|
 مقالات
سابقة للكاتب
باحث وكاتب سوري
نبيل
فياض
إصلاح.. ما بعد الموت!!!
نبيل فياض 2
يوليو 2004
للمرّة الأولى
في التاريخ العربي الحديث، نجد أنّ الشعوب العربيّة ودولةً
تُتّهم بالاستعماريّة في جانب، والحكومات والأصوليين العرب في جانب آخر.
وللمرّة الأولى في التاريخ العربي الحديث أيضاً، يكون التشويش الحاكم بأمره
فيما يتعلّق بمواقف الحكومات إياها ممّا يُطرح على الساحة العربيّة حاليّاً
من آراء ودعوات تغيير، وهو ما تجلّى بأوضح ما يمكن في ملهاة مؤتمر القمّة
العربي، الذي انعقد دون أن ينعقد. الأمريكان يقدّمون خدمة جلّى للحكومات التي
ترفض الإصلاح حين يتبنون هم أنفسهم هذا الإصلاح ويروّجون له ويسوّقونه. مع
أنّ الأصوات المطالبة بالإصلاح في طول العالم العربي وعرضه لم تعل فقط بعد
سقوط نظام صدّام حتى تتهمها الحكومات الرافضة مبدأيّاً للإصلاح بالعمالة "للمستعمر
الأمريكي".
إنّ ما كتبه
الباحث الاستراتيجي الأمريكي، أنطوني كوردسمان من مركز
csis،
قبيل سقوط نظام صدّام، من أن إمكانية ربح الحرب أسهل كثيراً من إمكانيّة ربح
سلام ما بعد الحرب، أثبت صوابيّة آراء بعض الباحثين الموضوعيين الأمريكان بما
لا يقبل النقاش. وفي اعتقادنا أن البانوراما الوثائقيّة التي اعتمد عليها
الأمريكان بقوّة في إسقاطهم لنظام صدّام لا تنقصها الخروقات. من هنا فإن كسب
سلام ما بعد الحرب يبدو أصعب كثيراً مما تخيّله كوردسمان وكروكر وغيرهما.
مما لا شكّ
فيه أنّ هنالك أطرافاً عراقيّة خاسرة بأية حال من الدخول الأمريكي للعراق.
وهؤلاء عموماً هم تلك الدوائر الأقرب التي كانت تتحلّق حول صدّام للإفادة ما
أمكن من خيرات بلاد الرافدين التي احتكرتها ردحاً من الزمن عصابة اللصوص
والقتلة البعثيين. وحين قلب الأمريكان النظام الفاشي في العراق، اعتقدوا ربما
أن ضرب المركز يمكن أن يطرد أو يفكّك أو ينهي مرّة وإلى الأبد تلك الدوائر
أحاديّة المركز الملتفّة حول رأس الإرهاب. لكن الواقع أثبت العكس ذلك: انفصلت
الدوائر عن مركزها الأساس لتكوّن لذواتها مراكز خاصّة ستظلّ تدور حولها
مادامت تملك القدرة على ذلك. بوضوح أكثر، يعرف تماماً الذين كانوا يحيطون
بصدّام أنهم انتهوا، بأية حال. لذلك لا مانع لديهم أن يكون لإنهائهم ثمنٌ ما
يدفعه الأمريكان وحلفاؤهم من العراقيين. لكن قدرة هؤلاء على المناورة
وبالتالي البقاء يقرّرها عنصر الزمان وحده، وجزء هام للغاية من ذلك يعتمد
أساساً على وضعهم المادّي ومدى إمكانيته على دعمهم بما يكفل لهم الاستمرار في
مناوئتهم للتحالف الأمريكي العراقي-الرسمي؛ وهذا أيضاً متعلّق بقدرة الحكومة
العراقيّة على الصمود وضبط الموارد الماديّة للمناوئين. بالمقابل، فقد ساعد
التحالف غير المعلن الصدّامي-الأصولي والفلتان الأمني بعد سقوط صدّام في
انتشار الحركات الأصوليّة المعادية لقوى التحالف وحلفائها من العراقيين على
حدّ سواء. وإذا كان إنهاء التمرّد الذي تقوده بقايا النظام المخلوع يتعلّق
أولاً وأخيراً بتجفيف القدرات الماديّة لهؤلاء الذين يقاتلون بلا قضيّة غير
دفع الموت عن ذواتهم كأشخاص ملوثين حتى القمّة بجرائم النظام الآفل، فإنّ
التصدّي للأصوليين، المسكونين بهلوسات ما ورائيّة عفا عليه الزمان، يبدو
الأصعب؛ وغسيل الدماغ المبكّر الذي يتعرّض له الأصوليون هو الأعصى على العلاج
بين كلّ أنواع الخلل النفسي التي يمكن للمرء مصادفتها. من هنا، فاستئصال
الحركة الأصوليّة، بشقيها السنّي والشيعي، بالوسائل المعرفيّة أوّلاً لكن ليس
أخيراً، هو المفصل الأهمّ في نقل العراق من حالته الراهنة إلى وضع استقرار
مقبول. ولا بدّ هنا من تعاون دول المحيط العراقي في ضبط تسلّل الإرهاب
الأصولي إلى الداخل العراقي.
إن ما نراه من
مستقبل العراق لا ينبئ إلاّ بالخير، على العراق أوّلاً وعلى محيط العراق من
الأقطار الناطقة بالعربيّة في منطقة الشرق الأوسط ثانياً. فالعراق هو الدولة
الشرق أوسطيّة الأغنى على الإطلاق؛ وإضافة إلى المخزون النفطي الهائل،
فالعراقيّون، بتعدّديتهم الهامة وإرثهم الحضاري الأعرق وإمكانيّات الحريّة
التي أتيحت لهم الآن بعد تحريرهم من النظام الفاشي البائد، هم الأمل شبه
الأوحد في تغيير خارطة الشرق الأوسط جذريّاً. إنّ عراقاً حرّاً ديمقراطيّاً
ليبراليّاً يمثّل كلّ سكّانه، رجالاً ونساء، مسلمين ومسيحيين وصابئة
ويزيديين، عرباً وأكراداً وتركماناً، سنّة وشيعة، سيكون حتماً الأمثولة لكل
الشعوب- لا الحكومات - التي تعاني، بطريقة أو بأخرى، من قمع ممنهج، وإن
اختلفت الشعارات. إنّ عراقاً غنيّاً يعيش سكّانه أحد أشكال البحبوحة
الاقتصاديّة سيكون حتماً الأمل بالنسبة لشعوب شرق أوسطيّة يسرق حكّامها أموال
الوطن ويتركون بقيّة الناس على جمر الفقر المدقع. إنّ عراقاً شفّافاً بصحافة
حرّة وإعلام حر وآراء حرّة سيكون معبراً لتلك الشعوب المقهورة في الشرق
الأوسط للخروج من ظلمة التوتاليتاريّة المعادية لمنطق العصر والحياة إلى عالم
مختلف بالكامل.
إنّ المطلوب
من دول الغرب الليبراليّة، التي نرى فيها عمقنا الاستراتيجي في معركة الوصول
إلى الحريّة، والتي أدركت تماماً، بعد مهزلة بن لادن، أنّ رعاية التطرّف
الأصولي هي القطب النقيض لمصالحها، هو فقط دعم العراق في طريقه المليء
بالصخور للوصول إلى برّ الأمان؛ بمعنى التوقّف بالكامل عن إظهار أنها تريد
فرض مشروع إصلاحي على دول الشرق الأوسط بالقوّة. إنّ هذه الدول غير راغبة
أصلاً بالإصلاح: وإلاّ فما الذي يمنعها عن القيام بأبسط الخطوات التي يمكن أن
توحي للشعب المقهور أن هنالك بوادر رغبة بالتحسين؟ وحين تعلن دول المعسكر
الليبرالي عن رغبتها بتغيير في الشرق الأوسط، فهي تساهم، بشكل أو بآخر، في
إعاقة هذا التغيير. وهذه الشعوب التي غسلت حكوماتها أدمغتها بأن عدوّها
الأوحد هو الغرب الرأسمالي الإمبريالي الكافر – لا اللصوص الذين يسرقون الناس
سرّاً وعلناً – سوف تستغلّ اللاوعي الجمعي المعادي للغرب في نسف أي مشروع
تغييري، تحت عناوين برّاقة كاذبة، مثل محاربة الغرب ومشاريعه. وكلّ من يعرف
ببواطن الأمور يدرك دون تردّد أن المقصود بذلك ليس الغرب الذي يقف للمرّة
الأولى مع الشعب لا مع الحكومات التي دعمها على الدوام، بل الحفاظ على
المكاسب التي تُجنى بأفضل ما يمكن في الحالة الراهنة من تغييب للديمقراطيّة
والشفافيّة وأدنى متطلّبات الحريّة.
ما هي العلاقة
بين إسرائيل وإعاقة المشاريع الإصلاحيّة؟
سؤال غريب
مزعج للسمع نجيب عليه بسؤال أكثر غرابة وإزعاجاً؛ يقول: كيف يمكننا أن نفسّر
مجيء الفرنسي أو الأمريكي أو الروسي أو الأثيوبي من الأقليّات اليهوديّة في
تلك الأقطار إلى بلد مليء بالمشاكل كإسرائيل، ليحمل فيها ساعة وصوله أحياناً
البندقيّة لقتال أناس لا يعرف عنهم شيئاً؛ في حين نجد أن مواطن هذه الدولة
العربيّة أو تلك، من المحيطة بإسرائيل، على استعداد لدفع رصيد العمر في سبيل
الهجرة من وطنه أو أن يُعفى من خدمة العلم؟ التفسير الأوحد هو ذلك الذي يمكن
تطبيقه على لغز تبخّر جيوش صدّام التي تجاوزت الملايين مع أوّل حذاء أمريكي
دخل بغداد! الفلاشي الأثيوبي يشعر أنّ له في فلسطين التي لم يسمع باسمها من
قبل أكثر ممّا أشعر شخصيّاً أنّ لي في سوريّا، التي أحارب فيها منذ زمن طويل
في سبيل تحرير العقل من ثنائيّة الخرافة والاستبداد! بلد ما يزال يشعرك أنّك
إذا أردت التنفّس أو الحب أو الكتابة يجب أن تذهب إلى لبنان أو قطر أو
الكويت، هو بلد لا يربطك به غير جنسيّة تشتهي بيعها وجواز سفر تتمنّى مصادرته
وبطاقة شخصيّة أضعتها منذ زمن طويل ولا تبحث لها عن بدل ضائع: ولن تبحث! بلد
يشعرك ليل نهار أنّك ممتلك فيه لهذا أو ذاك، وأنت فيه لا تمتلك شيئاً، لا
يهمّك في النهاية إن تركته أو بقيت فيه، إن تبعّث أو تأمرك، إن تأسلم أو
تهوّد! خاصّة وأننا في سوريّا نفتح أعيننا على مثل صادق يقول: من تزوّج أمي،
أناديه ياعمّي!!!
حين اخترع
حبيب الملايين من أنصاف المعتوهين، المدعو جمال عبد الناصر، شعاره الأغبى: لا
صوت يعلو على صوت المعركة؛ لم يكن المقصود بذلك المعركة مع إسرائيل، التي
خسرها ووزير-زير دفاعه، المنتحر عبد الحكيم عامر، بامتياز لا يعادله غير
امتياز هذا الوزير-الزير في علاقاته الجنسيّة مع أنصاف الفنانات، بل المعركة
مع أعداء الفساد الذي استشرى من صلاح نصر إلى أصغر موظف في وزارة الأوقاف!
وهذا الشعار الأكثر إفادة لكلّ الاستبداديين تمّ استيراده إلى معظم دول جامعة
شعبان عبد الرحيم العربيّة من جزر القمر التي أرجّح أن سكانها يعتقدون أن
إسرائيل إحدى جزر المحيط الهادي، إلى اليمن التي ذكر لي باحث ألماني صديق
أنها أكثر مكان في العالم لن يشعر فيه آدم وحوّاء إذا عادا إلى الحياة
بالاغتراب، حتى آخر القائمة المريعة.
لماذا يشعر
الفلاشي الذي وصل قبل نصف ساعة إلى مطار بن غوريون أنّه مواطن، كامل
المواطنيّة، في دولة لا يربطه بها شيء؛ في حين لم أستطع يوماً – وأتحدّث هنا
عن ذاتي كي لا أزعج مطلق آخر – الشعور أنّي مواطن سوري، بالحدّ الأدنى؟ ثمّة
معلومات موضوعيّة يمكن لي إيرادها هنا، قد تفيد في الإجابة على هذا السؤال
غير المريح:
قبل سنوات
أُخضع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، بنيامين نتنياهو، وزوجته سارة ،
لجلسات استجواب متعدّدة من قبل الشرطة في إطار قضيّة فساد تورّطت بها زوجته.
المضحك-المبكي في الأمر أنّ قضيّة "الفساد" التي تورطّت بها السيّدة سارة، هي
الاشتباه في استعدادها لخدمة أحد المقاولين مقابل تنفيذ ترميم لشقتها الخاصّة
في القدس، ولكن كلفتها سدّدت من أموال الدولة. ثمّة قضيّة أخرى استجوبت على
أثرها سارة وزوجها تتمثّل في حصولهما على هدايا ثمينة عندما كان بيبي رئيساً
للوزراء، والتي تعتبر بموجب القانون ممتلكات عامّة.
عام 1977،
استقال الوزير الأوّل الإسرائيلي الراحل، اسحق رابين من منصبه، بعدما كشفت
صحيفة هآرتس النقاب عن أن زوجته الراحلة ليئة تمتلك حساباً مصرفيّاً في
الولايات المتحدة؛ ومعروف أن رابين كان وقتها سفير إسرائيل في واشنطن، وحين
تفتح زوجة السفير حساباً مصرفيّاً لها في الولايات المتحدة فذاك يعتبر خرقاً
لقانون الرقابة على العملات، الذي كان معمولاً به في إسرائيل. وسبق أن حكم
علي رابين عندما كان موظفاً في وزارة الدفاع بالسجن سنتين لقبوله رشاوي من
تجار يتعاملون مع الوزارة.
وكانت فضيحة
اختلاس هزت حكومة اسحق رابين عام 1977 عندما انتحر وزير الإسكان ابراهام
أوفير. ومن قضايا الفساد التي اجتاحت إسرائيل آنذاك هي إبعاد حاكم بنك
إسرائيل أشر يادلين 53 عاماً عن منصبه بعد سبعة أسابيع من تعيينه في المنصب
من قبل حكومة رابين، وكان قبض عليه بتهمة قبول الرشوة والاحتيال.
وقبض كذلك
على ديفيد
بيليد مدير عام الجمارك وأوقف عن عمله بعد اتهامه بقبول عدة رشاوي بينها رشوة
بمبلغ 35 ألف دولار. كما أنه متهم بالاحتفاظ بحساب في أحد البنوك السويسرية
خلافاً للقوانين الإسرائيلية. وحكم علي
مايكل تسور مدير عام وزارة التجارة سابقاً بالسجن 15 عاماً عام 1975 بعد
اعترافه بارتكاب جرائم
الاحتيال والرشوة وتحويل العملة الأجنبية واختلاس 3 ملايين من شركة سياحية
يرأسها.
في الثالث من
أيلول-سبتمبر، قامت القيامة في الصحافة الإسرائيليّة بسبب اعتقال وزير
الداخليّة آنذاك ورئيس حزب شاس الديني المتطرّف، الحاخام أرييه درعي، لقبوله
رشوى، في حين أنّ رئيس الدولة السابق العجوز، عزرا وايزمن، يُرسل إلى فيلّته
في قيصريّة وهو الذي تقاضى المبلغ ذاته من جهة أخرى. والسبب الأوحد المبرّر
لهذا السلوك غير المبرّر أخلاقيّاً هو كون الرئيس الإسرائيلي تجاوز كثيراً
السن التي يستطيع المرء فيها تحمّل السجن. مع ذلك، فالصحافيّون
الإسرائيليّون، الذين لا توظّف دولتهم أشخاصاً من نمط أحمد ضرغام أو علي عقلة
عرسان يعدّون على الكتّاب أنفاسهم، كان بينهم من هاجم بشدّة قرار الحكومة،
واعتبره يحمل الطابع التمييزي المعادي لليهود الشرقيين، ومن هؤلاء نذكر
الدكتور هنري روزنبرغ.
وبعكس الحكام
العرب تماماً، فإن "شقيق" رئيس دولة إسرائيل موشيه كتساف، المدعو ليئور
كتساف، عمدة قريات ملاخي، تعرّض لتحقيق جنائي في اليوم الذي أعقب وصول أخيه
إلى سدّة الرئاسة، دون أن يحول ذلك بين القانون وتطبيقه، حتى وإن كان المجرم
المفترض شقيق الرئيس.
إن هذه
الأمثلة، وغيرها كثير، هي أحد الأسباب التي يمكنها تفسير قوّة إسرائيل
وتمكّنها على الدوام من هزيمة من يعاديها. فالمواطن لا يدافع عمّا لا يشعر
أنه ملكه. المواطن لا يدافع إلاّ حين يشعر أنه مساو للكبار في الحقوق
والواجبات!
في دول شرق
أوسطيّة ناطقة بالعربيّة لا يكفي المواطن فقره وجوعه واستقراره تحت أعلم
النعوش مقلوبة الغطاء، راضياً مرضيّاً، بل مطلوب منه أيضاً تحت عنوان
"المعركة الأكبر" أن لا يشكو الفقر ولا الجوع ولا ملء النعوش تلك. مع العلم
أنّه لو عرف الإسرائيليّون أنّ القمع يمكن أن يوصلهم إلى انتصارات أهم لما
تردّدوا لحظة في تطبيقه، على الجميع.
البارحة كانت
راية المصادرة تحمل نجمة سداسيّة؛ واليوم تحمل أنجماً خماسيّة يزيد تعدادها
على الخمسين! في حين أن العلم الفعلي للقمع مشكّل من ألواننا التقليدية،
الحمراء الخضراء البيضاء السوداء، وحده الشعار المثبت فوق اللون الانتصافي
الأبيض يختلف بين نسر هنا ونجمات هناك وكلمات مكتوبة بخط قلق عند الطرف
الثالث.
يعدوننا
بالإصلاح؟ لا ننكر ذلك؛ منذ أربعين عاماً ونحن نوعد بالإصلاح! وسوف ننتظر
أربعين سنة أخرى؟ الإصلاح آت: لكنه إصلاح ما بعد الموت!
|
