، بحدّ ذاتها، كانت أكثر من مريعة: فقد وضعت في زنزانة 120×70 سم، في قبو مؤلّف من ثلاث وعشرين زنزانة ومرحاض، حملت الرقم 17؛ ثم ارتجوتهم أن أُنقل إلى زنزانة أخرى لأن سقف تلك الزنزانة كان ينقّط علي ماء بارداً، وكان وقتها كانون الثاني؛ فنقلت إلى أخرى حملت الرقم 4. وكان أصعب ما في التجربة التعذيب الذي كان يجري بعد منتصف الليل: كان وقع أقدام السجّان، وهو يهبط درج القبو المريع؛ صوت فتح القفل على أحد المساجين تمهيداً لتعذيبه؛ صوت السجين وهو يعذّب ـ كانوا يتركون الباب مفتوحاً كي نسمع أصوات الألم  على الأرجح ـ؛ وأصعبها إطلاقاً انتظار واحدنا أن يفتح الباب عليه ويسحب من رقبته إلى مكان التعذيب! ولأني لم أتناول طعاماً طيلة مدّة التوقيف ـ كان الطعام سيئاً جدّاً يوضع في طاسة بلاستيكيّة؛ وكان على المساجين تناول الطعام بحسب تسلسل أرقام زنزاناتهم من ملعقة واحدة ـ فقد خرجت من الاعتقال بثقب في الأمعاء الغليظة أدّى بي بعدها إلى عارض صحي صعب، ما زلت أدفع ثمنه حتى الآن. وبعدها، هربت إلى جونيه، واحة الحريّة الوحيدة في شرق أوسط الإرهاب؛ وحاولت برفقة آباء الكسليك البحث عن تعاف من أوجاعي وكراهيتي لكلّ ما هو سوري: لولا أمبرسيوس حاج، الذي علّمني معنى أن تقبل الآخر بضعفه وتخلّفه وإرهابه، لما استطعت أن أدخل هذا الوطن الأغرب يوماً.

وبسبب هذه التجربة المريعة، آثرت أثناء إقامتي السوريّة، بعد عودتي إلى دمشق في أعقاب سقوط العماد ميشيل عون، أن أبتعد تماماً عن كلّ ما هو سوري، رسميّاً كان أم شعبيّاً. لكن أعمالي البحثيّة التي لا تنقصها المشاكل، كانت تجعلني على الدوام في فوهة المدفع. وهكذا، كانت الاستدعاءات "اللطيفة" تتابعني عقب إصدار أي كتاب لي ـ مع ملاحظة أن أعمالي ممنوعة كلّها في ما يُقال إنه الوطن الذي أحمل هويته، بقرار من المدعو أحمد درغام، رئيس ما يسمّى بمكتب الإعداد القطري؛ والسبب هو رفضي العمل عند صديقه، بشير نجّار، رئيس مباحث أمن الدولة وقتها، مخبراً بمرتبّة مفكّر: وكان لقاءي به "بيضة ديك"، رتّب له السيّد محمّد دعبول، مدير مكتب الرئيس الراحل، حافظ الأسد ـ دون أن ننسى الهجوم الشعبي الأصولي علي شخصيّاً، والذي وصل إلى حد توزيع مناشير في شوارع دمشق ضدّي، تحمل بصمة وزير الأوقاف الحالي، زياد الأيوبي؛ وتهديدي الدائم بالتصفيّة من قبل شيخ من التيّار الوهابي في منطقتي، المدعو راتب خضرة: بمعرفة الدولة وأجهزتها الأمنيّة ـ وربما برضاها. ولمّا قام طبيب من التيّار ذاته، اسمه عبد الجوّاد عرابي، بتدبيج تقارير كاذبة ضدّي، تفيد بأني أشتم الدولة ورأسها باستمرار، بمساعدة عقيد في الأمن الجوّي كان كل ذنبي معه رفضي استغلاله المادي لي؛ الأمر الذي كان يمكنه أن يودعني في سجن أحد الأفرع ليس أقل من ستة أشهر (كذا)؛ قام أحد الأصدقاء من المتنفذين، بعد كشف المؤامرة "بالصدفة البحتة"، بتعيين رجلين لمرافقتي في عملي بشكل دائم ـ وسُحبا بعد اعتقالي الأخير. 

لمّا بدأت أنشر مقالات، بالعربيّة والإنكليزية، في نقد الأسس المعرفيّة لحزب البعث وللفساد ولمسلّمات النظام السوري، راحت الاستدعاءات الأكثر من مهذّبة، خاصّة من الأمن العسكري، تتوالى! بالمناسبة، لا أنكر معرفتي بل وعلاقتي العميقة للغاية ببعض كبار المسئولين في شعبة الأمن العسكري: وعلى رأسهم رئيس الشعبة، الذي استدعاني عام 1993 في أعقاب صدور كتابي "يوم انحدر الجمل من السقيفة"، والضجة التي أثارها التيّار الأصولي بعدها، خاصّة محمّد سعيد رمضان البوطي. ورغم المرّات النادرة التي التقيت فيها الرجل، إلاّ أنّه لا مناص من الاعتراف بأن ثقافته في الفكر اليهودي كانت أكثر من مثيرة للإعجاب؛ ولا أنكر أيضاً أن حمايته لي كانت غير عاديّة، خاصّة بعد أن هوجم مكان عملي أكثر من مرّة من قبل التيّار الأصولي! من ناحية أخرى، فقد ارتبطت بعلاقة غاية في الإنسانيّة مع أحد كبار الألوية في الأمن العسكري، الذي ألجأني إليه الصديق المفكّر محمّد شحرور، بعد تعرّضي للأخطار من قبل التيّار الوهابي في منطقة عملي. ودون مبالغة، فقد كانت علاقتي بهذا "الإنسان" الأقوى في زمن وجودي الدمشقي؛ ووصل إعجابي بهذا الرجل الأنظف بين كلّ من عرفته من مسؤولين إلى درجة أني كنت أكرّس كمّاً كبيراً من وقتي، وهو ما منعني عن كتابتي الصحفيّة والبحثيّة، من أجل فكرة مركز بحثي يعنى بالشئون الإسرائيليّة على كافة الأصعدة؛ وظللنا على هذه الحالة حقبة لا تقلّ عن أربع سنوات؛ أفدت شخصيّاً منها للغاية في تكوين تصوّر بانورامي للحالة البحثيّة في إسرائيل: ولمّا أعددنا مخطّطاً متكاملاً للمشروع، ذهبت الفكرة إلى غيرنا. وبصراحة مطلقة أذكر هنا، أنّ ما حفزني على العمل في المشروع ليس شعور العدائيّة تجاه أحد، فقد تعلّمت من الرهبان الكاثوليك أساتذتي فلسفة محبّة الأعداء، كما فسّرها يسوع، ومار بولس بشكل خاص؛ بل رغبتي الذاتيّة في تقديم كلّ مساعدة لهذا الإنسان غير العادي، أخلاقيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً.

قبل اعتقالي بفترة قصيرة، حاول وزير الإعلام السابق، أحمد الحسن، إثارة الأمن العسكري ضدّي، في محاولة مستميتة منه لاعتقالي؛ وفشلت المحاولة. وبعد اعتقالي بساعات، تمّ تغيير هذا الرجل الذي لا يوجد في أجندتي ما هو ضدّه شخصيّاً، بل كان انتقادي له لا يخرج عن إطار تحويله وزارة الإعلام إلى تكيّة أصوليّة. وهذه المحاولة من قبل وزير يفترض أنه مثقف وحام للمثقّفين أظهرت ـ ضمن أشياء أخرى لا حصر لها ـ الأزمة المعرفيّة عند الشعب السوري: العقل التوتاليتاري. وبشكل عام، الشعب السوري، كنخبة مثقّفة، محكوم بالعقليّة الماركسيّة وبعض الجزر البعثيّة الصغيرة التي لا تقل توتاليتاريّة عن أختها الماركسيّة؛ وكعوام، يجرّه الأصوليّون الإرهابيّون من أنفه! إذن، الشعب السوري يفتقد عموماً أهم شرط موضوعي للدخول في عالم الحضارة المعاصر: ثقافة قبول الآخر. وفي مجتمعنا المعاصر لم يعد هنالك إمكانيّة لوجود نقاء عرقي أو قبلي أو قومي أو ديني: فالتعدّدية هي هويّة القرن الحادي والعشرين الأولى!

من أبرز الدلائل على الأزمة المعرفيّة التي يعيشها السوريّون عموماً هي تلك الندوة التي أقامتها بعض القوى السياسيّة في سوريّا، أثناء اعتقالي الأخير، والتي لم تكن غير منبر ساهم فيه شيوعي منشق اسمه قدري جميل، وأصولي منشق، اسمه محمّد حبش، وكان الهدف منها ليس التضامن مع شخص اعتقل بلا مبرّر مهما كانت هويته الثقافيّة، بل التشفّي من الفكر الآخر غير التوتاليتاري عبر الهجوم الأمي ثقافيّاً على الليبراليّة والليبراليين العرب [أفضّل: الناطقون بالعربيّة]! وكانت ثالثة الأثافي أن تنبري إحداهن من الجماعة التي تسمّي ذاتها "لجان إحياء المجتمع المدني"، لمهاجمة الليبراليّة بالعنف، دون أن ينسى الحضور بهار الخيانة وملح العمالة والصهينة والأمركة، الذين اعتادت أعيننا وأنوفنا عليهم منذ أن هبطت المصيبة الناصريّة ومن بعدها البعثيّة على الجسد السوري، مطيحة بالتالي بالبورجوازيّة مرّة وربما إلى الأبد. كان باستطاعتي التماس عذر لهؤلاء لو أن واحدهم، خاصّة ذلك الشيوعي المتسلّق، كان يمتلك الحد الأدنى من فهم أبجديّة الليبراليّة كفلسفة. ـ فوقت الصفقات والاجتماعات الجماهيريّة لا يترك له ما يكفي من الوقت كي يقرأ جريدة: فكيف بفلسفة عميقة متشعّبة كالليبراليّة؟

إن الاعتقال الذي عشت، مهما كانت سيئاته، يدفع إلى صدر الصورة مجموعة أسئلة لا تفارق الذهن:

1 ـ هل يوجد قانون في سوريّا؛ وهل أن هذا القانون المفترض قابل للتطبيق على الجميع، دون تمييز؟ وهل أجهزة المخابرات فوق القانون أم تحته؟

2 ـ هل يوجد مثقّفون فعليّون في سوريّا؟ أليس بعض جنرالات المخابرات، مهما كان عددهم ـ لديّ مثال واحد على الأقل ـ قليلاً، أكثر ديمقراطيّة وحضارة وقبولاً بالرأي من كلّ مثقفينا، باستثناءات نادرة؟

3 ـ هل تغيّرت سوريّا أمنيّاً فعلاً، بين الثمانينات، وقت اعتقلت في حمص، و2004، زمن اعتقالي الدمشقي: أم نحن الذين تغيّرنا، فصار حبسنا في زنزانة منفردة، وإسماعنا صوت التعذيب، الذي أكّد لي كلّ الحراس أنه انتهى من السجون السوريّة، شيئاً من الماضي؟

4 ـ هل نكافأ، ونحن الذين أضعنا كلّ عمرنا في سبيل التثقيف النقدي للسوري ولغيره من الناطقين بالعربيّة؛ نحن الذين أضعنا سنوات طويلة من أجمل سنوات العمر، وقت كان غيرنا يستثمر أيامه في رفع رصيده المصرفي من حساب قوت الشعب، في محاولة خلق مركز بحثي، أيّاً كانت الدوافع، يهدف إلى مساعدة جهاز الأمن العسكري، أو بعضه، في فهم أفضل لواقع من يعتبرهم هذا الجهاز أعداءه، بسجن غير واضح المعالم من قبل جهاز آخر؛ بل هل يعقل أن يستدعي جهاز الأمن العسكري هذا ذاته، بعد خروجي من اعتقال الأمن السياسي، صديقي الأوحد، الذي يعيش معي لرعايتي أمنيّاً في وسط وهابي معاد ورعايتي صحيّاً في ظرف هو الأسوأ، وهو النقيب عدنان إبراهيم، وإفهامه أن التعاطي معي شيء يسيء إليه وإلى مهنته كضابط؛ وإذا  كنت شخصيّاً مشبوهاً "وطنيّاً" إلى هذه الدرجة بنظر الأمن العسكري، فكيف يسمح رئيس هذا الجهاز لنفسه باستقبالي كلّما استدعى الأمر ذلك؛ لماذا كان يصرّ رئيس فرع فلسطين على رؤيتي ويستقبلني في مكتبه بطريقة أكثر من وديّة؛ ولماذا كان يسمح لي على مدى سنوات بدخول الفرع 225، الذي كنت أزوّده ببحوثي المتعلّقة بالشأن الإسرائيلي؛ دون حسيب أو رقيب؟ وهل المطلوب إشعاري بأن الدولة كلّها تخلّت عنّي وهي تضغط الآن كي تجعل حتى المؤمنين بما أفعل يتخلّون عنّي، لدفعي باتجاه الهرب أو تقديم المزيد من التنازلات؟

5 ـ إن تصفيتي جسديّاً ليست بالأمر الصعب؛ والأمن السياسي، فرع ريف دمشق، هو الذي استدعى الشيخ الذي هاجم مكان عملي والعصابة التي كانت تأتمر بأمره؛ ولم يوقف أي منهم ثانية. كذلك فالأمن العسكري، فرع المنطقة، هو الذي أوقف الطبيب الملتحي وعصابته قبل مدّة، ولا أظن أن الوثائق اختفت من أدراجهم. بالمقابل، فإن هجومي الأعنف على رموز الفساد في سوريّا، لن يمرّ بسهولة. وهكذا، يمكن للطرفين التعاون في تصفيتي، ويضيع الجاني بين الفاسد والأصولي المسلم. 

أزمة سوريّا ليست أزمة مخابرات أو مثقفيّن: إنها أزمة الشعب الذي يخرج منه كلّ هؤلاء. والشعب السوري غير قادر عموماً، وعلى المدى المنظور، لأسباب يعرفها الجميع ـ هل نذكّركم بتراثنا المقدّس أو شبه المقدّس الذي يدعو إلى الغثيان ـ على الخروج من الشرنقة التي شنق ذاته بها. ـ من لا يصدّق: ليسأل القبيسيّات والمسؤولين الذين يقفون خلفهن!!!

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها