الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

باحث وكاتب سوري نبيل فياضمقالات سابقة للكاتب

باحث وكاتب سوري نبيل فياض

 


تعلّم الإسلام في خمسة أيام

 14 يناير 2004

حين كنّا صغاراً، وكانت الثقافة، لا الدين وشراشيبه كما هي الحال اليوم، من أساسيّات التربيّة التي كنّا نتلقّاها في المنزل والمدرسة التبشيرية الدانماركيّة، كان البحث عن أسرع طريق لتعلّم اللغات أحد أهدافنا البريئة الطائشة. لهذا كنّا نركض في الصيف إلى مركز حمص، مدينتي الملوّثة غير الجميلة، كي نشتري من أمام السرايا كتباً مثل: تعلم التركية في خمسة أيام؛ أو، تعلّم البرتغاليّة في سبعة أيام؛ أو، تعلّم الألمانيّة في تسعة أيام؛ وذلك بحسب أهمية اللغة وقوّتها. وهكذا، كنّا نرطن بألفاظ قليلة مثل، "شوك غوزال أو بوّا جيا أو في هايسن زي"؛ وكنا، لطيشنا البريء، نعتقد أنّنا بذلك ختمنا علوم اللغات وصار يمكن أن نعمل مترجمين محلفين أو باحثين لغويين أو ما شابه..

كانت أيام!

وكبرنا؛ وعرفنا أن أبسط لغات العالم لا يمكن تعلّمها بهذه الطريقة. فاللغة، حامل ثقافة الشعب وروحه، أعقد من أن يتعلّمها المرء في عشرة أيام، أو عشرة شهور، وربما عشر سنوات.

بالمقابل، رغم أن بيتنا لم يكن الأزهر الشريف، إلاّ أن خالتي المغرقة في تدينها، كانت تلحّ بإزعاج أن المسلم بحاجة إلى ثلاثة أعمار فوق عمره كي يتعلّم أصول دينه الحنيف. بل إنها أرسخت في لا وعينا أن معرفة الفروق بين المذاهب يمكن أن تحتاج إلى عشر سنوات من الدراسة المتواصلة: المذاهب في نظرها كانت تلك الأربعة التي تتبع لأهل السنّة والجماعة ـ الباقون كانوا عندها مجرّد كفّار ذاهبين إلى الجحيم بلا إذن ولا دستور. ولأن خالتي كانت متعلّمة وأكبر منّا بكثير، كنّا نصدّقها.

كانت أيام!

وكبرنا؛ وعرفنا أن هذه البنى المتوارثة المسمّاة بالإسلام لا تحتاج لأكثر من عشر ساعات من نصف جهد عقلي كي يعرف الإنسان عنها كلّ شيء. كان طيش أطفال حين صدّقنا خالتي؛ وكان غباء محزناً حين أخذنا كلامها على محمل الجدّ زمناً لا بأس به! الإسلام يمكن اختصاره في مقولات خمس لا حاجة بالمرء كي يعرف غيرها.

إنّ أكثر ما يدفعنا إلى تقديم هذا المقالات التي تحمل عنوان "تعلّم الإسلام في خمسة أيام" هو رؤيتنا لبعض الغربيين تتدافع إليهم محطّات التلفزيون النفطيّة؛ يعلنون بسذاجة أغبياء الغرب المزعجة: "نهن [نحن] وجدنا المهبة [المحبة] وهكوك [وحقوق] الإنسان في الإسلام". وتكبر الكارثة التي تجتاح الأخضر واليابس من تلك الشاشات حين تخرج علينا امرأة محجّبة بيضاء زرقاء العينين لتخبرنا أن الإسلام هو الديانة الوحيدة في هذا العالم التي تصون كرامة النساء: [المرأة شر كلّها؛ المرأة خلقت من ضلع أعوج.. فاستمتع بها على اعوجاجها؛ لا يقطع الصلاة إلا الكلب والحمار والمرأة؛ الشؤم في الدار والمرأة والدابّة؛ لا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها]؛ لكن الكارثة تهول لتصبح بحجم انقراض الديناصورات حين تتحفنا زنجية محجّبة بحجم الفيل الأفريقي حول آرائها عن الإسلام الذي لا يوجد فيه أي نوع من التمييز العنصري؛ بعكس الديانات الأخرى: وكأن هذه الخرتيتة السوداء بولتمان أو هانس كونغ أو شلايرماخر؛ [يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106:3)؛ إذا بشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم (58:16)؛ يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة (60:39)].

الإسلام ليس الديانة البوذية العظيمة كي نتعامل معه بجدّية: إنه إعادة سكب، باللغة العربية، لمقاطع مسروقة بطيش نزق من هالاخوت اليهود وهاغادوتهم، ولا أعتقد أن كلّ ما خلّف اليهود من هالاخا وهاغادا يستحق من الإنسان أن يصرف فيه أي نوع من الطاقات الذهنيّة! من هنا، فهذه الدروس الخمسة كافية تماماً لمن يريد أن يفهم الإسلام على حقيقته، لا كما يقدّمه حاخام النفاق المثقف، محمد عمارة، عبر محطّات بدائيي النفط.

اليوم الأوّل:

الدرس الأوّل: الإرهاب!!!

الإله في كل الأديان التي تؤمن بوجوده أقوى من البشر: هو الذي يتحكّم بهم، يخلقهم، يميتهم؛ لكن تصوّر هذا الإله يختلف بحسب الظروف الموضوعيّة التي جاء من خلالها هذا الإله إلى الوجود.

الشيء الأساس الذي شغل بال محمد، وهو يؤسّس لديانته الجديدة، الآخر المخالف. ومع أن ما من أحد يمتلك أدنى دليل على صحّة مفاهيمه الما ورائية غير الظنون، فقد كان هاجسه، منذ البداية الأولى، إزالة كل مفاهيم الألوهة الأخرى، باستثناء المفهوم الذي تملّكه: الله! ولمّا حاول مرّة استرضاء المكيّين الأرستقراطيين عبر مناشدة آلهتهم الخاصّة غير الله، يبدو أنه أحسّ وقتها بأن ذلك قد يقوده إلى تنازلات أخرى فاعتبر أن الآيات التي نطق بها في مدح اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى كانت بوحي الشيطان: من هنا جاء مفهوم الآيات الشيطانيّة. ـ مع ذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه استدراكاً بقوّة هنا: ما حدود قدرات هذا الشيطان الخارقة حتى يكون باستطاعته أن يمرّر على لسان أوّل خلق الله وخاتم رسل الله ألفاظاً شركيّة، ضمن ما يفترض أنه كلام إلهي؟

كان محمد يريد، باستخدام مدروس لمفهوم الله، أن يوحّد العرب تحت راياته، وأن يكرّس من ذاته زعيماً أوحداً لهؤلاء العرب، فهو رسول الله وممثله على الأرض. كان محمد يرغب بسلطوية مطلقة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مكاسب ماديّة ومعنوية، تحت رايات التوحيد التي رفعها عالياً؛ لذلك كان لا بدّ من إنهاء أدنى وجود لأي إله آخر: لا لشيء، إلاّ لأن أي إله آخر قد يشكّل ممثله على الأرض، إن وجد، تهديداً قويّاً لسلطة محمد الدنيويّة. وهكذا، فقد قبل بإسلاميّة كاذبة لمجموعة من المكيّين غير المؤمنين به، كأبي سفيان مثلاً، فقط كي يتأكّد أنه لن يسمع علناً باسم إله آخر في مكّة غير الذي اختاره هو.

لم يكن محمد يرغب بأي منافس له لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر على السلطة. السلطة التي نقلته من عالم الفقر والعوز والاضطرار للزواج من امرأة تكبره بخمسة عشر عاماً لأنها غنيّة إلى حاكم دنيوي مفرط في غناه يتزوج صباح مساء من أجمل جميلات العرب وأصغرهم! فهل يعقل أن يسمح لأحد أن يمدّ يده إلى هذا الإله الذي أنعم عليه وما يزال ينعم على خلفائه بميّزات لم يكونوا يحلمون بها لولاه. بل إن هاجس التسلّط والأنا وصل بمحمّد إلى درجة أن يأمر بقتل من يهجوه أو يغنّي أشعاراً تنتقده هو وليس الإله الذي تبنّاه.

ووصل الأمر بالمسلمين تخوم اللامعقول حين رأوا أنه لا يجب فقط إزالة أي مفهوم آخر للألوهة غير الله من جزيرة العرب، بل يجب إزالة كل من يؤمن بهذا الشكل الآخر للألوهة من المكان، وتجلّى ذلك واضحاً في الحديث المنسوب لمحمّد الذي يطلب أن لا يبقى دينان في جزيرة العرب.

بالمقابل، وكما أشرنا باستمرار ودلّلنا على ذلك بالبراهين القطعية، فإن محمداً الذي لم يكن أكثر من ناقل باللغة العربية لنتف من التراث العبراني اليهودي، في القرآن تحديداً، أراد القضاء على أي شهود على مصادر مقولاته؛ لذلك كان يفتعل المواجهات مع القبائل اليهودية في المدينة حتى يطردهم من عاصمته السياسيّة؛ بل إنه قضى على كل ذكر بالغ من بني قريظة، القبيلة اليهوديّة الهامّة جداً في تلك الآونة، وأجبر أطفالهم على أن يتربوا كمسلمين، وسبى نساءهم، ومنهن اختار ريحانة. واعتقادنا أنه لم يكن يخطر بباله قط أن يأتي زمان يظهر فيه يهود مثقفّون للغاية في التراث الإسلامي، ومحافظون في الوقت ذاته على تراثهم، من خارج كل المنطقة العربيّة، كي يكشفوا أصول التراث الإسلامي. وهنا لا بدّ أن نشكر الباحثين اليهود المعاصرين، من أمثال أبراهام غايغر ويوسيف هوروفيتس وهاينريش شباير، الذين كشفوا بجهودهم الطليعيّة وبدقّة وموضوعيّة ـ أستثني هنا غايغر إلى حدّ ما ـ المصادر الفعليّة لهذا التراث. مع ذلك؛ ورغم تحفظاتنا على أسلوب غايغر الذي أعتقد أنه كان متعصّباً لليهودية، فالواقع يقول إنّ غايغر على وجه التحديد، قام بفتح تاريخي في كتابه "ماذا أخذ محمد عن اليهودية؟"، الذي شكّل أساس البحوث التفصيلية الهامة لهاينريش شباير في عمله الضخم "الحكايا الكتابيّة في القرآن"، الذي ترجمنا فصوله الثلاثة الأولى إلى العربيّة: تلك المتعلّقة بخلق العالم والعائلة البشريّة الأولى، نوح وإبراهيم. إن مراجعة غير متسرّعة لما كتبه هؤلاء تظهر بدقّة شديدة نوعيّة إطّلاع محمّد على الهاغاداه [أشير هنا إلى أن علاقتي بالهالاخا غير وديّة: ربما لنفوري الفطري من الشرائع المكبّلة للعقل واعتباري دائماً أن الشريعة لخدمة الإنسان لا العكس] اليهوديّة: إنها معرفة سطحيّة متشظيّة أدّت به أحياناً إلى متاهات فشل حتى الآن كلّ المفسّرين والمتأوّلين في تقديم طوق نجاة للخروج منها: إلاّ إذا اعتبرنا ذلك النوع من الحلول المطمئن ذاتيّاً للباحثين عن أسرع وسيلة للهروب من الشكوك وإن بالكذب على الذات طوق نجاة لا سبيل إلى إغراقه؛ من ذلك مثلاً المتاهة الشهيرة في الخلط بين شخصيّة مريم أم المسيح ومريم أخت هارون وموسى وابنة عمران ويوكابد؛ والمتاهة الأقلّ شهرة في الخلط بين عجل سفر الخروج وعجل سفر هوشع فأضحى من ثم موسى معاصراً للسامري: مع أن المساحة الزمنيّة المفترضة بين تأسيس اليهودية وبروز السامرية تمتد مئات السنين ـ ومثل ذلك كثير.

الحديث السابق يجرّنا إلى التوقّف بنوع من التأمل التشكيكي عند ادعاء عوام المسلمين، بمن فيهم تلك الطبقة المسمّاة بالعلماء، أنّ الإسلام هو الديانة الأصح بين كل عقائد العالم لأنه يزداد قوّة، يوماً بعد يوم، في قلوب أبنائه؛ في حين تشهد الديانات الأخرى تراجعات كثيرة. لكن الوجه الآخر للعملة الذي يتجاهله المسلمون عموماً، وعلى رأسهم الطبقة المسمّاة بالعلماء، هو أن ما أدى إلى تلك التراجعات في الديانات الأخرى، كالمسيحيّة واليهوديّة، هو إعمال العقل في النقل؛ بمعنى تسلّل الفكر النقدي إلى التراث، وتفشّي الحريّة والعلمانيّة في أوساط اللاهوتيين، الأمر الذي يعمل ما يسمّى بعلماء المسلمين وحماتهم من أولياء الأمر الخائفين من أي حركيّة اجتماعيّة على منعه بشتى السبل: ومن لا يصدّق ذلك فليسألني ويسأل فرج فودة ونصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ..

إن حقبة من حياة محمّد ـ كيسوع المسيح تماماً ـ ، والتي يمكن أن نصفها بأنها مرحلة التكوّن الفكري عنده، بين الخامسة والعشرين والأربعين، غامضة بالكامل؛ بالمقابل، فأمهات كتب التراث الإسلامي حبلى بالأحاديث عن تردّد محمّد على بيت المدراس [ بيت ها مدراش ] اليهودي، ونقاشه هناك لأحبار اليهود؛ من ناحية أخرى، ثمة دليل قرآني داخلي يخبرنا أن اليهود كانوا يبيعون المسلمين، دون تحديد لشخص الشاري، آيات يزعمون أنها من كتبهم المقدّسة، وقد عنفّهم القرآن ليس لبيعهم تلك الآيات إلى العرب، بل لأنهم كانوا يغشوّن في آيات زعموا أنها من كتبهم ولم تكن كذلك: "لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْد اللَّه لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً"؛ فمن كان يشتري تلك الآيات؟ وهل باع اليهود آيات أخرى غير تلك التي اكتشف أنها مغشوشة؟ وما هو المعيار الذي استند عليه محمد حتى اكتشف غش تلك الآيات؟ وما الهدف الفعلي وراء شراء الآيات إذا كان محمد يأتيه وحي من ربّه يعرّفه على كل شيء؟ وبأي لغة كانت تباع الآيات تلك؟ ـ مع ملاحظة أن النبي كان يمنع أتباعه عن أي احتكاك مع أسفار أهل الكتاب المقدّسة وربما غير المقدّسة.

هذا الأمر يطرح علينا أسئلة كثيرة قد يبدو بعضها مستحيل الإجابة حاليّاً: ما هو شكل اليهوديّة التي كانت سائدة في غرب جزيرة العرب زمن محمّد؟ من أين أتى محمّد بتلك القصص الكثيرة المشابهة في شخوصها ذات الطابع الميثولوجي لشخصيات من الهاغاداه اليهودية، وإن كان تلفّظ الأسماء بالعربيّة مختلف نوعاً ما عن مثيله العبراني، وبالتالي يفقدها معناها الرمزي الميثولوجي: غفرائيل وجبريل؛ ميخائيل وميكايل؛ أبراهام وإبراهيم؛ موشيه وموسى؛ دافيد وداود؛ شلومو وسليمان..؟ إن قصصاً كالخليقة والطوفان، بمعرفة القاصي والداني ممن يمتلك الحدّ الأدنى من الإطلاع العلمي، أضحت تدرّس في المراكز اللاهوتيّة المحترمة على أنها نتاج مخيّلة ليس إلاّ، وهي متطابقة بالكامل بين الهاغاداه والقرآن، أسماء وحوادث وشخصيات، فهل يوجد تفسير لهذا غير أن الأحدث أخذ عن الأقدم منه؟ لماذا طرد محمد اليهود وأبقى على أقليّات أخرى، كالمسيحيين، مثلاً؟ [بعكس ما يعتقده كثيرون، فإن العلاقة بين الإسلام، الديانة الرعوية، والمسيحية، الديانة الزراعيّة، غير أساسيّة: رغم إشارة القرآن إلى أن عيسى هو المسيح، كلمة ـ لوغوس ـ الله ودفاعه القوي عن مريم؛ بالمقابل، فالعلاقة، باعتقادنا، عضويّة للغاية بين الإسلام واليهوديّة، رغم أن الأخيّرة تطوّرت نوعاً ما باتجاه أن تكون ديانة زراعية بعد أن نشأت رعوية بحتة]! ما سرّ استعمال المسلمين، حتى الآن، للقب أطلق على طائفة صغيرة من المسيحيين، هي النصارى، كتسمية عامّة تعني المسيحيين جميعاً؟ ونحن نعلم أن اليهود، حتى الآن، يستخدمون اللقب "نصارى" كتسمية للمسيحيين، ولهم في ذلك مبرراتهم: فهم إن أسموهم مسيحيين فهذا يعني اعترافهم العلني بيسوع على أنه المسيح المنتظر، مع العلم أنّ المسلمين، كما قلنا، يعتبرون أن عيسى [يسوع] هو المسيح؟

الباحثون الإسلاميون فاشلون بالكامل في الرد على كثير من التناقضات في بناهم المعرفيّة ونصوصهم المتوارثة؛ اليهود، منذ أيام سبينوزا وربما قبله ابن ميمون، وخاصّة بعد فلهاوزن، استطاعوا حل بعض مشاكل العهد القديم عبر التعامل معه كنص تاريخي، وإن كان ذلك لا يعني بالضرورة إسقاط القداسة عنه؛ المسيحيون أيضاً حقّقوا فتوحات هامّة في التعامل العقلاني مع تراثهم المقدّس أو شبه المقدّس عبر ما يسمّى بالنقديّة الكتابيّة: وهكذا فنظرية التقاليد الهامة للغاية في مقاربة الكتاب المقدّس، أضحت مسألة أقل من عادية لأبسط طالب لاهوت في أي مكان من العالم.

مشكلة المسلمين الأولى والأخيرة هي اللون الأسود. فالمسلمون لا يرون في العالم غير لون واحد، أدعوه بالأسود. وهم غير مؤهلين ذهنيّاً لاستيعاب أن العالم مليء بالألوان. كانت المعضلة الكبرى التي واجهت المسلمين، بعد أن غادروا بيئتهم ذات اللون الأوحد، اكتشافهم أن الألوان أكثر من أن تحصى: وكان أمامهم في مواجهة هذه الحالة المستجدّة حلاّن: إما أن يضعوا عصابة ـ هل اتهامهم بالتعصّب مردّه هذه العصابة؟ ـ على أعينهم وينكروا بالتالي أمام أنفسهم أولاًّ ومن ثم أمام الآخرين وجود لون آخر غير الذي يرونه من تحت العصابة، أو أن يعمدوا إلى تمزيق الألوان الأخرى التي تأبى إلاّ أن تتباهى بصراخها الفرح مقابل دَكانة الأسود!

أي لون آخر غير اللون الأسود الذي يلف عيون المسلمين، برأي نبي المسلمين، هو منكر؛ أي عرف متداول في بلاد المسلمين أو خارجها غير العرف المكرّس دينياً من قبلهم منكر. ـ وليس في الأمر مشكلة؛ فكثير من العقائد والأديان تستنكر ما هو متخارج عن أعرافها! لكن الكارثة الإنسانية في الإسلام هي القول المنسوب إلى محمد؛ الذي فحواه: من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فبلسانه: وذلك أضعف الإيمان. ومن هذا الحديث جاءت كلّ الإرهابيات الحاليّة.

المنكر أو الغريب أو المستهجن يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان: فنحن، على سبيل المثال، نرى في الشادور للنساء، والجلابيب القصيرة واللحى غير المهذّبة كلحية التيس الأحول للرجال، أكبر منكر جمالي يمكن للعين أن تقع عليه؛ مع ذلك، فهذا المنكر لا يتعدّى بالنسبة لنا حدود الخيار الجمالي الشخصي: للأنثى كامل الحق في التشبّه بأكياس الزبالة غير الثابتة وللذكر مطلق الحريّة في اتخاذ التيس الأحول رمزاً وأمثولة. ـ ولا ندعو إلى تغيير هذا المنكر لا باليد ولا بالقلب ولا باللسان. بالمقابل، فالجمال ـ عارياً كان أم غير عار ـ الذي يبعث في القلب الفرح وفي الروح الشبق وفي العين الأمان هو أبعد الأمور عن المنكرات كما يصنفها الإسلام. ما من اثنين في هذا العالم يمتلكان الموازين ذاتها لما هو مستنكر وما هو غير مستنكر: فلماذا يريد أحدهم أن يفرض موازينه على غيره، ما دام هذا الغير لا يزعج غيره بخياراته؟ وكيف يمكن تبرير أن يستخدم أحدهم يده، أي الإرهاب وفق مصطلحاتنا الدراجة هذه الأيام، لتغيير ما يعتبره بالنسبة له منكراً خاصة إذا كان المنكر لا يزعج أحداً؟

حق المواطنية في اللاوعي الإسلامي يعني أن يكون المرء مسلماً. وحين ترك المسلمون جزيرتهم المعزولة المغرقة في بداوتها وفقرها وتصحّرها وإرثها اليهودي الرعوي، وجاءوا طلباً للمغانم إلى البلدان المحيطة الغنيّة ذات الحضارات الزراعيّة الموغلة في عمقها التاريخي، لم يستطيعوا إلغاء الآخرين وجوديّاً بسبب كثرتهم، فألغوهم مواطنيّاً، رغم أن الملغيين هم أبناء الوطن الأصليون واللاغين هم الغزاة، عبر ما سمّي بأحكام أهل الذمّة المنسوبة إلى عمر بن الخطّاب. ـ مع ملاحظة أن هذه الأحكام، التي تحيل المواطن غير المسلم إلى كائن بلا تصنيف، لا تشمل غير اليهود والمسيحيين، بمعنى أن القتل هو المصير الوحيد الذي يجب أن يواجه من هو غير مسلم أو يهودي أو مسيحي: بما في ذلك البوذيون والهندوس واللادينيين والملحدون.. إلخ.

إذن، إن القتل لأسباب عقائدية يدخل في صلب العقيدة الإسلاميّة. وكما هو معروف، فالإسلام تشعّب، لظروف لا مجال لبحثها الآن، إلى طوائف ومذاهب يكفّر أحدها الآخر، وكلّ جماعة تجد ضمن المخزون التراثي الإسلامي، المتناقض في محتواه إلى درجة الدهشة، ما يدعم آراءها مهما تضاربت! بل إن الشواهد أكثر من أن تحصى حول التكفير الداخلي بين مذاهب أهل السنّة والجماعة الأربعة. وكما نقول دائماً، فالتكفير غير ذي شأن إذا لم تكن له ذيول إجراميّة: بمعنى إلغاء المكفٍّر للمكفَّر وجودياً عبر القتل. اليهودي الأرثوذكسي ينظر إلى اليهودي من طائفة الريفورم أو الري ـ كونستركشن على أنه كافر، بمعنى ما؛ بل إن حاخاماً أرثوذكسيّاً سوريّاً صديقاً أخبرني أن حاخاماً آخر من الطائفة ذاتها منعه عن الوقوف أمام كنيس في نيويورك، فقط لأنه لطائفة الريفورم اليهوديّة. لكننا لم نسمع بالمقابل عن صراع دموي يهودي داخلي، كما يحدث في باكستان بين السنّة والشيعة؛ أو عن قمع تمارسه هذه الطائفة اليهودية ضد تلك، كما يحدث في السعوديّة أو إيران. مع ذلك، فإن احتكار الأرثوذكس اليهود للقرار الديني في إسرائيل لا يخلو من القمع، حتى وإن تركت للتيارات الأخرى حريّة الحركة: بعكس الحالة في الولايات المتحدة حيث لا أحد يمتلك الحق في التميّز الديني على غيره.

هذه العقليّة الخاطئة، المنافية لأبسط حقوق الإنسان، هي التي جعلت المسلمين يعادون كلّ آخر لا يشاركهم منظومتهم العقائدية. وهكذا، ففي إحصاء بسيط نكتشف أن المسلمين غالباً ما يكونون الطرف الآخر، المثير للمشاكل عموماً، في أي صراع ديني على صعيد العالم. والأمثلة أكثر من أن تحصى: في الجزائر، الصراع الدموي على أشدّه بين التيارات الإسلاميّة والحكومة المتهمة بالعلمانيّة؛ في مصر، خفت الصراع الدموي بين التيارات الإسلاميّة والحكومة الأقل تعصّباً منهم، لكن النار ضد الأقباط لا تزال تحت الرماد؛ في يوغسلافيا السابقة، كانت الصراعات الدمويّة أيضاً بين المسلمين وكلّ من الكاثوليك والأرثوذكس؛ في الهند، المناوشات دائمة مع الهندوس؛ في إندونيسيا الحرب مستعرة بين المسلمين والمسيحيين؛ في الفلبين، الدولة الكاثوليكيّة الهامّة، لا توجد حرب إلاّ حيث يتواجد المسلمون؛ في نيجيريا، الحرب مؤجلة بين المسيحيين البروتستانت غالباً والمسلمين؛ في فرنسا العلمانيّة، لا يوجد ما يمنع الانفجار المقبل؛ في روسيّا الأرثوذكسية العلمانية، الحرب تحصد العشرات في الصراع مع المسلمين؛ في أفغانستان، المعارك لا تتوقّف بين الأمريكان وحلفائهم الأفغان من جهة، وحركة طالبان من جهة أخرى؛ في السعودية، التصادم لا يتوقّف بين الدولة المتشدّدة والمعارضة الإسلاميّة الأكثر تشدّداً؛ في غرب بورما معارك تشتعل أحياناً وتنطفئ أحياناً بين البوذيين والمسلمين؛ في الصومال، الإسلاميون يحاربون الجميع؛ في المغرب، صراعات لا تهدأ بين الدولة المسلمة ذات التوجه الغربي والجماعات المتطرّفة؛ في العالم كلّه صراع دموي لا مثيل له بين اليهود وحلفائهم من البروتستانت المحافظين من جهة والمسلمين من جهة أخرى؛ باختصار: ليس ثمة بلد في هذا العالم، للأسف، خال من المسلمين ـ باستثناء تلك الدول التي لم يسمع بها أحد، مثل غرينلاند وميكرونيزيا ـ وما دام هنالك مسلمون، ستكون هنالك صراعات حتى يتغيّر نمط التفكير الإسلامي ويفهم أن من حق الآخر المخالف أن يكون موجوداً: وهذا صعب لأنه يتطلّب إفراغ الأسس المعرفيّة للعقيدة الإسلاميّة من محتواها، أو إعادة تفسير شاملة للدين على طريقة اليهود الريفورم.

أخيراً، لا بدّ لنا من الإشارة إلى أن هذه الحكومات، في البلدان الإسلامية، التي تعادي من يسمّون اليوم بالمتشدّدين أو المتطرفين، والتي تحرّض شيوخها، وعّاظ السلاطين، على محاولة التصدّي لهم دينيّاً، بعيدة بالمعنى الحرفي الفعلي عن جوهر الإسلام كما ورد في كتب العقيدة والفقه وما شابه؛ في حين أن من يوصمون بالتشدّد والتطرّف هم المطبقون الدقيقون لروح الشرع ودقائق الفقه وتفاصيل العقيدة. وإلاّ لماذا فشل الشيخ القرضاوي، وهو واحد من أشهر وعاظي السلطان الحاليين، في إقناع حركة طالبان، دينيّاً، في إلغاء تحطيمهم لتماثيل بوذا، تلك الأوابد التاريخيّة المغرقة في أهميتها؟

القرضاوي والبوطي وشيخ الأزهر وأمثالهم لا يمثّلون الإسلام، كما عرفناه من التاريخ وأسفار العقيدة والفقه؛ بالمقابل فإن أسامة بن لادن والطالبانيون هم أفضل الممثلين للالتزام الإسلامي الأدق. ومن قال غير هذا فهو إما سياسي أو منافق.

أسامة بن لادن يغيّر المنكر بيده؛ القرضاوي والبوطي وشيخ الأزهر يغيّرون المنكر بقلوبهم: وذلك أضعف الإيمان!!!

انتهى الدرس الأول.

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها