فهم
آيات القرآن الكريم، يجب أن يرتبط بالشروط الموضوعية في الزمان،
والمكان.....
محمد الحنفي
1) في البداية:
أشير إلى أن السيد: فايز عزيز من لندن، طلب مني، بعد قراءته لإحدى حلقات
موضوع:
" أئمة المساجد بين الحرص على نشر الفكر الظلامي المتخلف، والعمل على
اصدار الفتاوى القاتلة ..."،
أن أتمثل
نفسي إماما للجمعة، وأن أشرح العديد من الآيات التي ضمنها رسالته، والتي
تتعلق بمواجهة الكفار، والملحدين، واليهود، والنصارى، وغيرهم، مما ورد في
القرآن الكريم.
وأنا، إذ أشكر
السيد فايز عزيز، على المجهود المضني، الذي بذله لانتقاء الآيات التي
ضمنها رسالته، أود أن أذكره إلى أنني:
ا ـ
لا أتصور نفسي إماما للجمعة، اخطب في الناس، وأشرح القرآن، لأن المساجد
التي يجرى فيها ذلك، إما أنها تقع تحت تأثير الأنظمة القائمة في البلاد
العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، وإما أنها تقع تحت سيطرة التوجهات
المؤدلجة للدين الإسلامي. وفي الحالتين معا، فان تناول شرح، وتفسير آيات
معينة من القرآن الكريم، يكون محكوما بالعمل على توظيف الدين الإسلامي في
إعطاء الشرعية الدينية لهذه الجهة، أو تلك.
ب ـ
ان معظم الذين يعملون على تفسير آيات القرآن الكريم، لخدمة مصالحهم
الخاصة، لا تتوفر فيهم شروط القيام بذلك، لكونهم لا يمتلكون الآليات
المعرفية، والعلمية، المساعدة عليه.
ج ـ أن تفسير آيات القرآن الكريم، بعد امتلاك الآليات المناسبة، يجب أن
يكون محكوما بالشروط الموضوعية المناسبة للزمان، والمكان.
د ـ أن فهم المتعاملين مع آيات القرآن الكريم، على أنها صالحة لكل زمان،
ومكان، هو فهم مغلوط. وهذا الفهم المغلوط، هو الذي يسعى، باستمرار، إلى
سحب مرحلة نزول الوحي على جميع الأزمنة، وجميع الأمكنة. الأمر الذي يعتبر
غير ممكن أبدا.
ه ـ أن آيات القرآن الكريم، تقدم لنا ما يتعلق بالعبادات، الذي نعتبره
ثابتا، لا يتغير حسب الزمان، والمكان، وفي نفس الوقت، يقدم لنا ما يتعلق
بالشريعة، وهو متحول حسب تحول الشروط الموضوعية: الإقتصادية،
والإجتماعية، والثقافية، والسياسية.
و ـ أن سماعي لخطب الجمعة، من خلال مسار حياتي، يجعلني أتألم باستمرار،
بسبب ما أسمع، مما لا يحترم المسلمين، ومما يسيء إلى الدين الإسلامي في
نفس الوقت.
ز ـ أن معظم الذين يكلفون بإلقاء خطب الجمعة، لا يمتلكون الأهلية لذلك.
ح ـ أن المسلمين الدين يحضرون صلاة الجمعة، لا يستطيعون مناقشة الخطيب
فيما يورده من كلام في خطبته، مادام ذلك يعتبر لغوا، لأنه كما يستشهدون
من الحديث النبوي: "من لغا فلا جمعة له".
ط ـ أن ا المنطق السائد في مختلف العبادات، هو منطق تجاري صرف، وهو ما
يتناقض ما ورد في القران الكريم نفسه، مما له علاقة بإخلاص العبادة لله "وان
المساجد لله، فلا تدعو مع الله احدا".
ي ـ أن معظم رواد المساجد، يعتبرون المساجد، والأئمة، واسطة بينهم وبين
الله، مما يجعل الرهبانية حاضرة في الدين الإسلامي، كما هو الحال
للديانات السابقة على الدين الإسلامي، الذي انتقد ذلك بقول الله: "ما
نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى". وما نعرفه، أنه "لا
رهبانية في الإسلام".
ولذلك
نرى أن معظم الآيات التي بذل السيد فايز عزيز مجهودا كبيرا لانتقائها من
القرآن، تتناسب مع مرحلة نزول الوحي، ومرحلة ممارسة الصراع ضد من يسعى
إلى محاربة الدين الإسلامي، الذي كان يشكل خطرا كبيرا على مصالحهم
الإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية، والسياسية. أما الآن، فإننا نعيش
واقعا آخر، لا وجود فيه لشيء اسمه عبادة الأوثان، كما كانت معروفة قبل
مجيء الدين الإسلامي، ويمكن أن يعمل فيه المسلمون على بث قيم الدين
الإسلامي ن بوسائل أخرى، تختلف عن الوسائل التي كانت سائدة في مرحلة نزول
الوحي. وأن معاناة المسلمين الحقيقية اليوم، ليست في كيفية حماية الدين
الإسلامي، وتبليغه إلى الناس جميعا، بل في توظيفه لإعطاء الشرعية
للاستبداد القائم في بلاد العرب، والمسلمين، أو لإعطاء الشرعية للسعي إلى
فرض استبداد بديل. وهذا التوظيف، في حد ذاته، هو جوهر التحريف الذي أصاب
الدين الإسلامي، الذي يجب أن يبقى بعيدا عن التوظيف السياسي الضيق،
والمنحط، حتى يبقى خالصا لله. ليس إلا.
2)
وما أورده في حلقات:
"أئمة
المساجد بين الحرص على نشر الفكر الظلامي المتخلف، والعمل على إصدار
الفتاوى القاتلة .."
لا يكتسي
طابع التعميم، لأن هناك من الأئمة من يحترم نفسه، كما أشرنا إلى ذلك في
العديد من حلقات الموضوع المذكور. فأئمة المساجد الذين يحترمون أنفسهم،
يربأون بأنفسهم عن أن تتلوث سمعتهم بأدلجة الدين الإسلامي، وبتوظيف الدين
الإسلامي في الأمور السياسية.
وهذا النوع
من الأئمة، هوا لذي وقف وراء إشاعة الدين الإسلامي الحقيقي، الذي تتحقق
في إطاره القيم النبيلة، التي تقف وراء تسييد احترام كرامة الإنسان، كما
جاء في سورة الإسراء: "ولقد كرمنا بني آدم"،
بقطع النظر عن كونه مسلما، أو غير مسلم، وعن لغته، أو عرقه، أو لونه، حتى
يتجسد على أرض الواقع، كما ورد في قوله تعالى: "خلقناكم
شعوبا، وقبائل لتعارفوا"، وكما قال رسوله محمد صلى الله عليه
وسلم، ( الناس كأسنان المشط لا فرق بين عربي
وعجمي ، ولا بين ابيض واسود إلا بالتقوى)، والتقوى هاهنا، لا
يمكن أن تعني، من وجهة نظرنا، إلا الحرص على احترام كرامة الإنسان.
والأئمة
الذين يحترمون حقيقة الدين الإسلامي، لا يمكن أن يعملوا إلا على إشاعة
القيم التي تؤدي إلى تمتيع جميع الناس الذين يعيشون في البلاد العربية،
وفي باقي بلدان المسلمين ب:
ا – الحقوق
الإقتصادية التي تقتضي إحداث تنمية شاملة، في مختلف المجالات الإقتصادية،
والإجتماعية، انطلاقا من اختيارات ديمقراطية، وشعبية، تسعى إلى إشاعة
العدل الاقتصادي بين جميع الناس، عن طريق توفير الشغل المناسب، لكل مؤهل
على حدة، صغر شأنه، أو كبر، وبالأجر المتناسب مع متطلبات الحياة
الإقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية.
ب ـ الحقوق
الاجتماعية، وذلك بتمكين جميع الناس من التمتع بالحق في التعليم، وفي
السكن، وفي الشغل، وفي الترفيه، وغير ذلك، حتى يتخلص المجتمع في كل بلد
من البلدان المسلمين، من مختلف الأمراض الاجتماعية، التي تسيء إلى كرامة
الإنسان.
ح ـ الحقوق
الثقافية، التي تمكن المتعايشين في المجتمع العربي، وفي مجتمعات بلدان
المسلمين، من تفاعل القيم الثقافية المختلفة، القائمة على أساس تنوع
الألوان، واللغات، والمعتقدات، وغيرها، في أفق بلورة قيم مشتركة، تساعد
على تجسيد وحدة المجتمع، ووحدة الأهداف التي يسعى الجميع إلى تحقيقها،
لتجاوز ما كان يمكن أن يعرفه أي مجتمع من مجتمعات البلدان العربية، وباقي
بلدان المسلمين، من صراعات طائفية تقوم على أساس الاختلاف العرقي، أو
اللغوي، أو المذهبي، أو العقائدي، وهو ما يصطلح على تسميته بالصراع
الطائفي / الطائفي، الذي لا يمكن أن يقود إلا إلى نشر الخراب، وبعث أسباب
التخلف الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي. فبتمتيع الجميع
بالحقوق الثقافية، التي يجب أن يستوعب مضامينها أئمة المساجد، المستوعبون
لحقيقة الدين الإسلامي تتحقق كرامة الإنسان الثقافية.
د ـ الحقوق
المدنية، التي تقتضي قيام الأئمة المتنورين بالعمل على إشاعة ثقافة، وقيم
المساواة بين الناس، بقطع النظر عن جنسهم، أو لونهم، أو معتقداتهم، أو
أعراقهم، أو لغاتهم، فيما بينهم. وأمام القانون، والدعوة إلى صياغة
القوانين المعمول بها في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، على
هذا الأساس، ولا يهم بعد ذلك: ما هي المرجعية المعتمدة في إشاعة، وتجسيد
قيم المساواة بين الناس جميعا.
ه ـ الحقوق
السياسية، التي تقتضي من الأئمة، في مختلف المساجد، العمل على إشاعة قيم
احترام الرأي، والرأي الأخر، انطلاقا من ضرورة سيادة دستور ديمقراطي،
وإيجاد مؤسسات تمثيلية حقيقية، تحترم فيها إرادة الشعب في كل بلد من
البلدان العربية، وفي باقي بلدان المسلمين. واحترام الرأي، والرأي الأخر،
في دعوة الأئمة، لا يمكن أن يكون إلا مساهمة في نشر قيم الحرية،
والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.
وانطلاقا من
هذا التصور، نقول: إنه يوجد في العديد من المساجد في البلاد العربية، وفي
باقي بلدان المسلمين، أئمة يحترمون أنفسهم، ويحترمون المسلمون، ويحترمون
جميع الناس من غير المسلمين، ويحرصون على تقديم الوجه المشرف للدين
الإسلامي، حتى يؤدي ذلك إلى فرض احترام البشرية له؛ مما يعتبر مدعاة إلى
الاقتناع بقيمه التي تصير جزءا من القيم النبيلة، التي يتحلى بها البشر:
أفرادا، وجماعات. ولكن الذي يجب أن نسجله: أن معظم الأئمة يصنفون أنفسهم
ضمن مؤدلجي الدين الإسلامي، وتوظيف تلك الأدلجة، إما لصالح الطبقة
الحاكمة، وإما سعيا إلى فرض استبداد بديل للاستبداد القائم. وأئمة من هذا
النوع يصيرون محرفين للدين الإسلامي، وعاملين على شحن رواد المساجد، بذلك
التحريف، ومحبيشين لهم، في أفق الانقضاض على أجهزة الدولة في الوقت
المناسب، حتى يتمكنوا من إقامة "الدولة
الإسلامية"، التي تقوم بمهمة "تطبيق
الشريعة الإسلامية"، من أجل إقامة التطابق، القائم في أذهان
مؤدلجي الدين الإسلامي، بين العقيدة، والشريعة، الذي يعتبر أفضل وسيلة
لإحكام القبضة على مجتمعات المسلمين، حتى يخضعوا جميع طبقاتها الذين
يطالهم إرهاب "الشريعة الإسلامية"،
الذي تبثه بين الناس أجهزة "الدولة
الإسلامية"، التي يسيطر عليها مؤدلجو الدين الإسلامي.
3)
وأئمة المساجد المؤدلجون للدين الإسلامي، والذين يشكلون الغالبية
العظمى على مستوى البلاد العربية، وعلى مستوى باقي بلدان المسلمين في نفس
الوقت، يكونون محكومين بهاجس إشاعة الفكر الظلامي المتخلف، من أجل إعداد
مجال استقطاب المسلمين، الذين يرتادون المساجد، إلى مختلف التوجهات
المؤدلجة للدين الإسلامي. فنشر الفكر الغيبي في مستوياته المختلفة،
وإشاعة الفكر الخرافي، وتسفيه الفكر التنوير، والعلمي، واعتباره فكرا
مستوردا، وفكرا للكفار، والملحدين، والعلمانيين، والصهاينة، وغير ذلك من
الأوصاف التي صار يوظفها مؤدلجو الدين الإسلامي، يعتبر من السمات التي
صارت تميز أئمة المساجد، الذين يعملون على إشاعة أدلجة الدين الإسلامي.
وكون غالبية
أئمة المساجد من مؤدلجي الدين الإسلامي، فان ذلك يهدف إلى:
ا ـ
الحرص على توظيف الدين الإسلامي إيديولوجيا، وسياسيا، من أجل العمل على
فرض استبداد بديل، يتجسد في إقامة "الدولة
الإسلامية"، التي تعتبر الإطار المناسب لتحقيق التطلعات
الطبقية لمؤدلجي الدين الإسلامي، وبالسرعة الفائقة، وباسم فرض "تطبيق
الشريعة الإسلامية".
ب
ـ الحرص على الاستئثار بتجييش القطاعات الاجتماعية العريضة، التي تعاني
من الأمية، والفقر، والمرض، والعطالة، وغيرهم. حتى يصيروا وسيلة ضغط في
اتجاه تأبيد الاستبداد القائم، أو العمل على فرض استبداد بديل، حسب
التوجهات المؤدلجة للدين الإسلامي.
ج ـ استدراج ذوي الثروات الهائلة إلى الارتباط بمؤدلجي الدين الإسلامي،
بقطع النظر عن مصادر ثرواتهم، هل هي مشروعة؟ أو غير مشروعة، لأن الذي يهم
مؤدلجي الدين الإسلامي، هو ضمان مصادر التمويل الاقتصادي، والاجتماعي،
حتى يستطيع مؤدلجو الدين الإسلامي التغلغل في صفوف الجماهير الشعبية
الكادحة.
د ـ العمل المستمر على تغيير ميزان القوى لصالح الحزبوسلاميين، من أجل
ضمان وصولهم إلى مراكز القرار، والى الحكومة، حتى يعملوا على تسريع عملية
التسلق الطبقي لمؤدلجي الدين الإسلامي.
وعملية
توظيف الدين الإسلامي في الأمور الأيديولوجية، والسياسية، من قبل معظم
الأئمة المؤدلجين للدين الإسلامي، تؤدى إلى:
ا ـ
تسييد العداء المطلق لمرجعيات حقوق الإنسان: الإقتصادية، والإجتماعية،
والثقافية، والمدنية، والسياسية، والمتمثلة في الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان، وفي مختلف المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
ب ـ تسييد العداء للدولة الحديثة، التي تتمثل فيها دولة الحق، والقانون،
باعتبارها دولة غير "إسلامية"،
تجب محاربتها، والعمل على انهيارها في حالة قيامها، من أجل إقامة "الدولة
الإسلامية" على أنقاضها.
د ـ تسييد الفكر الغيبي، الذي يرهن حياة البشر بالغيب، كأساس لتكيس
الاستبداد القائم، أو للعمل على فرض استبداد بديل.
ه ـ العمل على اعتبار الفكر الخرافي، وأساطير الأوليين، من مصادر بناء
الفكر المؤدلج للدين الإسلامي، حتى لا تتسرب إليه، المقولات العلمية،
التي قد تدفع في اتجاه التخلي عن أدلجة الدين الإسلامي.
وبذلك يتبين
للقاصي، والداني، أن أئمة المساجد، الذين يقوم وجودهم على أساس أدلجة
الدين الإسلامي، والذين يشكلون الغالبية العظمى من أئمة المساجد في
البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، يعملون، وبدون هوادة، على
إغراق البلاد العربية، وباقي بلدان المسلمين، في عملية الأدلجة الدينية،
التي تدخل هذه المناطق الشاسعة في بحر ظلمات أدلجة الدين الإسلامي، وهو
ما يعطينا الحق، لأن نسمي هؤلاء الأئمة ب "فقهاء
الظلام". والظلام بالنسبة إلينا نقيض التنوير. فالظلام يؤدي
إلى التوقف، ثم التراجع إلى الوراء، مما ينتج عنه التخلف في جميع
المجالات: الإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية، والسياسية. أما التنوير،
فيضيء الطريق، مما يساعد على التقدم، والتطور المستمرين.
3)
وبعد الوقوف على ضرورة التمييز بين الأئمة التنويريين، الذين يقدمون
الدين الإسلامي على حقيقته، وبين الأئمة العاملين على ضرورة أدلجة الدين
الإسلامي، التي تحولهم إلى مجرد أئمة ظلاميين، ينشرون الظلام في جميع
البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، نمر إلى مناقشة ما دعانا إليه
السيد فايز عزيز من لندن، مما يتعلق بتفسير آيات تدعو إلى مواجهة الكفار،
والملحدين، والمشركين، واليهود، والمسيحيين، وغيرهم، ممن نصبوا أنفسهم
أعداء للمسلمين في عصر البعثة النبوية، فتمت مواجهتهم بالوحي، وبالعمل.
فنقول للسيد فايز عزيز:
ا
ـ إن الآيات التي بعث بها ألينا عير البريد الإلكتروني، جاءت في سياق
المواجهة بين المسلمين، وبين من يسعى إلى القضاء عليهم من المشركين،
والكفار، واليهود، والنصارى، في ذلك العصر. ولذلك، فلا يمكن اعتمادها في
عصرنا هذا، الذي صار يعرف وسائل أخرى تمكن المسلمين من تقديمهم الدين
الإسلامي إلى البشرية، وبجميع اللغات؛ أي أن اعتماد السيف في الدفاع عن
الدين الإسلامي، لم يعد واردا، نظرا لتوفر البدائل.
ب ـ
أن تفسير الآيات المذكورة، أو شرحها، أو تأويلها، يجب أن يرتبط بالزمان،
والمكان، وبمدى استيعاب لغة القرآن، وبمدى ضبط آليات القراءة، والفهم،
قبل التفسير، والشرح، والتأويل؛ لأن ضبط الآليات يعتبر شرطا للقراء ة،
والفهم، والشرح، والتفسير، قبل الإقدام على التأويل. وأئمة المساجد، في
معظمهم، لا يضبطون الآليات، ولا يفهمون، ولا يفسرون، وإنما يحفظون عن ظهر
قلب، التأويلات التي يصدرها أمراء المؤدلجين، ويقيسون عليها في تأويل ما
قاربها، من أجل التمرس على أدلجة الدين الإسلامي، حتى يتقربوا بذلك من
أمرائهم. وهذا النوع من الأئمة، لا يقرأ آيات القرآن انطلاقا من الشروط
الموضوعية التي يعيشونها، بل من منطلق ما يتناسب مع التأويلات المركزية،
التي يعتمدها كل تيار أيديولوجي داخل منظومات مؤدلجي الدين الإسلامي.
وانطلاقا من ضرورة اعتماد تفسير القرآن على الشروط الموضوعية القائمة في
الزمان ، والمكان، نجد أن التفاسير تختلف من مكان، إلى مكان، ومن زمن،
إلى زمن، لاختلاف الشروط الموضوعية، ولتطور العلوم، والمعارف، والآداب،
والفنون، ولاستمرار تعميق الفكر.
فمفسرو عهد نزول الوحي، الذين يرتبطون بفطرية اللغة، والفهم، والحياة،
ليسوا كمفسري عهد الخلفاء الراشدين، الذين يختلف عنهم مفسرو عهد بني
أمية، ثم مفسرو عهد بني العباس، ثم مفسرو مرحلة العثمانيين. ومن جهة
أخرى، فمفسرو المشرق العربي، يختلف عنهم مفسرو المغرب العربي، وهكذا...
وبناء
على ذلك، فالتفسير لا يكون إلا نسبيا. أما الإطلاق، فأمر يصعب الأخذ به،
إلا من باب الادعاء.
وما
قلناه في تفسير القرآن، نقوله أيضا في تأويلات مؤدلجي الدين الإسلامي،
الذين تختلف تأويلاتهم بحسب الزمان، والمكان، نظرا لاختلاف الشروط
الموضوعية، التي تحكمهم. وهذا الاختلاف في الزمان، والمكان، هو الذي يجعل
تيارات، وتوجهات، وتأويلات مؤدلجي الدين الإسلامي أيضا، تختلف من زمن،
إلى زمن، ومن مكان، إلى مكان آخر، بل إننا نجد أنه في المكان الواحد، نجد
أن الشروط الموضوعية التي لها علاقة بالتصنيف الطبقي، والذاتية التي لها
علاقة بطبيعة الأفراد، تؤدي إلى تعدد التيارات، والتوجهات، التي تؤدي
بدورها إلى اختلاف التأويلات، كما هو حاصل في كل بلد من البلاد العربية،
ومن باقي بلدان المسلمين.
ج ـ
أن عصر نزول الوحي عرف شيئا اسمه الناسخ، والمنسوخ من آيات القرآن، مما
يؤدي إلى أن نزول الوحي ارتبط بالشروط الموضوعية، المتحولة، والمتغيرة،
التي أحاطت بحياة الرسول، وصحابته في ذلك الوقت. وارتبطت، في نفس الوقت،
بنزول الوحي. ولو رجع مؤدلجو الدين الإسلامي إلى مرحلة نزول الوحي،
ودرسوها دراسة علمية دقيقة، وبدون خلفيات إيديولوجية، وبدون توظيف هذه
المرحلة لتحقيق أهداف سياسية، لأدركوا أن معظم ما جاء به الوحي نسبي، وأن
المطلق فيه يتجسد في الإيمان بالله، وأن هذا الإيمان تختلف درجة عمقه من
مسلم إلى مسلم آخر، وأن ما يترتب عن الإيمان من عبادات، حتى وإن كان يتخد
طابع الإطلاقية، فهو أيضا نسبي، كما تدل على ذلك المذاهب الدينية
المختلفة، وما يعتمده كل مذهب في إعطاء فهم معين للنصوص الدينية، وخاصة
ما ورد في القرآن.
د ـ إن الفقهاء، وعلماء الدين الإسلامي، حاولوا، على مر العصور، أن
يفهموا الكتاب، والسنة، انطلاقا من شروطهم الموضوعية: الزمانية،
والمكانية، مما جعلهم يكتسبون مصداقية تاريخية، من خلال مساهمتهم
الفعالة، والفاعلة في الواقع المعرفي العام، وفي الواقع الفقهي الخاص.
على خلاف مؤدلجي الدين الإسلامي في عصورهم المختلفة، الذين كانوا
يستنسخون ما تبلور من تأويلات لدى المؤدلجين الأوائل، والذين كانوا
يصوغون المقولات التي كانوا يدفعون في أفق جعل جميع أفراد المجتمع
المعجبين يرددونها. وهؤلاء المؤدلجون الذين كانوا يشكلون أمل كبح لمختلف
الحركات الهادفة إلى تطوير الواقع في تجلياته المختلفة، لا يصح أن نسميهم
بالفقهاء، ولا بعلماء الدين الإسلامي، لأن مهمتهم تنحصر في البحث عن
الكيفية الأنجع لخدمة المصالح الطبقية للمؤدلجين بواسطة أدلجة الدين
الإسلامي، ليس إلا:
وبذلك،
يتبين أن ما اقترحه علينا السيد فايز عزيز، من تفسير لآيات كريمة، اعتمدت
في العمل على حماية المسلمين من المشركين، ومن الكفار، ومن اليهود، ومن
المسيحيين، الذين كانوا يستهدفونهم، ويستهدفون دعوتهم إلى اعتناق الدين
الإسلامي، الذي كان يشكل خطورة كبيرة على مصالحهم الطبقية، كما تبين ذلك
من خلال ممارستهم اليومية أثناء نزول الوحي، لا يصلح في عصرنا هذا،
لاختلاف الشروط الموضوعية.
ففهمنا
للقرآن، وللسنة الثابتة، والصحيحة، يقتضى استحضار الشروط الموضوعية،
والسريعة التحول، حتى يصير فهمنا، وتفسيرنا، بل تأويلنا، إن دعت إليه
الضرورة، متلائما مع الشروط الموضوعية التي نعيشها، من أجل أن لا يقوم في
الواقع تناقض بين ما نفهمه من النصوص الدينية، وما نعيشه على ارض الواقع؛
لأن التناقض الوحيد القائم، وعلى مدى تمرحل التاريخ، بما في ذلك مرحلة
نزول الوحي، هو التناقض الطبقي في مستوياته الأيديولوجية، والسياسية. وما
سوى ذلك التناقض، ما هو إلا افتعال لتضلل الكادحين، لصالح الاستبداد
القائم، أو لصالح الاستبداد البديل، الذي يسعى مؤدلجو الدين الإسلامي إلى
فرضه على المسلمين في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين.
فهل بعد هذا
يمكن القول: بان الشروط الموضوعية، التي تحكمت في فهم المسلمين الأوائل
للقرآن، والحديث الثابت، والصحيح، هي نفسها التي لا زالت تتحكم في عصرنا
هذا، كما يريد ذلك مؤدلجو الدين الإسلامي؟
5) فما يقتضيه المنطق العلمي الرصين، هو أن فهم زمن مضى، لا ينسحب على
زمننا.
فالزمن
الماضي هو زمن متخلف بكل المقاييس: الإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية،
والمدنية، والسياسية. وتخلفه ينسحب على المستوى المعرفي، والعلمي،
والفكري، ومصدر تخلفه: الشروط الموضوعية التي كان يعيشها الناس في ذلك
الوقت، وعلى جميع المستويات: الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية،
والمدنية، والسياسية، وفي جميع البلدان العربية، وباقي بلدان المسلمين.
وتلك الشروط المتخلفة، كانت تعتبر متقدمة بالنسبة إلى ما سبقها، ومتخلفة
عما أتى بعدها.
ومن وجهة
نظرنا، فالأمر كله يتعلق بتطور التشكيلة العبودية، إلى التشكيلة
الإقطاعية، إلى التشكيلة الرأسمالية، في أفق استنفاذ تجددها، إلى
التشكيلة الاشتراكية، كمشروع إنساني مجتمعي، تحلم البشرية الكادحة
بتحقيقه. وبناء على هذا التمرحل في التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية،
نجد أن كل مرحلة من مراحل التشكيلات المختلفة، تتخذ طابعا تاريخيا، يجعل
منها ظاهرة لا تتكرر، ولكن الأفكار المأخوذة عنها، والقيم الملتصقة
بالمسلكيات الفردية، والجماعية، التي تداخل القيم المتطورة، والمتفاعلة
مع الواقع، في مختلف المجالات الإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية،
والمدنية، والسياسية. واستمرار الأفكار، والقيم، التي تداخل المسلكيات،
لا يعني أبدا استمرار الزمن الماضي، في الزمن الحاضر، ولا استرجاعه، ولا
إحياءه بعد موات؛ لأن ذلك كله لا يعني إلا شيئا واحدا: وهو أن التاريخ لا
يعيد نفسه، بقدر ما يمكن أن نعتبره تجربة، يمكن أن نستفيد منها مما هو
ايجابي. ويمكن أن نستنسخها. وكل القيم الإنسانية تعتبر أن الاستنساخ غير
مشروع. لأنه لا يتجاوز أن يكون تشويها للأصل، والأصل لا يتجاوز مرحلة
بشروطها الموضوعية، التي لا تتكرر، مع الإقرار بان المستنسخ لا يعيش
طويلا.
ولذلك نجد
أن الفهم الذي كان سائدا للنص الديني، في المرحلة كان المجتمع فيها ينقسم
إلى أسياد، وعبيد، كان محكوما بقيم استغلال الأسياد للعبيد، وان الأسياد
كانوا يفهمون من القرآن، والسنة، ما يناسب تأبيد سيادتهم. وهذا ما جعلهم
ينتفضون ضد بعض الآيات، التي تساوى بين الأسياد، والعبيد، وهو نفسه الذي
ألبهم على العبيد الذين اعتنقوا الدين الإسلامي: لينتقموا منهم. والشروط
التي كان يعيشها العبيد، هي التي جعلتهم يفهمون من القرآن، ومن السنة، ما
يجعلهم يسترجعون إنسانيتهم، التي سلبها الأسياد منهم.
فشروط
الأسياد ليست هي شروط العبيد، وفهم الأسياد، ليس هو فهم العبيد.
وعندما
تختلف الشروط في المرحلة الإقطاعية، نجد أن انقسام المجتمع إلى إقطاعيين،
وأقنان، يؤدي بدوره إلى جعل الإقطاعيين يفهمون من الكتاب، والسنة، ما
يساهم في إعطاء الشرعية لاستبدادهم بالواقع الاقتصادي، والاجتماعي،
والثقافي، والسياسي، حتى يستمروا في استغلال الأقنان، كما يؤدي إلى جعل
الأقنان يلتمسون فهم ما يجعلهم يحصلون على قطعة أرض زراعية، حتى يتحرروا
من استقلال الإقطاعيين لهم. وما يفهمه الإقطاعيون، لا يمكن أن يفهمه
الأقنان، لاختلاف الشروط الموضوعية لكل منهما؛ لأنه لو اتفق الفهم لزالت
العقبات القائمة بين الطبقة المستغلة، التي تتشكل من الإقطاعيين، والطبقة
المستغلة التي تتشكل في مثل هذه الحالة من الأقنان. ولأن الإقطاعيين لا
يملكون القدرة على تضليل الأقنان، فإنهم يوظفون لهذه الغاية مجموعة من
الأشخاص الذين يعملون على تأويل النص الديني بما يخدم مصلحة الإقطاعيين،
من خلال التضليل الممارس على الأقنان، حتى يصير ما يصدر عن الإقطاع جزءا
لا يتجزأ من الدين، ويقبل الأقنان ذلك، على انه من إرادة الله، وهذا
التضليل الذي مورس من قبل الإقطاعيين على الأقنان، هو الذي فرض استمرار
سيطرة التخلف لقرون طويلة، ضدا على مصلحة الفلاحين الأقنان، المرتبطين
بالأرض.
وهذه
التشكيلة الإقطاعية التي دامت قرونا طويلة في أوربا، وما شابهما في
البلاد العربية، التي كانت تعرف تقدما يتم كبحه، كلما ظهر انه صار يتناقض
مع التشكيلة القائمة، ليستمر ذلك الكبح إلى يومنا هذا، رغم اختلاف
الشروط، صارت عقبة كأداء أمام أي شكل من أشكال التقدم والتطور.
وعند قيام
الثورة الصناعية التي انتجت دولا رأسمالية قوية، برزت في الواقع طبقتان
رئيسيتان: الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، والطبقة العاملة
المشغلة لتلك الوسائل، لتظهر بذلك تشكيلة أخرى، هي التشكيلة الاقتصادية /
الاجتماعية الرأسمالية، التي قامت على أنقاض التشكيلة الاقتصادية /
الاجتماعية الإقطاعية، واستطاعت، بعد بضعة عقود، أن تؤثر في مصير العالم،
عن طريق اعتماد القوة، لتعميم نمط إنتاجها، لتصير الطبقات الرئيسية في
معظم المجتمعات، هي الطبقة البورجوازية، والطبقة العاملة، وما بينهما.
ولكل طبقة مصالحها، وبالتالي: فان الشروط اختلفت، ولا بد أن يصير فهمنا
للقرآن، وللسنة، مختلفا أيضا، تبعا لإختلاف الشروط.
فالطبقة
البورجوازية، لا يمكنها أن تفهم من النص الديني إلا ما يخدم مصلحتها،
التي تدفعها إلى البحث عمن يقوم بأدلجة الدين الإسلامي، لإعطاء الشرعية
لاستغلالها للطبقة العاملة، ولسائر الكادحين، في الوقت الذي نجد فيه أن
الطبقة العاملة، وسائر الكادحين، يكونون محكومين بشروط أخرى، تقتضي فهما
متناسبا معها، حتى يصير الدين الإسلامي، من خلال نصوصه، مصدرا للقيم
النبيلة التي تتحقق معها كرامة الإنسان: الاقتصادية، والاجتماعية،
والثقافية، والمدنية، والسياسية.
وفي نفس
السياق، فالطبقة الوسطى تحاول أن تتلاءم مع الشروط التي تخدم مصلحتها،
فتتبنى إما فهم البورجوازية للنصوص الدينية: ( القرآن، والحديث)، وإما
فهم الكادحين، وطليعتهم الطبقة العاملة. وإلا، فان هذه الطبقة الوسطى،
ستفرز من يتصدى لأدلجة الدين الإسلامي، انطلاقا من توجه سياسي معين، قائم
على أدلجة الدين الإسلامي، من أجل العمل على توظيف الدين الإسلامي،
انطلاقا من الفهم القائم على تأويل النصوص: إيديولوجيا، وسياسيا، سعيا
إلى تأييد الاستبداد القائم، أو للعمل على فرض استبداد بديل.
وهكذا يتبين
أن النص الديني: (القرآن، والحديث) ثابت، وأن فهمه متحول، حسب تحولا
الشروط الموضوعية التي لها علاقة بالزمان، والمكان، وبالاقتصاد،
والاجتماع، والثقافة، والسياسية.
ولذلك، لا
يمكننا، ونحن في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، أن نردد نفس فهم
القدماء للنص الديني، لأن ذلك يحولنا إلى مجرد مرجعين، ومرددين، بينما
يفترض فينا: أننا نعمل على معرفة، متطورة، ومتقدمة، ونعيش أرقى ما وصلت
إليه التكنولوجية الحديثة، التي تسرع بعملية التطور الرأسمالي، في أفق
استنفاذ تطوره، كما هو حاصل على أرض الواقع، حيث صار يتبين أن الحاجة إلى
استسراع قيام تشكيلة اقتصادية، واجتماعية جديدة، تقتضي التحول المتسارعن
في فهم النص الديني.
فهل بعد هذا
يمكن أن يطالبنا السيد فايز عزيز – من لندن، باعتماد تفسير الأوائل؟
وهل يمكن
القول بأن ما كان قائما في الزمن الماضي، سيبقى قائما في عصرنا هذا؟
6) وهذا
الاستنتاج الذي وصلنا إليه، يضطرنا إلى القول بضرورة إعادة قراءة النصوص
الدينية: (القرآن، والحديث)، على
ضوء مستجدات العصر، من أجل تجاوز الفهم المتخلف، الذي يحكم فهم النصوص
الدينية، إلى يومنا هذا، وعلى يد مؤدلجي الدين الإسلامي، الذين ينتمي
إليهم معظم الأئمة، الذين يستغلون المساجد لنشر أدلجة الدين الإسلامي، بل
ويصدرون فتاوى القتل، التي صارت موضة مبطنة من خلال الحزبوسلامي.
فماذا نعني بضرورة إعادة قراءة النصوص الدينية؟
وما
المراد بإعادة القراءة تلك؟
وهل
يمكن إنتاج معرفة جديدة، بإعادة قراءتنا للنص الديني؟
إننا
عندما نرصد القراءات المتداولة للنصوص الدينية، نجد أن معظمها لا يتجاوز
أن يكون ترديدا، وترجيعا للقراءات القديمة، التي صارت بدورها نصوصا دينية
مقدسة، مع أنها ليست وحيا، بقدر ما هي من إنتاج البشر، وهذا الترجيع،
والترديد، لا يمكن أن يكون إلا قالبا تقاس عليه الأفكار، والممارسات
البشرية، فما ناسبه كان "إسلاميا"،
وما لم يناسبه، خرج عن الدين الإسلامي.
والذين
يتمسكون بالقراءة، أو بالقراءات القديمة، يحرصون على إخراج المجتمع وفق
قوالب القدماء: اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وسياسيا، على اعتبار أن
تلك القراءة هي الدين الإسلامي. والواقع أن التمسك بالقراءة القديمة،
يهدف إلى إعطاء الشرعية للممارسة الفكرية، والإيديولوجية، للمتمسكين
بالقراءة القديمة. والبحث عن الشرعية لا يعنى إلا تحويل الدين الإسلامي
إلى ممارسة إيديولوجية، من منطلق: أن معظم القراءات القديمة، هي قراءات
إيديولوجية، لا علاقة لها بالتاريخ، بقدر ما لها علاقة بالأيديولوجية،
كتعبير عن المصالح الطبقية.
فالقراءة
التاريخية، هي قراءة تستحضر امتلاك آليات القراءة أولا، والانطلاق من
الشروط الموضوعية التي يعيشها القارئ، لا من أجل ملاءمة النص الديني مع
الواقع، بل من أجل جعل فهم النص الديني منسجما مع الواقع، حتى نجعل
النصوص الدينية، بذلك، صالحة لكل زمان، ومكان. وعمل كهذا، لا يعني التنكر
للقراءات القديمة، البريئة من الأدلجة الدينية، . بل إن الرجوع إلى مثل
هذه القراءات، من اجل الاستئناس بها، ومن اجل إغناء خبرتنا بالنص الديني،
يعتبر ضروريا، إذا كان يساعد على ملاءمة فهمنا للنص الديني مع الواقع
المتحول، والمتطور. فإذا لم يساعد على ذلك، كانت الأولوية للشروط
الموضوعية القائمة. أما القراءة الإيديولوجية، فهي قراءة خارج التاريخ،
لأنها لا تشترط امتلاك الآليات، ولا تستحضر الشروط الموضوعية في الواقع،
بقدر ما تستحضر المصلحة الطبقية فقط؛ مما يجعل النص الديني، نفسه، في
خدمة تلك المصلحة.
ولذلك
فالقراءة الأيديولوجية في مرحلة الخلفاء الراشدين، تبقى هي هي، في جميع
العصور، رغم هذا الركام الهائل الذي دونه مؤدلجو الدين الإسلامي؛ لأنه
ليس إلا ترجيعا، وترديدا للقراءات الأيديولوجية الأولى للشيعة وللسنة،
التي تمرست على اعتبار الدين الإسلامي مجرد قوالب شيعية، أو سنية، يجب أن
يتقولب معها البشر، حتى يكونوا شيعيين، أو سنيين، على اختلاف توجهاتهم.
ونحن في العقد الأول من القرن الواحد
والعشرين، نجد أنفسنا أمام تناقض صارخ، عندما نصر على ترديد، وترجيع
الفهم الأيديولوجي للنص الديني، فنشرع إرادة تصفية الأخر: النقيض، الذي
يتبنى تلك الأيديولوجية، ولا يتجيش وراء المؤدلجين، ولكن عند ما نحرص على
امتلاك آليات القراءة، ونستحضر الشروط الموضوعية التي نعيشها، مسترشدين
بالقراءات الموضوعية القديمة، يزول التناقض، ويصير فهمنا للنص الديني
متلائما مع الواقع الذي نعيشه، مما يجعل النص الديني صالحا لكل زمان،
ولكل مكان.
ومشكلتنا
الآن: أن معظم أئمة المساجد في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين،
يتمحلون الحرص على قولبة العصر الذي نعيشه، وفق ما تقتضيه أدلجة الدين
الإسلامي؛ مما يجعل التناقض بين أدلجة الدين الإسلامي، وبين الواقع،
قائما في الممارسة اليومية للمسلمين في البلاد العربية، وفي باقي بلدان
المسلمين. وهو ما يقتضي، من المسلمين الحقيقيين، إخضاع ممارسة الأئمة
للتشريح والنقد، في أفق تقويم هذه الممارسة، حتى تنسجم مع روح العصر الذي
نعيشه، والذي يقتضي منا نبذ أدلجة الدين الإسلامي، وإقبارها، والى الأبد،
باعتبارها تحريفا للدين الإسلامي، الذي يتحول إلى مجرد منتج للقيم
المؤدلجة للدين الإسلامي، وهي مجرد قيم للكراهية، والحقد، والقتل،
والتجييش، ونفي الأخر، والطائفية، وغير ذلك، كما تدل عليه المصطلحات التي
يستعملها مؤدلجو الدين الإسلامي، والدعوة إلى تجريم هذه الأدلجة،
لإساءتها إلى الدين الإسلامي الذي صارت له سمعة سيئة بسبب ذلك، والى
المسلمين الذين صاروا مشبوهين في أرجاء الأرض.
فهل يعمل
المسلمون على إعادة قراءة النص الديني، انطلاقا من امتلاك آليات الفهم
الصحيح، ومن الشروط الموضوعية؟
وهل يتم
إخضاع ممارسات أئمة المساجد إلى النقد الموضوعي، الهادف إلى تقويم
الممارسة، والتخلي عن ترويج أدلجة الدين الإسلامي؟
وهل يتم
تجريم أدلجة الدين الإسلامي، باعتبارها تحريفا للدين الإسلامي، وإساءة
له، وللمسلمين في جميع أرجاء الأرض؟
أم أن سيادة
الأمية الأبجدية، والمعرفية، والعلمية، والفقر، والمرض، والاستلاب
الإيديولوجي، ستؤدى إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه، خدمة للاستبداد
القائمن أو سعيا إلى فرض استبداد بديل؟
7)
ونحن عندما نجد أنفسنا أمام التناقض الصارخ، القائم بين الفهم المؤدلج
للدين الإسلامي، الذي يحاول تطويع الواقع، وقولبته، وبين الواقع المتحول،
والمتطور، لا نملك إلا الإقرار بضرورة تحطيم السدود التي أقامتها أدلجة
الدين الإسلامي، حتى لا يرى المسلمون واقعهم الاقتصادي، والاجتماعي،
والثقافي، والمدني، والسياسي، وللوصول إلى تحطيم تلك السدود، لا بد من
انجاز الخطوات الآتية:
ا ـ
تشريح أدلجة الدين الإسلامي، وبيان خطورتها على واقع العرب، والمسلمين،
في جميع أنحاء العالم، وعلى البشرية، من غير العرب، والمسلمين كذلك، حتى
يتأتى للخاصة، والعامة، إدراك مدى تلك الخطورة، على المدى القريب،
والمتوسط، والبعيد، وخاصة عندما يتمكنون من إقامة ما يسمونه ب "الدولة
الإسلامية"، التي تشرف على "تطبيق
الشريعة الإسلامية".
ب ـ
تجريم قيام أحزاب سياسية على أساس ديني، كما تنص على ذلك المواثيق
الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، حتى يتجنب المجتمع إقحام الدين الإسلامي
في الأمور الدينية. وتجنبا لما يمكن أن يؤدى إليه، ذلك، من قيام الطوائف
في المجتمع، وإحداث صراع طائفي / طائفي.
ج ـ تحديد اختصاصات أئمة المساجد، الذين يجب أن يخضعوا لقانون الوظيفة
العمومية، حتى يتمكنوا من تلقي أجور تتناسب مع المهام المحددة لهم، كباقي
موظفي الدولة.
د ـ إنشاء هيأة إدارية خاصة بكل مسجد: تحدد مهام أعضائها، وتعمل تحت
إشراف الإمام، الذي يعتبر المسئول الأول عن المسجد. وهذه الهيأة التي
تتحدد مهام كل عضو فيها، تكون مسئولة أمام الإدارة المشرفة على المساجد،
في كل دولة على حدة.
ه ـ
تكوين هيأة تقريرية خاصة بالمسجد، تتكون من هيأة إدارة المسجد، وممثلي
الأحزاب، والجمعيات الثقافية، والنقابات، وجمعيات آباء، وأولياء
التلاميذ، وممثلي الجماعات المحلية، من أجل النظر في وضعية المسجد، ومن
أجل النظر فيما يجرى فيه، وهل يحترم علاقة الناس بالمسجد؟ وهل يحترم
الدين الإسلامي؟ وهل يؤدى دوره في الواقع الاقتصادي، والاجتماعي،
والثقافي، والسياسي؟ أم أنه مجرد مقر لمؤدلجي الدين الإسلامي، الذين
يستغلونه في الأمور الأيديولوجية، والسياسية، التي يوظفون فيها الدين
الإسلامي؟ وتقرير ما يجب عمله بناء على ذلك.
و ـ إنشاء مدرسة لتكوين أطر تسيير المساجد، من الإمام، إلى الحارس، حتى
نتجنب وقوع المساجد بين يدي أناس لا يفهمون عن المساجد إلا كونها مجالا
لإشاعة أدلجة الدين الإسلامي، وحتى نتشرف بمساجدنا في البلاد العربية،
التي تشرف عليها أطر كفأة، تجعل المساجد منارات لإشاعة التنوير المعرفي
في المجتمع، بدل إشاعة المعرفة الظلامية، التي أدخلت البلاد العربية،
وباقي بلدان المسلمين، في متاهات التخلف، الذي لا قرار له، واعتبار ذلك
التخلف جزءا من الدين الإسلامي.
ز ـ
إنضاج الشروط الموضوعية، المؤدية إلى قيام دولة الحق والقانون، لتمكين
المؤسسات المختلفة من إيجاد آليات قانونية محددة، لضبط سير المساجد، تبعا
لضبط مختلف المؤسسات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية،
لأنه لا يمكن الحديث عن دور المساجد في ظل دولة يسود فيها الاستبداد،
والتي تنتج من يسعى إلى فرض استبداد بديل؛ لأنه بقدر ما تعمل الدولة على
إعطاء الشرعية لاستبدادها، عن طريق استغلال المساجد، وبواسطة أئمتها،
بقدر ما يظهر من يستغل المساجد من أجل فرض استبداد بديل. لذلك كان قيام
دولة الحق والقانون، شرطا ضروريا، وأساسيا، لتمكين جميع المؤسسات
الاجتماعية، من القيام بدورها، بما فيها مؤسسة المسجد.
وبهذه
الخطوات يمكن أن تضمن سلامة أداء المساجد في البلاد العربية، وفي باقي
بلدان المسلمين، وعلى مستوى القارات الخمس، لقطع الطريق أمام ما أسميناه
ب "إسلام أمريكا وإسلام الطالبان"،
ولبقاء الدين الإسلامي خالصا لله، بعيدا عن التوظيف الأيديولوجي
والسياسي.
فهل يمكن أن
نحلم بمساجد تساهم في تطور المجتمع، بدل هذه المساجد التي لا تنشر بين
المسلمين إلا المزيد من التخلف؟
وهل نحلم
بإعداد طواقم للمساجد في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، في
مستوى متطلبات العصر؟
إننا نحلم.
وحلمنا مشروع. وما يجرى في الواقع لا بد أن يفرز ما يؤكد ما نذهب إليه.
ولا أحد يستطيع أن يمنعنا من الحق في الحلم، إلا بمصادرة حقنا في
الحياة.
8)
وبعد:
فهل يقتنع
القارئ الكريم، معنان بنسبية الفهم الذي يتأثر بالشروط الموضوعية:
الإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية، والسياسية، حتى نضمن صلاحية تفاعل
النص الديني مع مختلف الأزمنة، والأمكنة، ومع مختلف الطبقات الاجتماعية،
التي تختلف شروطها، فيختلف، تبعا لذلك، فهمنا للنص الديني؟
هل يتم
الإقرار بضرورة التمييز بين الأئمة الذين يحترمون الدين الإسلامي، فلا
يعملون على أدلجته، ويحترمون المسلمين، فلا يضللونهم، بحيث يعملون على
كشف الواقع أمامهم كما هو، حتى يتبين لهم ما يجب عمله، وبين الأئمة الذين
يوظفون كل إمكانيتهم، من أجل أدلجتهم للدين الإسلامي، لدعم الاستبداد
القائم، أو لفرض استبداد بديل؟
هل يمكن وضع
حد للغالبية العظمى من الأئمة الذين يحرصون على نشر الفكر الظلامي،
الناتج عن أدلجة الدين الإسلامي، ويعملون على إصدار الفتاوى القاتلة،
بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة؟
هل نقر بناء
على ما رأينا، بأن تفسير آيات القرآن الكريم، وبقية النصوص الدينية، هو
عمل نسبي، ولا يصح سحبه على جميع الأزمنة، والأمكنة، نظرا لاختلاف
الشروط؟
هل نلتزم بما
يقتضيه المنطق القاضي بأن فهم من عاشوا في الزمن الماضي، لا ينسحب على
فهمنا نحن الذين نعيش في هذا الزمن؟
هل يتم
استحضار ضرورة قراءة القرآن، والحديث، على ضوء مستجدات العصر، من أجل
تجاوز الفهم المتخلف للآيات، والأحاديث، لضمان صلاحيتها لكل زمان ومكان؟
هل تتحطم،
بذلك، السدود التي أقامها مؤدلجو الدين الإسلامي، حتى يقوى المسلمون، في
كل بلاد الدنيا، على استخدام عقولهم؟
إننا عندما
تناولنا موضوع: "فهم آيات القرآن الكريم يجب
أن يرتبط بالشروط الموضوعية في الزمان والمكان"، تناولناه
بحكم الحرص على حماية فهم القرآن، وكذلك الحديث، من منزلق الإيديولوجية،
ومن منزلق التوظيف السياسي، الذي صار سائدا عند معظم المسلمين، في كل
بلاد الدنيا. وأنا، شخصيا، أحرص على أن لا أنزلق، بحرصي على نسبية الفهم،
الذي ينطلق من السياق، الذي وردت فيه النصوص الدينية المختلفة، ومن ضرورة
استحضار الشروط الموضوعية في الزمان، والمكان. والانزلاق وراء أدلجة
النصوص الدينية، من خلال إعطائها فهما يحولها إلى مجرد نصوص إيديولوجية،
وسياسية، يعتبر من أسهل ما يكون؛ مما يجعل حتى بسطاء الناس، يلجأون إليه،
لحاجة في نفس يعقوب. وتجنب الانزلاق وراء الأدلجة، والتوظيف السياسي،
يعتبر عملا صعبا؛ لأنه يقتضي أولا: امتلاك آليات الفهم، وثانيا: استيعاب
السياق الذي وردت فيه النصوص، وثالثا: دراسة الشروط الموضوعية في تصورها
حسب الزمان، والمكان، وحسب التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، التي أنتجت
تلك الشروط، حتى لا نسيء إلى الفهم الصحيح للقرآن، الذي لا يكون إلا
نسبيا.
ونحن عندما
نذهب إلى نسبية الفهم، لا نطلب من أحد أن يتبنى معنا ذلك. فالناس أحرار
في سجن أنفسهم في فهم من عاشوا في الزمن الماضي، أو في التحرر منه،
والعمل على إنتاج فهم متطور، ومنسجم، مع واقع الزمن الحاضر.
وبذلك، نكون
قد وفينا القول: في تناول موضوع فهم القرآن، من أجل إزالة اللبس، الذي
يلتصق بالأذهان.
فهل ننتقص من
أنفسنا، ومن قدراتنا، ونحن نعيش قمة التطور، الذي يساعدنا على فهم أحسن،
وأوضح، من فهم الأولين، لنسجن أنفسنا في إطار فهم محكوم بالتخلف الفكري،
والنظري، بسبب كونه ناتجا عن شروط أكثر تخلفا؟
ابن جرير في
: 15/10/2006.
sihanafi@gmai.com
http://www.esecuresite7.com/~elhanafi |