الْجَنَّةُ
لَدَى المُسلِمِين
8/22/2006
الْجَنَّة
مفهوم أساسي في الأديان نشأ عن سؤال فلسفي عن الموت وما بعد الموت؛ فكان ـ
وما زال ـ التفكير فيما بعد الموت قضيةً لا يمكن لأي منظومة فكرية التغاضي
عنها؛ ولهذا شَغَلَ الموتُ العقليْن، الديني والفلسفي، في كل العصور.
وتميط طريقة
معالجة هذه المسألة اللثام عن المستوى الروحي لمؤسسي أي دين؛ ومن جهة أخرى
فإن الجواب الذي أنتجه هؤلاء المؤسسون، مارس تأثيراً على قلوب وعقول أتباع
هذا الدين أو ذاك. ولهذا فإن تصورات المسلمين العقائدية لا تبيّن طبيعة وبيئة
مرحلة تأسيس الإسلام، ولا تكشف عن شخصية محمد وأصحابه في الدعوة الإسلامية
فحسب، بل تساعد على تحديد شخصية المسلمين، وكما أنها ترسم ملامح الوعي
الأخلاقي لديهم، إضافةً لذلك تؤكد أو تنفي وجود الحساسية الإنسانية.
في هذه المادة
سنعرض صورة الجنَّة لدى المسلمين، وسيرى القارئ من صفات الْجَنَّة الشخصية
الإسلامية ورؤيتها للثواب، وكيف ينظر المسلمون إلى الحياة وغاية الحياة،
فالْجَنَّة هي هدف أعمال المسلمين، فهي دار الخلود جزاءً لأعمالهم «الصالحة»
في الدنيا.
كي لا ندخل في
تفاصيل كثيرة جداً عن أوصاف الْجَنَّة، التي يرد ذكرها في الأحاديث المحمدية،
وفي الكتب الإسلامية فإننا سنعرض للجنّة وفق وصفها القرآني. ومن هنا سنعتمد
أساساً على القرآن، وسنستعين بالمأثور الإسلامي لإكمال الصورة فحسب.
الوصف الرئيس
المعين للجنة في الرؤية الإسلامية أنَّ فيها كل ما تشتهيه الحواس، وقد أشار
القرآن إلى ذلك: <وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ، وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ،
وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[1]>. وثمة
مأثور إسلامي يقول إن اللّه قال: «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا
أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ». وفيها من القصف واللهو بحيث أن المؤمنين
ليس لديهم علم بما <أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ[2]>.
هذا هو الوصف
الأولى للجنّة، وفيه نرى أن المسلم يُوعد
من قِبل اللَّهِ نفسه بالحصول على ما تقرّ به عينه، أي تحقيق رغبات حياته
الدنيوية.
البناء
عرض الْجَنَّة
هو <كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ[3]>.
وحسب الحديث فإنَّ للجنة أبواباً مخصصة لفئات مختلفة: باب التّوبة
(للتّوابين) ـ باب الصّدقة (للمتصدّقين) ـ باب الصّلاة (للمصلّين) ـ باب
الجِهاد (للمجاهدين) ـ باب الرّيان (لأهل الصيام).[4]
ولا يوضح الحديث هنا كيفية تحديد باب الدخول للمسلم، فهذه الأبواب هي واجبات
على المسلم، إلاّ إذا كان الاختيار يتم وفق مبدأ أرجح الأعمال، وبالتالي من
يكثر من الصلاة يدخل من باب الصلاة، وهكذا.
ويضيف المأثور
الإسلامي الوصف التالي للجنة، بأنها مبنية من «لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ
وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، مِلاَطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا
الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ. مَنْ يَدْخُلْهَا
يَخْلُدْ فِيهَا... لاَ يَفْنَى شَبَابُهُمْ وَلاَ تَبْلَى ثِيَابُهُمْ».[5]
والْمِسْكُ الأَذْفَرُ هو المسك الشديد الرائحة.
فيما يخص
البناء فقد أشار القرآن إلى وجود غُرف في الْجَنَّة طابقية،
وبعض غُرفها تجري الأنهار من تحتها.[6]
ويؤكد القرآن أن المؤمنين <فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ[7]>.
وإذ كان الوعد
ﺒ <الْغُرُفَاتِ> مناسباً لأهل قريش كونهم يقطنون مدينة تجارية وذات منازل،
فإن هذا الوعد قد لا يلقى استحساناً من جزءٍ كبيرٍ من سكان الجزيرة العربية؛
وهم أهل بادية، وبالتالي كان يتوجب استمالتهم بالحديث عن خيم الْجَنَّة، فوعد
محمدٌ المؤمنين بخيمة، فقال: «إِنَّ فِي الْجَنَّة خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ
مُجَوَّفَةٍ عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً».[8]
ويبدو أن ذلك تم في يثربَ عندما بدأت مجموعات بدوية تفد على محمدٍ، ومن
الواضح أن محمداً تلمس منهم مدى الارتباط العاطفي بالخيام، الذي ما زلنا نرى
أثار تعلق العرب بها إلى اليوم، وهذه التمظهرات النفسية تؤكد بشكل كبير على
تجذر البداوة في نفسية العرب.
لا تحتوي
الجنة غرفاً وَخِيَمَاً فحسب، بل تروي بعض الأحاديث أن في الْجَنَّة قصوراً
لنخبة المسلمين، مثلما نقلت المصادر عن أن محمداً رأي في
حلمه إمْرَأَة
تتوضأ بجوارِ قَصْرٍ، فسألَ لِمَنْ هذا القصر، فقيل
له إنه
لعُمَرَ
بن الخطاب.[9]
وهذا ينسجم مع المراتبية التي نص عليها القرآن صراحةً بقوله: <نَحْنُ
قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرَفَعْنَا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً
سُخْرِيّاً[10]>.
شراب وفواكه وأشجار وخمر
نلاحظ أنّ
الصورة النمطية عن الْجَنَّة تصورها كحديقة، وهي تهدف بشكل جلي إلى تقديم
إغراء كبيرٍ لأبناء الجزيرة العربية الساكنين في بيئة قاسية رملية؛ ولهذا
فالصفة الأبرز للجنة هي وجود الحدائق والمياه الجارية: <إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ[11]>. وفي
الْجَنَّة حدائق أَعناب،[12] ومختلف أنواع
الثَّمَرَاتِ،[13] وفيها فَاكِهَةٌ
كَثِيرَةٌ،[14] وكل ما يُشتهى من الفواكه.[15]
ويتمتع المؤمنون في ظل سِدْر لا شوك فيه، وبظل شجر مليئة بالموز، ظل دائم لا
يزول، وماء جارٍ دائماً.[16]
وثمة تركيز
على توفر الخمر.[17] فالمسلمون يشربون في
الجنة مِن كأْس خمر ممزوج بأنواع الطيب، وهي تنبع من عينٍ، وفي وسع المسلم أن
يسيطر على مجرى هذه العين، ويقودها أينما شاء.[18]
وكذلك يُسقى المسلمون من كأْس خمر ممزوج بالزنجَبيل من عين <تُسَمَّى
سَلْسَبِيلاً[19]>.
في أجزاء أخرى
من القرآن يُوعد المؤمنون بأنهم سيُسقونَ من خَمرٍ خالصة، من إناءٍ مختوم لا
يفك ختمه إلاّ شاربها، وآخر شربة من هذا الخمر يعبق برائحة المسك، وهو ممزوج
من عَينِ يطلقُ القرآن عليها اسم <تَسْنِيمٍ> التي توصف بأنها: <عَيْناً
يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ[20]>. وحتى
إن في الْجَنَّة أنهاراً من خَمرٍ التي يتلذذ بها الشاربون، علاوة على ذلك
فإن في الْجَنَّة أنهاراً من ماء، وأنهاراً من لبن، وأنهاراً من عَسلٍ
مُصفَّى.[21]
النّساء ـ ذرة الحسية في الْجَنَّة
المتعة الأكثر
إثارة في الْجَنَّة بالنسبة للمسلم هي انغماسه بالجنس وهذه المتعة هي مناط
حديث أي مؤمن، فربما يجهل المسلم الكثير عن الْجَنَّة ما عدا هذه المسألة.
والإسلام مشغول بالجنس، حيث يُوعد المسلم بنساء صغيرات كواعب، والكواعب
اللواتي
نهدت
ثديهن حديثاً.[22]
يُوعد المسلم
بنساء نشأن بدون ولادة، يتصفن بأنهن عذارى متجددات العذرية، فكلما مارس
الزّوج الجنس معهن وجدهن عذارى مجدداً، ويتصفهن أيضاً برفعة الأخلاق، وحسن
الوجوه.[23] وهنّ يعشقن أزوجهنّ،[24]
فلا ينظرن لأحدّ إلاّ إليهم.[25]
وتُعرف تلك
النساء باسم الْحُور لدى العامة من المسلمين، بسبب من وصف القرآن لهنّ بأنهن
نساء ذات عيون سود واسعة <وَحُورٌ عِينٌ> اللواتي شبهن باللُّؤْلُؤِ المصون.[26]
وحتى قيل عنهن: <كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ[27]>،
والتي يقول الجلالان شرحاً لها:
«<كَأَنَّهُنَّ> في اللون الأبيض <بَيْضٌ> للنعام، <مَّكْنُونٌ> مستور بريشه
لا يصل إليه غبار ولونه وهو البياض في صفرة أحسن ألوان النساء». وقد شبهن
القرآن ﺒ <كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ[28]>.
وفي موضع آخر
يوصفهن بأنهن حُورٌ مستورات <فِي الْخِيَامِ[29]>،
وأنهن لم يمارسن الجنس مع أحد: لا من إِنسٍ وَلاَ جَانٍ.[30]
الغلمان
وفي الْجَنَّة
غِلمان منوط بهم خدمة أهل الْجَنَّة، وقد قال عنهم القرآن: <وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ، كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ[31]>،
أو <يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ[32]>.
وبوسع القارئ ملاحظة أنَّ وصف الغلمان هنا <كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ>
يشبه الوصف الذي ورد بشأن الْحُور اللواتي هن: <كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ
الْمَكْنُون>.
ويشرح المأثور
«وما من أحد من أهل الْجَنَّة إلاّ يسعى عليه ألف غلام».[33]
بينا يضيف مأثور آخر القول: «هم أولاد أهل الدنيا: لم تكن لهم حسنات فيثابوا
عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها؛ لأن الْجَنَّة لا ولادة فيها؛ فهم خدام أهل
الْجَنَّة».[34]
سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
ثمة مكان في
الجنّة يُسمى <سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى[35]>،
وهي عبارة وردت مرة واحدة في القرآن. وتتباين التفسيرات الإسلامية بشأنها،
وما هو المقصود منها، فثمة قول ينص على أنها شجرة عند السماء السّابعة، لا
يمكن لأحد أن يتجاوزها. ويورد الطّبري في تفسيره الأقوال التالية:
وقال آخر:
«بأنها سدرة أصل العرش، إليها ينتهي علم كلّ
عالم... ما خلفها غيب، لا يعلمه إلاَّ
اللَّه». وقال آخرون: «قيل لها <سِدْرَة الْمُنْتَهَى،
لأنها ينتهي ما يهبط من فوقها، ويصعد من
تحتها من أمر اللَّهِ إليها».
ويحدد البعض
بأنها شجرة «يخرج
من أصلها أنهارٌ
من ماءٍ
غير آسن, وأنهارٌ
من لبنٍ
لم يتغيَّر
طعمه، وأنهارٌ
من خمرٍ
لذّة للشاربين، وأنهارٌ
من عسلٍ
مصفّى،
وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً
لا يقطعها، والورقة منها تغطي الأمة كلها».
تطور آيات الجنة
إذا استعرضنا
التسلسل التاريخي لآيات الْجَنَّة في القرآن، وفق
«تاريخ القرآن» لِنِلدِكه فإننا نلاحظ أن الآيات المتعلقة بالجنَّة
مرت بالمراحل التالية:
آيات العهد الأول ـ من مطلع الدَّعْوَة المُحَمَّديّة إِلَى السُّنَّة
الخَامِسَة منها (612 ـ 617م).[36]
الوعد
بالْجَنَّة مرفق بوصف مسهب لها في لغة متألقة، حسية. لها وزن شعري جميل، تكشف
عن نفس تواقة للجنة. وأطول نصوص هذه المرحلة الآيات المتعلقة بالْجَنَّة
الواردة في سورة الرحمن (الآيات 46 ـ 78) التي وعدت المؤمنين بجنتيْن ذواتي
أفنانٍ، ونساء لم يمارسن الجنس مع أحد لا من الإنسِ وَلاَ من الجَانّ. وتتكرر
المعاني في السورة مجدداً واللازمة المكررة بين الآية والأخرى هي: <فَبِأَيِّ
آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ> وهذه اللازمة أساسية لنص شعري يعبر عن لحظة
وجدانية متشوقة للجنة.
أغلب آيات هذه
الفترة تذكر النساء (الْحُور). والآيات قصيرة.
آيات العهد الثاني ـ الخَامِسَة والسَّادِسَة للدعوة (617 ـ 619م).[37]
لا تختلف
كثيراً آيات هذا العهد عن العهد الأول من وصف الْجَنَّة، والطعام والشراب،
والْحُور. غير أن آيات هذه المرحلة لا تحتوي نصاً مسهباً على غرار نص سورة
الرحمن في العهد الأول.
تتقارب آيات
هذا العهد من حيث الطول، لكن أطول مقاطع هذا العهد هو النص الوارد في سورة
الإنسان (الآيات 12 ـ 21).
آيات العهد الثالث ـ من السَنة السَّابِعَة للدَّعْوةِ إِلَى الهجرة (619 ـ
622 م).[38]
آيات هذا
العهد أطول، وبدأنا نقرأ الوعد بالْجَنَّة ﻟ <الَّذِينَ آمَنُواْ>
و<الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ>. والوعد هنا بالْجَنَّة عمومي، إذْ لا تدخل
الآيات في التفاصيل الجزئية مثل آيات العهديْن السّابقيْن.
الآيات المدنية[39]
الآيات هنا
عمومية أيضاً مثل آيات المرحلة الأخيرة في مكة، والعبارة التي تتكرر في هذه
المرحلة هي الوعد ﺒ <جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ>. وقد غدت
آيات هذه المرحلة أطول بشكل لافتٍ، حتى إننا نجد أن الآية (15) من سورة محمد
عن الْجَنَّة تعادل عشر آيات من سورة الرحمن.
أسماء الْجَنَّة
أورد القرآن
مجموعة أسماء للجنة، وهي تدخل في باب الأوصاف، أكثر من كونها مجموعة مرادفات.
وأكثر الأوصاف ذكراً هي: <جَنَّاتِ عَدْن[40]>؛
ثم <جَنَّاتِ النَّعِيمِ[41]>؛ في حين وردت
بقية الأسماء إما مرةً أو مرتين، وهي:
<جَنَّةُ
الْخُلْدِ[42]> ـ <دَارُ السَّلاَمِ[43]>
ـ <دَارُ الْقَرَارِ[44]> ـ <جَنَّاتُ
الْمَأْوَى[45]> ـ <جَنَّةِ النَّعِيمِ[46]>
ـ <نَعِيمٍ[47]> ـ <عِلِّيِّينَ[48]>
ـ <الْفِرْدَوْسِ[49]> ـ <دَارَ
الْمُقَامَةِ[50]> ـ <مَقْعَدِ صِدْقٍ[51]>
ـ <مَقَامٍ أَمِينٍ[52]>.
مصدر فكرة الجنة
قلنا للتو إن
أكثر أسماء الجنة تردداً في القرآن هو: <جَنَّاتِ عَدْن>. ولا بدّ أن القارئ
المطلع على العهد القديم لاحظ أن «جَنَّةَ عَدْنٍ» ورد ذكرها في سِفْرُ
التَّكْوِينِ: «وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلَهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقاً،
وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ» (2/8). و«أَخَذَ الرَّبُّ الإِلَهُ
آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ». (2/15). وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن
المصدر الذي اقتبس منه محمد فكرة الْجَنَّة التي ذكرها القرآن، وهل أضاف
محمدٌ عليها شيئاً أم أنه أخذها بنفسها بدون أي إضافة. على هذا السؤال سنرجع
إلى كتاب جون بلِر «مصادر الإسلام»،[53]
حيث تقصى الكاتب مصدر الفكرة فوجدها في مصدريْن رئيسيْن: يهودي وزارادشتي.
اعتبر اليهود
الْجَنَّة حديقةً بهيجةً تبلغ السماء السابعة، وأن لها بوابات وأربع أنهارٍ
من ماءٍ، وخمرٍ، وحليبٍ، وعسلٍ. ويُروى في عمل منحول يُدعى ﭭﻴزيو ﭙﺎولي
(الفصل 45) أن بولس صعد إلى السماء، ونظر إلى أنهار الْجَنَّة الأربعة.
كان اسم «جنة
عدن» إحدى أسماء الْجَنَّة الحبرية. ويرد اسم «عدن» مراراً في رسالة بِراخوث
للإشارة إلى الْجَنَّة: «فلنُمنح متعة السعادة في عدن»؛ «أعملُ لأستحق عدن».
تتكلم
الأﭭِستا عن المقام المبارك الذي فيه «تتذوق الرّوح المتعة أكثر من كل ما
يمكن للعالم الحي أن يتذوقه». وتذكر أيضاً عذراءً جميلةً وضيئةً تامةً كأجمل
ما تكون العذارى... ويرد فيها أيضاً ذكر اﻟﭙِريكات الأﭭِسـتية أو العذارى
الجميلات. ويقول تيسدَل في كتابه «مصادر القرآن»[54]
إن فكرة الْحُور في الإسلام مأخوذة من الأساطير الفارسية حول اﻟﭙِريكات، وهي
أرواح مؤنثة تعيش في الأثير مرتبطة بشكل وثيق بالنجوم والنور. وهي ذوات جمال
يأسر قلوب الرجال. ويعتقد أيضاً أن المفردة الفارسية مشتقة من «ﻫﭭﺎره»
الأﭭِستية («هور» في البهلوية، وفي الفارسية المعاصرة «خور») وكانت ترمز في
الأصل «للضوء»، «الإشراق» «أشعة الشمس»، وإلى «الشمس».[55]
وربما هنا يتوجب ذكر أن مفردة فِرْدَوْسِ وهي إحدى أسماء الجنة جاءت من اللغة
الفارسية.
كما يشير
تيسدَل إلى أن الفكرة الإسلامية عن أن الجنةَ ثوبٌ
للمقاتلين الذين سقطوا في ميدان المعارك هي فكرة قديمة؛ فلدينا في الأدب
الهندوسي ما يفيد أن الملوك الذين يقاتلون بحمية، ولا يخشون الموت، يذهبون
للجنة رأساً لدى موتهم.[56] وتكرر هذه
الفكرة في الأدب الهندوسي عن الملوك المتقين الذين يضحون بأنفسهم في ميدان
المعارك فيصبحون القاطنين الأبديين لهذا العالم الحقيقي.[57]
ولهم فيها ما يشتهون.[58]
وفي نص آخر
جاء: «إن المرء يحصل على السعادة بكسب النصر. وإذا قُتل، فإن له فواكه عظمية
في العالم الآخر!».[59]
نعود إلى كتاب
بلِر الذي يلاحظ أن مُحَمَّداً في وصفه لمتع الْجَنَّة القرآنية كان متأثراً
باللغة المجازية للكتب المقدسة والأدب التلمودي، وتصوره عن الأنهار الأربعة
والفواكه والظلال، وعدم الجوع والعطش يمكن أن يكون قد نشأ بشكل رئيس من هذه
المصادر، وهذا يثبت أن فكرة الجنة التي أوردها محمد كانت من الموروثات
العقائدية التي كانت سائدة في الشرق.
ولكن إذا كان
وصف محمد للجنة جاء من هذه المصادر، ونحن نعلم أنه لا يوجد في الكتب المقدسة
اليهودية والمسيحية ظل لفكرة شهوانية ترتبط بالْجَنَّة كما وُصفت في سِفر
الرُؤْيَا، أو في أي جزء من الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية. بل على العكس،
فإن هذه الكتب، تتحدث بشكل واضح عن إلغاء كل العلاقات الأرضية في الْجَنَّة؛
«عندما يقوم المَوْتى، لا يتزوَّجونَ ولا يُزوَّجُونَ، بل يكونون مِثل
الملائكةِ في السماءِ[60]». ولهذا لم يكن
من مناص أمام بلِر، وتيسدَل وغيرهما من إرجاع الأجزاء الشهوانية من جنة
مُحَمَّدٍ إلى نزعته الشهوانيّة، وهنا بالتحديد «الإبداع» المحمدي في صياغة
فكرة الجنة.
خاتمة
لقد أخذ محمد
فكرة الجنة من الأدب التلمودي والزارادشتي، لكنه أضاف إليها طابعاً شهوانياً
مفرطاً. باعتقادنا يعود نظم «أدب» شهواني عن الجنة في القرآن إلى عامليْن:
الأول، ربما
كان طابع قريش التجاري قد أوحى لمحمد بفكرة مساومة قريش، عندما عرض عليهم
«صفقة» القبول بدينه مقابل حياة ماجنة في الجنة، لكنه لم ينجحْ بهذا العرض،
وفشلت كل آيات الجنة على مدى ثلاثة عشر عاماً في كسب قريش لدعوته.
الثاني،
النزعة الحسية لمؤسس الإسلام، وهي تلازم شخصية ديناميكة فعالة وقوية وطموحة،
نجحت في نهاية المطاف بكسب عدد كبيرٍ من الأتباع. وهنا علينا ألاّ نغفل
السيرة الخاصة لمحمدٍ، فهو إذا أعطى فكرة الجنة طابعاً حسياً كان بنفس الوقت
يلبي نزوعاً داخلياً لديه، ربما يرجعها بعضهم لحالة التقشف المفروضة عليه
بسبب زواجه من خديجة: الأكبر سناً، والأكثر غنىً، والداعم الرئيس له في سنوات
دعوته. وبالتالي ربما كانت هذه الآيات الحسية توفر له إشباعاً بديلاً على
المستوى اللاشعوري بسبب قلة الإشباع الحسي المباشر.
بكل الأحوال،
كان الوعد بالْجَنَّة والوعيد بالنار الأسلوب الأساس في الدعوة للإسلام في
الفترة المكية، لكن محمداً كلما ازدادت دعوته قوةً كلما كانت آياته تميل لأن
تكون أكثر تهديداً بالسلاح وأقل وصفاً للْجَنَّة السماوية. ويلاحظ بلِر أن في
جميع السور المدنية، التي تمتد على عهد عشر سنوات بعد الهجرة، لم يرد ذكر
النساء سوى مرتيْن بوصفهن إحدى متع الْجَنَّة، وفي هذه الكلمات البسيطة:
<وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة[61]>.
*
* *
إنَّ إجابة
محمد عن سؤال الموت بخلق حياة أخروية حسية غريزية، قد جعلت تفكير المسلمين
منصباً على تعويض أقل ما يُوصف بأنه تعويض فاسق. والحسية في الوعد بالجنة، هي
ما ساهمت مساهمة كبيرة في خلق ميل شهواني ـ غرائزي لدى المسلم، ذلك أن الغاية
النهائية من أعماله بلوغ هذه الجنة. ولهذا فإن فكرة الْجَنَّة تلعب دوراً
كبيراً في إثارة الحسية في الشخصية الإسلامية. فالفكرة الأولية عن الْجَنَّة
ترتبط أولاً بنسائها اللواتي يتسمن بجمالٍ خلابٍ، فوق أي تصور. وعادة ما يعيش
المسلم في طقوسه الدينية سبحات لذائذية وهو يتخيل الْحُور اللواتي ينتظرنه في
الْجَنَّة. فالرجل يوهب في الجنّة قوة مئة رجلٍ، وهو «يصل في اليوم إلى مئة
عذراء»؛ لا بل «إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مئة عذراء».[62]
والصفة هي بأن الجنس يجري «بِذَكَرٍ لا يملّ وبشهوةٍ لا تنقطع».[63]
بذلك لم تعد
الْجَنَّة المحمّدية جواباً على سؤال الموت، بل صارت مُحدداً لقيم المسلمين
الأخلاقية في الدنيا؛ فعندما يبدأ الوعي الماورائي يتحدد بشهوانية من هذا
الطراز، فمن الطبيعي أن يكون المسلم في حياته مسكوناً بهاجس الجنس لدرجة
مروعة، كما تكشفه حروب المسلمين الاستعمارية، وسلوك المسلمين تجاه النساء:
إنْ كن مسلمات أو غير مسلمات.
من جهة أخرى
سعى المسلمون لبناء مثال الْجَنَّة على الأرض ووفق صورتها السماوية، فقام
المسلمون ببناء جنتهم الأرضية من خلال التوسع الاستعماري (الفتح)، مما وفّر
للمسلم «حوراً» أرضيات (=رقيقات) ربما تجاوز لدى البعض من الأثرياء وأمراء
الحرب والزعماء ما وعدهم به محمدٍ. كذلك الأمر فيما يخص الثروة المادية. وكان
على المسلمين الفقراء الذين يحلمون بالْجَنَّة أن يلبوا نداء أئمتهم وزعمائهم
للحرب تحت رايات الجهاد والأمل يحدوهم لنيل الثروات المادية وتحصيل الغنائم
والأموال، وأسر حُور بشريات؛ أو «الشهادة» ونيل ملذات ما بعد الموت، ذلك إن
الصورة الذهنية المغروسة في عقل المسلم عن الجنة وملذاتها تعطيه دافعاً
للقتال نيلاً ﻟ «الشهادة»، فهو وُعد إلهياً بأنه في حال قُتل في سبيل الهيمنة
على العالم فإن له:
1. الغفران
الفوري؛
2. رؤية مكانه
في الْجَنَّة؛
3.الإعفاء من
عذاب القبر؛
4. الأمن من
الفزع الأكبر؛
5. أنْ يحلّى
حلَّة الإيمان؛
6. الشفاعة في
سبعين إنساناً من أقاربه؛
7. الزواج من
«الْحُورِ الْعِينِ».[64] وحتى أن ثمة
حديثاً نبوياً يحدد بأن من قُتل في سبيل الإسلام فإنه «يُزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ
وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ».[65]
هذه الأحلام ـ
الأوهام ـ الرغبات خلقت أدباً عن الجنة، يمكننا أن نطلق عليه أدب ألف جَنَّة
وجَنَّةٍ، من أشهرها كتاب: «حادي الأرواح إلى بلاد
الأفراح» لابن قيم الجوزية؛ و«كتاب صفة
الْجَنَّة» تأليف الحافظ ضياء الحنبلي المقدسي. دعْ عنك الأدب
التحريضي على القتال في المساجد، والوسائل السمعية والبصرية والمكتوبة، الذي
يركّز على ثواب الجنة واثْنَتَيْنِ وَسَبْعِين مِنْ الْحُورِ الْعِينِ دفعاً
للمسلمين ﻟ«الجهاد».
فهل يمكن
للمسلم ألاّ يندفع لنيل «الشهادة»؟
ـــــــــــــــ
[1]
سورة الزخرف: 43/71.
[2]
سورة السجدة: 32/17.
[3]
سورة الحديد: 57/21.
[4]
البخاري ومسلم.
[5]
سنن الدرامي، باب في بناء الْجَنَّة، وبمعنى مشابه جاء ذلك لدى الترمذي، باب
صفة الْجَنَّة، ومسند أحمد.
[6]
سورة الزمر: 39/20.
[7]
سورة سبإ: 34/37.
[8]
البخاري. وفي نص آخر جاء: «الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ طُولُهَا فِي
السَّمَاءِ ثَلاثُونَ مِيلاً».
[9]
صحيحُ البُخَارِيّ، رقم 3533؛ صحيح مسلم، رقم 6147.
كذلك مادة عمر بن الخطاب في
أُسد الغابة: 3/654.
[10]
سورة الزخرف: 43/32.
[11]
سورة الحجر: 15/45.
[12]
سورة النبإ: 78/32.
[13]
سورة محمد: 47/15.
[14]
سورة ص: 38/51؛ سورة الواقعة: 56/ 32.
[15]
سورة الإنسان: 77/41 ـ 42.
[16]
سورة الواقعة: 56/27 ـ 31.
[17]
سورة النبإ: 78/34.
[18]
سورة الإنسان: 76/5 ـ 6.
[19]
سورة الإنسان: 76/17 ـ 18.
[20]
سورة المطففين: 83/25 ـ 28.
[21]
سورة محمد: 47/15.
[22]
سورة النبإ: 78/33.
[23]
سورة الرحمن: 55/70.
[24]
سورة الواقعة: 56/35 ـ 37.
[25]
سورة الصافات: 37/48. قارن سورة ص: 38/52؛ سورة الرحمن: 55/56.
[26]
سورة الواقعة: 56/ 22 ـ 23.
[27]
سورة الصافات: 37/49.
[28]
سورة الرحمن: 55/58.
[29]
سورة الرحمن: 55/72.
[30]
سورة الرحمن: 55/56، 74.
[31]
سورة الطور: 52/24.
[32]
سورة الواقعة: 56/17، وسورة الإنسان: 76/19.
[33]
تفسير البغوي على سورة الطور: 52/24.
[34]
تفسير البغوي على سورة الواقعة: 56/17.
[35]
سورة النجم: 53/14.
[36]
نصوص العهد الأول: سورة الرحمن: 55/46 ـ 78؛ سورة الواقعة: 56/10 ـ 40؛ سورة
النبإ: 78/31 ـ 36؛ سورة المطففين: 83/22 ـ 28؛ سورة الغاشية: 88/8 ـ 16.
[37]
نصوص العهد الثاني: سورة الحجر: 15/45 ـ 48؛ سورة الفرقان: 25: 15ـ 16؛ سورة
يس: 36/ 55 ـ 58؛ سورة ص: 38/49 ـ 54؛ سورة الدخان: 44/51 ـ 55؛ سورة ق:
50/31 ـ 35؛ سورة القمر: 54/54 ـ 55؛ سورة الإنسان: 76/12 ـ 21.
[38]
نصوص العهد الثالث: سورة يونس: 10/9 ـ 10؛ سورة الزمر: 39/73 ـ 74.
[39]
سورة البقرة: 2/25؛ سورة التوبة: 9/72؛ سورة الحج: 22/23؛ سورة محمد: 47/15.
[40]
سورة التوبة: 9/72؛ سورة الرعد: 13/23؛ سورة النحل: 16/31؛ سورة الكهف:
18/31؛ سورة مريم: 19/61؛ سورة طه: 20/76؛ سورة فاطر: 35/33؛ سورة ص: 38/50؛
سورة غافر: 40/8؛ سورة الصف: 61/12؛ سورة البينة: 98/8.
[41]
سورة المائدة: 5/65؛ سورة يونس: 10/9؛ سورة الحج: 22/56؛ سورة لقمان: 31/8؛
سورة الصافات: 37/43؛ سورة الواقعة: 56/12؛ سورة القلم: 68/34.
[42]
سورة الفرقان: 25/15.
[43]
سورة الأنعام: 6/127؛ سورة يونس: 10/25.
[44]
سورة غافر: 40/39.
[45]
سورة السجدة: 32/19؛ سورة النجم: 53/15.
[46]
سورة الشعراء: 26/85.
[47]
سورة الانفطار: 82/13؛ سورة المطففين: 83/22.
[48]
سورة المطففين: 83/18.
[49]
سورة الكهف: 18/107؛ سورة المؤمنون: 23/11.
[50]
سورة فاطر: 35/35.
[51]
سورة القمر: 54/55.
[52]
سورة الدخان: 44/51 ـ 55.
[53]
John C. Blair, The Sources of Islam, Chapter VII, pp 92-103,
Madras, Allahabad, Rangoon, 1925.
[54]
W. St, Clair Tisdall, The Original Sources of the Qur'an, pp 235-
239.
[55]
كتابيْ تيسدل وبلِر.
[56]
The Laws of Manu, In: Sacred Books of the East, Volume 25,
Translator George Bühler,
Chapter VII , verse 89.
[57] Sources of Qur’an p.
239.
[58]
The Mahabharata, Book 3: Vana Parva, Nalopakhyana Parva,
Section LIV, Translated by Kisari Mohan Ganguli (1883-1896),
p. 117.
[59] Mahabharata,
Book 9: Shalya Parva:
Section 19.
[60]
مَتَّى: 22/30.
[61]
سورة البقرة: 2/25؛ سورة النساء: 4/57.
[62]
كتاب صفة الْجَنَّة، تأليف الحافظ ضياء الدين أبي عبد اللّه الواحد الحنبلي
المقدسي.
[63]
كتاب صفة الْجَنَّة.
[64]
سنن ابن ماجه، كتاب الجهاد.
[65]
مسند أحمد، مسند الشاميين. |