الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

باحث وكاتب سوري نبيل فياضمقالات سابقة للكاتب

باحث وكاتب سوري نبيل فياض

 


تعلّم الإسلام في خمسة أيام

اليوم الثالث، الدرس الثالث: اللاعقل؟؟؟

بقلم: نبيل فياض

ما من شكّ أن الإسلام هو أشهر الديانات عدائية للعقل في العالم هذه الأيام. والحقيقة أن مقتل الإسلام هو العقل: فأي تسلّل للعقل إلى داخل الإسلام كاف لتفجيره والإطاحة به، مرّة وإلى الأبد. مع ذلك، والحق يقال، فقد عرف التاريخ الإسلامي تجربتين عقلانيتين يتحتم علينا، كعقلانيين، الانحناء أمامهما باحترام لا يضاهى: أي، التجربة الاعتزاليّة والتجربة الإسماعيليّة. وفشل هاتين التجربتين هو الدليل الأبرز ليس على الأسس الواهية للمعتزلة أو الإسماعيليين، بل على أن العرب لم ينموا عقليّاً بحيث يستوعبون ما تطرحه هاتان التجربتان النخبويتان ـ والوقائع الموضوعيّة تثبت لكلّ ذي عين بصيرة أن العرب تراجعوا في العقود الأخيرة عقليّاً إلى درجة أنه لم يعد يناسب سقوطهم الفكري سوى الوهابيّة، للسنّة، والخمينيّة، للإثني عشريين.

لقد ساعدني حسن طالعي وظروفي الجغرافية على الاحتكاك بتلك الفئة الإسلاميّة الرائعة المعزولة الآن المسمّاة بالإسماعيليين. ووقتها أدركت أنّ كلامي الذي نشرته قبلها عن الإسلام لم يكن دقيقاً تماماً: حيث اتهمته بأنه الديانة التي لم يرتح فيها العقل يوماً. ـ لكن الإسماعيليين خيّبوا فألي. وكدارس ومتابع ومن ثم باحث في اللاهوتين اليهودي والمسيحي، توصّلت إلى ما مفاده أن الإسماعيليين، عبر الكرماني في "راحة العقل" مثلاً، استطاعوا القيام بفتوحات لاهوتيّة يمكن مقارنتها، دون مبالغة، مع ما كتبته شخصيّة مثقفة عظيمة من القرن العشرين كبولتمان أو أقرانه! دون أن ننسى فارق الزمن والتراكميّة المعرفيّة الألمانية التي لا يمكن مقارنتها بالتوافه التي قدّمتها ما تسمّى خطأ بالحضارة الإسلاميّة، التي إذا ما عرّيناها من الإسماعيليين والمعتزلة لأضحت ربعاً خالياً ثقافيّاً.

كان طبيعيّاً للغاية أن تغلّ بلاد الهلال الخصيب المدرستين الإسماعيليّة والإعتزاليّة. ففي هذه الأرض ذات الحضارات الزراعيّة الموغلة في القدم، كان من المستحيل تحمّل الإسلام بشكله الرعوي البدائي اللا حضاري: وكان لابدّ من الوصول إلى صيغ توفيقيّة تضمن لشعب الهلال الخصيب استمراريّة أعرافه الثقافيّة حتى ضمن هذه البنى الرعوية الغريبة المستوردة. وهكذا، اجتاح العقل اليونانيّ الراسخ الوافد الصحراوي الجديد ليظهر كيان معرفي رائع قائمتاه هاتان المدرستان.

من الأمور المألوفة عند هؤلاء البدائيين الذين غزوا سوريّا من صحرائهم القاحلة: التعميم. فهم لا يفهمون وجود بيئات أخرى لا تحمل لون الرمل الأغبر؛ لا يتخيّلون وجود حضارات بأوابد شاهقة لا خيمة فيها ولا وتد؛ لا يعتقدون بوجود حيوان غير الجمل؛ لا مكان في قواميسهم لامرأة خارج نطاق الحريم والسبايا؛ لا يستوعبون علاقات سلام وحبّ بين الشعوب لأن أسلوب التعاطي بين الناس عندهم لا يخرج عن نطاق الغزو والسبي!! من هنا، فكلّ التيارات السياسيّة التي اجتاحت المنطقة تحت اسم القوميّة العربية، كالناصريين والبعثيين وما شابه، والتي هي ليست أكثر من أصوليّات إسلاميّة ترتدي أقنعة قوميّة كاذبة، لم تستطع يوماً أن تفهم أبجدية التعدّد. ومن مصائب هذه النوعيّة القاصرة من التفكير، تعميم stereotype عربي لا يميّز إطلاقاً بين اليمني واللبناني؛ بين الصومالي والتونسي؛ وبين الكركوكي والنواكشوطي: ورغم أن سوريّا أقرب إلى أوروبا ثقافيّاً من تركيّا، فقد حاول البعثيون بأقصى ما لديهم من إمكانيات مسخ الكائن السوري حتى يفقد تعدّديته ويصبح بالتالي أقرب ما يكون إلى اليمني أو السعودي أو ما شابه: فلا يتسلّل الشك إلى نظريتهم القوميّة النيوـ أصوليّة العقيمة. إنّ الحقيقة التي سيستنكرها هذه المرّة الجميع هي أن سوريّا كانت على الدوام جزءاً من بيزنطة المتهلينة، في حين كانت الصحراء والبادية السورية تشكّلان حاجزاً جغرافيّاً طبيعيّاً بين سوريّا وجزيرة العرب؛ وحين غزا المسلمون سوريّا لسرق خيراتها فحسب، لم يستطيعوا، وهم الذين لم يكونوا أكثر من سيوف دامية تريد تعميم القيم اليهوديّة في وجه الهلينيّة، أن يقضوا على الإرث البيزنطي الهليني الراسخ في بلد التعدّدية، والذي أعاد ظهوره عبر حركات فكريّة هامّة للغاية كالإسماعيليّة والإعتزاليّة. بل يمكن القول إن الإسماعيليّة ذات المضمون الفلسفي اليوناني الواضح انتشرت في إحدى الأحقاب بحيث طالت سوريّا كلّها؛ لكن مجيء قوميّة أخرى أكثر بدائيّة وتخلّفاً من العرب إلى سوريا هي الأكراد، أعاد المسألة إلى نقطة الصفر: لقد أعاد صلاح الدين الأيوبي، الذي كان مؤازراً، كما المسلمين الذين غزوا هذا الإقليم، بعبقرية يهودية هو ابن ميمون، سوريّا إلى نقطة الصفر. وفي اعتقادنا الذي لا يوافقنا أحد عليه أن بقاء الصليبيين في بلاد الشام كان أفضل حضارياً لنا، بما لا يقارن، من دخول هذا الكردي المتخلّف وابن ميمونه.

والحقيقة التي لا مجال لدحضها أن كمشة من الأكراد، برعاية من الدولة العبقرية، ما تزال إلى الآن هي المسؤولة عن الجزء الأكبر من جريمة نشر الطائفيّة والإرهاب والتخلّف بكافة أشكاله في ربوع سوريّا: من أمثال آل كفتارو والبوطي وأولاده وزياد الأيوبي والراحل مروان شيخو ـ هؤلاء الباحثون عن مجد سياسي عبر الطائفيّة لأنهم ببساطة يفتقدون حسّ الانتماء الذي لا يمتلكونه أصلاً، ومن أجل ذلك نجدهم مستعدّين لإيصال المجتمع السوري إلى الهاوية. في حين أن الطوائف الصغيرة المتهلينة كلّها، باستثناء عبدة الشيطان الأكراد، هي سوريّة قلباً وقالباً: بغض النظر عن اللاطائفيين من السنّة والذين هم في غالبيتهم الساحقة من السوريين الأصلاء لا الدخلاء: ونحن منهم.

حدود العقل في الإسلام: مثال دامغ

لا شكّ أنّ مطلق مسلم تقليدي، مثقفاً كان أم جاهلاً، يؤمن دون أدنى تفعيل للعقل بآدم ونوح وابراهيم وغيرهم من الشخوص التي تفتّق عنها العقل اليهودي في عزلته القاتلة: دون أن ننسى بالطبع ما تمّ لطشه من الميثولوجيا السورية القديمة. والطامة الكبرى حين تقابل أستاذاً جامعيّاً أو متعلّماً بدرجة معقولة يحدّثك عن هذا الوجود غير المشكوك به لآدم أو نوح أو ابراهيم وكأنهم أولاد خالته! أو يروي لك قصّة هبوط آدم من الجنّة وكأن أمّه كانت برفقته في البارشوت الإلهي غير الملموس! أو يصف لك تفاصيل سفينة نوح والحيوانات التي كانت برفقته وكأنه هو ذاته كان يمسك بصاريتها! لماذا؟ لأن هذه الحكايا وردت في القرآن! والقرآن كتاب الله! لكن: ما أدراك أن القرآن كتاب الله؟ قال لنا النبي محمّد ذلك! وما أدراك أن النبي محمّداً كان محقّاً في ما يقول؟ ألا ترى كمّ المؤمنين به؟ ألا ترى أنت بالمقابل كمّ المؤمنين بقداسة البقرة؛ ألا ترى كمّ المؤمنين بنبوّة جوزيف سميث؟ ألا ترى كمّ المؤمنين المتزايد بين المسلمين السنّة بخاصّة بنبوّة الميرزا غلام أحمد القادياني، مؤسّس الديانة الأحمديّة؟ في النهاية، فإن أوسع العقائد انتشاراً يمكن أن تكشف لنا بعد خراب البصرة أنها كانت قائمة على كذبة صغيرة.

كي نحدّد مدى التضيّق المتصاعد في العقل الإسلامي؛ نتساءل: إذا كان عمر البشرية على الأرض ـ إذا أهملنا عمداً نشوء دارون وارتقائه ـ لا يقلّ عن ستين مليون عام، كيف استطاعت الذاكرة البشرية أن توثّق لحدث حصل قبل أن أكثر من ستين مليون عام وصمتت طويلاً لتؤرّخ من جديد لحوادث لا يتعدّى عمر أقدمها عشرة آلاف عام؟ أين كان آدم وزوجه قبل ولوجهما في هذا العالم، وكيف استطاعا الهبوط من الجنّة المزعومة: بغض النظر عن مسألة الجاذبيّة، التنفّس.. إلخ؟ آدم، حوّاء، قابيل [قايين]، هابيل: أسماء عبرانيّة [الأمر طبيعي فالقصّة ملطوشة عن الهاغاداه]: فإذا عرفنا أن عمر اللغة العبريّة، بأفضل حال، لا يتجاوز خمسة آلاف سنة: كيف استطاع الله أن يختار لعائلته الأولى أسماء من لغة ظهرت إلى الوجود بعد لا أقل من ستين مليون عام من خلق الإنسان؟ في التراث الميثولوجي السوري أساطير تتطابق نوعاً ما مع حكاية الخلق اليهوديّة تلك: هذا يعني، في ظل اللاواقعية المفرطة لهذه الأسطورة، أن الأحدث أخذ عن الأقدم؛ ويعني أيضاً أن القصة القرآنية ملطوشة هي أيضاً، عبر العبرانيين، عن التراث الوثني السوري القديم؛ فكيف يمكن للمسلم الذي يريد تفعيل عقله الخروج من هذه التناقضات؟ [يمكن لمن يرغب بتفاصيل دقيقة في المسألة مراجعة كتابنا: القصص الديني].

من ناحية أخرى، فأسطورة الطوفان القرآنيّة، كما بينّا في كتابنا "حكايا الطوفان"، ليست أكثر من ترجمة عربيّة لنتف مختارة بنوع من النزق لنصوص هاغاديّة عبرانيّة. والهاغاده العبرانيّة، كما بيّنا في الكتاب إياه، مأخوذة حرفيّاً عن نصوص مشابهة من التراث السوري الميثولوجي القديم. بالمقابل، ففي الكتاب أسئلة منطقيّة كثيرة لا مجال للعقل الإسلامي الموغل في تحدّده للإجابة عليها؛ مثلاً: من أين جاءت تلك المياه التي غمرت الأرض كلها إذا كان كمّ الماء في العالم محدوداً تماماً (منطق لافوازيه)؟ كيف يمكن تفسير وجود حيوانات بعينها في جزر معزولة نائية ـ الكنغارو والكوالا في أستراليا والكيوي في نيوزلندة مثلاً ـ والتي يفترض أنها رافقت نوح في فلكه الذي رسا في مكان ما غير بعيد عن الشرق الأوسط؟ أين ذهب ذاك الكم المخيف من المياه إذا كان العلم الحديث يحدّد بدقة الموضوع ويظهر أن الأرض لا تحتوي داخلها ذاك الكم الذي تحدّث عنه اليهود والمسلمون ومن قبلهم السوريون القدماء؟

بالنسبة إلى إبراهيم، فسوف نبيّن في عملنا الذي انتهينا منه للتو [سيمنعه البعثي الرفيق أحمد ضرغام، دكتاتور الثقافة النيوـ أصولي في سوريّا]، "حكاية ابراهيم في القرآن"، أن قصّة هذا النبي هي أدق وأكمل لطش إسلامي عن الهاغاده غير التوراتيّة، خاصة السفر الهاغادي غير المعروف ـ ربما أنهم لا يريدونه أن يعرف ـ معاسه أبراهام. وحتى أوضح المسألة؛ يمكن أن أقدّم هنا بعض النماذج من هذا العمل الذي لم يطبع بعد:

في السورة 37: 97 ـ 99 (2مك): "قالوا: ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم. فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين. وقال: إني ذاهب إلى ربّي سيهدين".

إذن، بحسب القرآن، فالله بذاته هو الذي ينقذ إبراهيم من النار. وهكذا تروي أيضاً بساحيم 118 آ: "عندما رمى نمرود أبانا إبراهيم في النار، قال الملك جبرائيل لله: يارب العالمين، أريد أن أنزل، فأبرّد النار وأخلّص الصالح من النار. فقال له الله: أنا في عالمي فريد، وهو في عالمه فريد؛ ويبدو أنّ الذي لديه الفرادة، هو الذي سيخلّص الآخر الذي لديه الفرادة".

وبحسب مجموعة المدراشيم الصغيرة لهوروفيتس، ص 43 وما بعد، تتشاجر الملائكة حول من سيسمح له بإنقاذ إبراهيم؛ أما في معاسه ابرهام، يلنيك، بيت ها مدراش I : 32، يأمر الله النار بكلمات القرآن، قائلاً: "يا نار كوني برداً وسلاماً على عبدي ابراهام".

السورة 58:21 (2مك): "فجعلهم (الأصنام) جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلّهم إليه يرجعون". في أبوكاليبس أبراهام، (تحرير Bonwetsch ، ص 10)، نجد حكاية مشابهة: "في يوم ما، وكان والد إبراهيم يقوم بحفر أصناماً، فأمره أن يحضر له طعاماً. فتناول إبراهيم أحد الأصنام، وضعه في النار ما وراء القدر، وقال له: إذا كنت إلهاً، خذ حذرك من القدر! ورأى ما رأى فضحك لذلك كثيراً، وقال لأبيه: أبي، هذه الأصنام غير جيدة، فهي لا تستطيع أن تحمي ذاتها، فكيف ستحمينا؟.. كان والده غاضباً، فقال: لقد وقعنا نحن الاثنان مرضى، يا بنيّ، فأنا أسير باتجاه العدم. بعدئذ، وقف إبراهيم وأخذ الأصنام ووضعها على حمار وجاء بها إلى المدينة لبيعها. فرأى مستنقعاً من الوحل ضخماً للغاية، فقال للأصنام: إذا كنت آلهة، فحذري الحمار، كي لا يغوص في الوحل. ومضى الحمار وغاص في الطين. فقال لها إبراهيم: لو كنت آلهة خيّرة، إذاً.. لاعتنيتم بذواتكم؛ لكنكم آلهة شريرة، وأنتم بالتالي تدعمون الأشرار أيضاً. فتناولها وحطّمها.. "النص ذاته، ص 12، يخبرنا كيف يجد ابراهام الصنم مارومات Marumath راكعاً أمام أقدام الرب الحديدي ناحوراس Nahoras: "وحدث، عندما رأيت ذلك، أن قلبي اضطرب، وفكّرت بعقلي، أنّي غير قادر، أن أعيده إلى مكانه، أنا، إبراهيم، وحدي، لأنّه كان صلباً مصنوعاً من حجر كبير، فذهبت وأعلمت والدي بالأمر. فرحت معه، وبالكاد استطعنا نحن الاثنان تحريكه، لإعادته إلى مكانه. وبينما كنت أمسكه من رأسه، سقط رأسه عنه. وحدث أن قال لي والدي، حين رأى أن رأس المارومات قد وقع عنه: إبراهيم! فقلت: انظر، أنا! فقال لي: هات فأساً قصيراً من البيت! فجئته به. وكان يضرب (يبني) مارومات آخر من حجر آخر لا رأس له، والرأس الذي كان قد سقط عن المارومات، وضعه فوقه، وحطّم ما بقي من المارومات.." وفي أبوكاليبس أبراهام، (تحرير Bonwetsch ، ص 13 وما بعد)، نجد إبراهيم وقد باع أصناماً في سوريّا. ثم يقال بعد ذلك: "ونفر أحد جمالهم (التجّار في سوريّا)، ففزع الحمار وركض ورمى الأصنام عن ظهره؛ فتهشّم ثلاثة منها وبقي اثنان سالمين. وحدث وأن رأى السوريّون أنه كان بحوزتي أصنام، فقالوا لي: لماذا لم تطلعنا، أن لديك أصناماً، بحيث كنّا نشتريها، قبل أن يسمع الحمار صوت الجمال، ولم تكن بالتالي لتضيع.." ثم باع إبراهيم الصنمين الباقيين ورمى تلك المهشّمة في مياه نهر غور، " ومنذ ذلك الوقت لم يكن لها وجود".

هذه الحكاية في الأبوكاليبس تُظهر، كما سنرى، الملامح الأساسيّة للرواية الهاغاديّة، التي تحاكي الوصف القرآني المختصر لها.

يقول سفر التكوين راباه 19:38 : " قال.. ح. حيا: كان تيراح يعبد الأوثان ويبيعها أيضاً. وذات مرّة ذهب والده وسمح ل إبراهيم بأن يأخذ مكانه كبائع. فجاء إليه رجل وكان يرغب بشراء أحد الأصنام. فقال له إبراهيم: كم عمرك؟ فأجاب هذا: خمسون سنة أو ستون. فقال الرجل: الويل لرجل عمره ستون عاماً، والذي سينحني لصنم، عمره يوم واحد ليس إلاّ. فخجل المشتري من نفسه ومضى. وذات مرّة جاءت امرأة تحمل في يدها طاسة فيها دقيق ناعم. فقالت لإبراهيم: إذن أنت الذي تقدّم القرابين للأصنام فنهض إبراهيم، تناول بيده عصا، حطّم الأصنام كلّها، ووضع العصا بيد كبيرهم. وحالما جاء والده، سأله: من فعل بهم (الأصنام) ذلك؟ فقال إبراهيم: لماذا علي أن أخفي الأمر عنك؟ لقد جاءت إلي امرأة تحمل في يدها طاسة فيها دقيق ناعم وقالت لي: أأنت الذي تقدّمها! أأنت الذي تقدّمها قرباناً! فقال أحدهم: أريد أن آكل أنا أولاً؛ وقال الآخر: أنا آكل أوّلاً. فنهض أكبرهم، تناول عصا وراح يهشمهم. فقال تيراح لابنه: لماذا تهزأ مني؟ وهل يمكنه فعل ذلك؟ فقال له إبراهيم : أسمعت أذاك إذن، ما يقوله فمك؟".

يمكن أن نجد هذه الحكاية بتفاصيل أكثر عند تانا د.ب. إلياهو زوطاC. 25 ، وهي الرواية التي جاءت من زمن أحدث من سابقاتها: "عندما أعطى أبو إبراهيم [ابنه] سلّة مليئة بالأصنام لبيعها في السوق، جاء رجل إلى إبراهيم في السوق، وقال له: هل لديك صنم للبيع؟ فقال له إبراهيم: أي نوع من الأصنام تريد؟ عندها قال الرجل لإبراهيم: أنا قوي! أعطني صنماً قويّاً جدّاً مثلي! فتناول إبراهيم صنماً، والذي كان أعلى من كل ما عداه، وقال لذاك الرجل: خذ هذا! فقال ذاك الرجل لإبراهيم: وهل هذا الإله قوي مثلي أيضاً؟ فقال إبراهيم له: غبي!.. لو لم يكن هذا الإله قويّاً جداً، لما انتصبت قامته فوق قامات الآخرين. لكني لن أتحدث معك أكثر، حتى تعطيني النقود. وللحال عدّ النقود لإبراهيم، وأخذ الصنم. لكن ما أن سار في طريق العودة، حتى قال له إبراهيم: كم تبلغ من العمر؟ فأجاب الرجل: سبعون عاماً! فقال له إبراهيم : أأنت الذي تنحني للصنم الذي اشتريت، أم هو الذي ينحني لك؟ فقال الرجل: أنا الذي أنحني له. فقال له إبراهيم: على ما يبدو، إذن، أنك أنت إلهه أكثر ما هو الهك؛ كيف باستطاعتك، وأنت مولود قبل سبعين سنة، أن تنحني أمام هذا الصنم، الذي بني الآن بالمطرقة؟ فرمى الرجل بالصنم في سلّة إبراهيم، واستردّ نقوده ومضى. بعدها جاءت أرملة فقيرة، وقالت لابراهيم: أنا أرملة فقيرة، فأعطني إلهاً فقيراً جداً مثلي! وللحال أمسك إبراهيم بصنم، والذي كان أقصر من كل ما عداه، وقال للمرأة: خذي هذا الإله. فقالت المرأة لإبراهيم: هذا الإله ثقيل علي للغاية. ولم تستطع حمله. فقال لها إبراهيم: ياغبيّة، لو لم يكن هذا الوثن أصغر من كل ما عداه، لما وقف أدنى من الجميع. لكنّه لن يتحرك من مكانه، حتى تعطيني النقود. وللحال أعطته المرأة النقود، وأخذت الوثن. وحالما آبت في طريق العودة، قال لها إبراهيم: كم هو عمرك؟ فقالت المرأة: عمري سنوات عديدة. فقال لها إبراهيم: أتمنى لو تزهق روح المرأة! كيف باستطاعتك أن تركعي أمام هذا الصنم، وأنت خلقت قبل سنوات عديدة، ووالدي صنعه البارحة بالمطرقة؟ وللحال أعادت الصنم إلى السلّة، وأخذت من إبراهيم نقودها ومضت في حال سبيلها. فأخذ إبراهيم كل الأصنام، وجاء بها إلى والده، تيراح. فقال أولاد تيراح الآخرون: إبراهيم هذا، لا يلائم بيع الأوثان، ونحن نريد أن نصنع منه كاهناً. فسأل إبراهيم: وماذا سيفعل كاهن كهذا؟ فقال له أحدهم: إنّ عليه تنظيف غرفة الأصنام، سكب الماء أمامها، إطعامها وسقيها.. وللحال وضع إبراهيم الطعام والشراب أمامها، وقال لها: كلوا واشربوا حتى يعرف واحدنا أنكم من صنع البشريّة، وها أنا أقدّم لكم الطعام والشراب. لكن ما من أحد تناول حتى الكميّة الأدنى من الطعام والشراب. ثم استشهد إبراهيم بالمزمور 5:115 وما بعد: لها أفواه ولا تتكلّم، لها عيون ولا تبصر. لها آذان ولا تسمع، لها أنوف ولا تشم. لها أيد ولا تلمس، لها أرجل ولا تمشي. وماذا فعل إبراهيم ؟ تناول عصا، فحطّم كل الأصنام ورماها في فرن وجلس. وبحسب معاسه أبراهام (نشر يلنيك، بيت ها مدراش، I: 25 وما بعد) الذي هو من زمن أحدث من النصوص السابقة، نرى نمرود وهو يترك إبراهيم قرب الأصنام. وبعد ذلك يقال: فرأى إبراهيم أن الملك ذهب إلى قاعة الاجتماعات، فمد يده وتناول فأساً، وحالما رأى صنم الملك أمامه، قال: الإله أزلي، الإله أزلي (1 مل 39:18). وراح يرميها عن قواعدها ويهشمها، وكان بدأ بالأكبر وانتهى بالأصغر، ومن أحدها كان يأخذ الرجلين، ومن الآخر الرأس، الذي كان يسحق منه العينين ومن الآخر القدمين. وهكذا تركها هناك محطّمة كلّها".

جاء بمرود ليجد أصنامه كلّها محطّمة، والفأس بيد الأكبر فيها.

إذن، من النماذج السابقة، ومثلها كثير للغاية لكن القطيعة المعرفيّة التي يفرضها المشايخ تمنع المسلمين عن أي تواصل ذي جدوى مع الثقافة الفعليّة، يتبيّن لنا، بما لا يدع مجالاً للشك، أن نصوصاً كثيرة من القرآن هي الترجمة الحرفيّة ـ وأحياناً نقل دقيق لتشابه العبريّة والعربيّة ـ لنصوص مقابلة من الهاغاده، لا التوراة، حتى لا يتنطّح المشايخ للقول: بما أن النصيّن من الله، لا عجل أن يتطابقا. والهاغاداه، باعتراف علماء اليهود أنفسهم، ليست من الله: إلا إذا كان كهنة حزب الله العربي الإشتراكي، بنفاقهم المألوف، سيزاودون على اليهود بالقول: كل ما جاء به الحاخامون، من سفر التكوين إلى آخر ما ابتدعته مخيّلة رام بام، من الله ـ كي يغطّوا الفضائح الدينيّة أمام أتباعهم.

بعد المواقف المكابرة مما يسمّى مفكّري المسلمين من آرائنا السابقة: ومثلها كثير ـ هل يمكن الحديث عن عقل في الإسلام؟

ملاحظة: أعرف أن ثلاثة أرباع المشايخ لا يمتلكون الأهلية الفكريّة لفهم ما أقول ـ وما قلته؛ وأعرف أن الغالبيّة الساحقة من المسلمين لا يريدون فهم ما أقول: لكن هذا لا يعفي من قول الحقيقة، في زمن الدجل والخوف والمسايرة.

نبيل فياض، 30 يناير 2004

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها