الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

باحث وكاتب سوري نبيل فياضمقالات سابقة للكاتب

باحث وكاتب سوري نبيل فياض

 


عن أيام الملح والصمت والأمل المقهور (1)

نبيل فياض، 16 نوفمبر 2004

 

 

الثلاثاء، الثامن والعشرون من أيلول:

كان فرحي باكتشاف عدّون أكبر من أن تتحمّله أيامي المثقلة بمئة صنف من الموت والغربة والانكسارات غير المتقطّعة! كان فرحي بقديسي العلوي أكبر منّي: لذلك كنت أخاف منه عليّ؛ كنت أهرب منه إليّ؛ وكان يطاردني كصوتي حتى في أزمنة الصمت!

قلت لمحمّد، طفلي الضخم الذي أعيش على شَفَاه منذ أكثر من أربع سنوات: سيصل عدّون اليوم الساعة الحادية عشر ليلاً؛ يجب أن ننتظره على مفرق حاجولا لأن السير صعب في ذاك الوقت المتأخّر! ومقابل الدرب المودية إلى بلدة يبرود القلمونيّة الجميلة، انحدر عدّون من البولمان القادم من بانياس؛ وعاد الهدوء ليلفّنا باتجاه البيت!

قال عدّون بلغته الآمرة الواثقة كالعادة: "أنا أعرف تشاؤمك من تشرين الأوّل، لذلك" يجب "أن تأخذ إجازة من العمل عشرة أيام على الأقل، وتأتي معي إلى البحر"!

أجبته بالإيجاب، وأنا أعرف في قرارة نفسي أن بحراً من الاستحالة يقف بيني وبين رغبة عدّون بالهجرة من غابة الحزن!

دائماً تربطني بالخريف عدائيّة فشلت في تبريرها! كانت أمّي تكرهه! وحين ماتت في شرخ الصبا، وكنّا صغاراً، اختارت تشرين الأوّل بالذات كي تهرب فيه من الحياة: وكان بالصدفة ربما مترافقاً برمضان!!!

كنت أستشرف مصيبة قادمة؛ وكان عدوّن يحاول عبثاً بفرحه المنكسر تشظية إحساسي بانهيار قادم! لقد أعاشني هذا المستوطن على تخوم الجنون تسعة أشهر من الفرح المتواصل؛ وكان ذلك أكبر من أن أتحمّله – كان علي أن أدفع في شهر واحد فاتورة الأشهر التسعة كلّها!

"هذه صور علي ومريم" – قال عدّون، محاولاً باستماتة إعادة النسغ إلى عروقي الميتة! أخذت أجمل الصور لولديه اللذين أعشق، وعلقتها فوق "الكلوب" الساكنة قرب رأسي! وقرب صورة الطفلين كانت صورة عدون طفلاً يركب درّاجة هوائيّة، يحدّق كعادته بمقلتين تعريّان المرء من ثيابه!

الخميس، الثلاثون من أيلول، الليلة الأخيرة قبل الأوّل من تشرين:

كانت أصابعهم المتمرّسة تعبث بغرفتي الصغيرة بحثاً عن شيء لا وجود له! وكانت عيناي معلقتين بوجهي الطفلين اللذين أعشق! غادرت المكان معهم، وعلي ومريم يصرخان بي من خلف الصمت الموحش: إلى أين؟

في الزنزانة الكبيرة، كان علي ومريم ينامان قربي، فوق الفراش الاسفنجي القديم الوسخ الضيّق الذي كنت أتمدّد عليه، وأنا ضائع بين الوعي وغيابه! كان علي يفترش يدي اليسرى، ومريم تتكوّر فوق راحتي اليمنى! كنت أهرب بوجهي من نظرات الطفلين المتعبة: وكانا يلاحقان حدقتي أنّى توجهتا!

الخميس، الثالث عشر من تشرين الأوّل:

للمرّة الأولى أشعر بمن حولي: كان قد مضى علي في غيبوبة طويلة ثلاثة عشر يوماً. كان منير، حارسي الحمصي الصامت، يمسك بزجاجة حليب بلاستيكيّة، يحاول إقناعي بشربها، بعد ما أمضيت كلّ مرحلة الاعتقال بلا طعام أو شراب. جلس منير على سريري الأبيض الكريه، أخذ مشطاً رخيصاً، وراح يهذّب شعري الذي تناثر حول وجهي بلا إذن مني! فجأة، دخل شخص، ورمى إليّ بمجلّة لم أحلم يوماً بقراءتها! كتلة من كلام غبي أجوف مغلّفة بعنوان "الشرطة".

راح منير يقلّب صفحات المجلّة المزعجة بأصابعه الغليظة أمام وجهي، فيدي اليمنى معاقة بألم الخثرة التي رافقت تدفّق السيروم المكثّف في شراييني، ويدي اليسرى معاقة بخيط السيروم المشنوق إلى قاعدة حديديّة عاليّة صدئة! كانت المجلّة صادمة بإزعاجها. فجأة، ودون سابق فرح، سقطت تحت عيني مقالة عن الشاعرة والرسامة، مها بيرقدار الخال، التي كنت أهاتف أختها سوزان أحياناً في الزمن البيروتي الأجمل!

كانت مها تمسك بكأس الموت، أتجرّعها من تلك الكلمات المعلّقة بين الله والجحيم:

أقصى التمنّي

دفن هاديء قرب بحيرة

دموع تسكن المناديل

صمت شجر

سقته يوماً يد عند المغيب

لم يكن قد مضى شهر على وصيتي لعدّون بأن أُدفن في قريتهم سرابيون، التي تحمل اسم قديس مسيحي: كنت – ومازلت -  أثق أن عدوّن وحده هو الذي سيحمل زنابق بيضاء إلى موقعي الساكن الصامت الهاديء الأخير!  وكانت قريتهم منغرسة بين البحر والشجر!

حملتني كلمات مها، نعشاً مقلوب الغطاء، من مشفى دمّر إلى سرابيون: كان عدّون يحمل الصندوق الخشبي المستطيل من مقدّمته، وفي الخلفيّة كانت مريم وعلي يجاهدان بتعثر الأطفال لمساعدة أبيهما في نقل صديقه إلى جنة راحة الزنابق البيضاء!

عادت مها تصرخ بصمتها في صَدفتي التي يحاول منير كسرها:

هو العمر

ملائكة الوقت حول سريري

تعلن بأنني أشيخ

وأن خطواتي ليست كالأجراس

حقّاً... أشيخ

لأن صبري كصبر النمل

هل حقّاً سأغادر هذا المشفى-السجن لأرى عدوّن دون الزنابق البيضاء؟

هل سأعود لأكتب وأمدّ أصابعي النحيفة نحو فضاءات يريدون تكسيرها أمام أنفاسي؟

هل باستطاعتي الحلم بليلة أخرى وحيدة تحت قمر سوكاس وصخورها القديمة؟

هي لحظة

وأغرق ليلاً آخر

في ظلمة يقال عنها سعيدة

الثلاثاء، الأوّل من تشرين الثاني:

مثل أروفيوس، وكنت أقف أمام كنيسة بولس الرسول الدمشقيّة الشهيرة؛ هبط عدّون من سيارة أجرة صفراء، يحمل باقة ورد شبه قرويّة، وكثيراً من الحلوى التي أحب! كنت أنتظره بثيابي السوداء التي اشتراها لي منير وشعري الذي استطال على غير عادته! حاولت بصفاقة أن أقهر الدمعة التي وقفت في عيني كي تهطل: لكنها رفضت!

تلعثمت كبدوي يجتاز شارعاً مزدحماً في مدينة كبيرة للمرّة الأولى! "لم أكن أعتقد أني سأراك حيّاً"! صرخت فيه وهو يرميني بباقة ورده الرائعة؛ " الشيء الأوحد الجميل في أيام الاعتقال المريعة تلك هو اكتشافي عمق حبّي لتلك الوجوه القليلة النادرة التي أدمنتها في وجودي!"

صمت كياني: "كان علي ومريم يصلّيان لك باستمرار"!! قال عدّون بفرح أخرس!

استندت متعباً إلى يده اليمنى على غير عادتي، وضعنا من جديد في زحام دمشق الجميلة!

نبيل فيّاض، (مقالة مابعد الاعتقال الأولى)

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها