الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

اقرأ المزيد...

فهان كيراكوس * سوريا * 

  Mvw55hl@gmail.com

شالوم يا عزرا السوري... شالوم

فهان كيراكوس

قوس النصر نفسه ما زال منصوبا في رأس شارع الكنيس، و الكلام المكتوب على القوس نفسه لا يزال يُقرأ، و خاصة إذا كان القارىء ابن القامشلي، tالمكتوب يقول: " أبناء الطائفة الموسوية يشاركون الشعب السوري أفراحه و أعياده الوطنية و القومية...إلخ". أمَّا الكنيس يا حج عزرا، فقد تحوَّل إلى سوق تجارية، حيث فُتحتْ دكاكين متنوعة بدءاً من عند الباب الرئيس إلى الطرف الشرقي الواقع في شارع الحمَّام، مع صورة جديدة ملوَّنة لِرئيس البلاد الدكتور بشار الأسد فوق قنطرة الباب الغربي.

لفد تحوَّل هذا المكان الذي كان مقدَّسا في زمن ما إلى أطلال من الداخل و أماكن لبيع الأحذية و الكلاشات من الخارج، بِالتأكيد يا عزرا أنتَ سوف لن تأخذ السوط و تفعل كما فعل ابن مريم، فَالمكان فَقَدَ رمْزيته المقدَّسة بعد أن أفرغتموه من الأيقونات و المباخر و البشر، حيث حملتم بعضكم و اتجهتم غربا نحو شواطىء عكَّا و يافا و بيت إيليا. إنكم اقتلعتم لونا جميلا من لوحة القامشلي، خلَّفتم رقعة عارية كسَاها الصدأ و الغبار و راحت اللوحة تتصدَّع بعد أن نَخَرَ فيها العث و العفن الأخضر الناتج من نسيج الفطر السام الذي تسلل إلى قلب اللوحة من تحت أنوفنا، إن تحلّل ألوانها الزائلة لِالاختفاء كشَفَ عن أكذوبة عملاقة بِ حجم الديناصورات المنقرضة، أكذوبة قبول الآخر، أكذوبة الانتماءات، أكذوبة المساواة، العدالة،الرحمةالإخاء الشراكة...إلخ. إننا في الزمن الأصعب يا عزرا، فَالألوان في طريقها لِالزوال، و اللون الواحد الجبَّار القوي المنَّان القهَّار يجتاح اللوحات الملوَّنة، و يسدل الوشاح الأسود على الفاتنات من المدن و البلدان و الإناث، و تراني أحوم حول حبيبتي قامشلي أداعب خدَّها الناعم، و ألثم رموشها المسدلة على نبعين صافيين، عينين حوراوين، أحاول إبعادها عن الإعصار القادم من خلف كثبان الربع الخالي، فكَّرتُ أن أستنشقها، أو أشربها، أو أحقنها في وريدي كي تتَّحد مع كياني، إنها حلوتنا، حلوتي، حبيبتي، يا قامشلي، يا أيتها المضطجعة تحت خيام الرعاة من كلِّ الأجناس، إنهم فتكوا و ما زالوا يفتكون بكِ بأنيابهم و نصال سيوفهم، مزَّقوكِ و ارتشفوا رحيق لسانكِ و وزَّعوا مِزَقَ ثوبكِ على جنود رَبِّ الرعاة. كم كنتِ جميلة في الزمن الوردي، حيث كنَّا نتهامس تحت الخمائل و ظلال أشجار الحور ( قبل إعدامها) بعيدا عن قطعان الهمج و الرعاة، كان الأكبر منَّا سنّا يتلكأون في كثير من الأحيان حين كانوا يقطفون وردات الربيع بِحركاتٍ و إيماءاتٍ ملؤها الشهوة و الرعشات الخفيَّة، و التي كانت تسببها اهتزازات أمواج الأثير حول الفساتين المهفهفة، و كيف أنهن كنَّ يضبضبنَ أطراف فساتينهن بِغَنَجٍ مُسْكِرٍ لِدماغ الشباب المراهقين الذين كانوا يقطعون المسافات بِجولات فلكية لاختزان صوَرٍ رائعة من الالتواءات اللدنة الشهيَّة، أو تسجيل كلمات طرية في خلايا القلب الراقص على أنغام الموسيقا الصادرة من مكمن الحبِّ و الدفء و الحنان، من مادة الحياة اللطيفة الجميلة الحنونة، أساس الحياة و جوهرها و طرفها الزاهي الهادىء الدافئ الراقي.

كانت مشاوير العشاق تبدأ من عندكم لِعندنا، حيث كانت حاراتكم هي بداية السوق، و معروف عن العشاق، أنهم يفتحون لهم دروبا كما النمل بعيدا عن الزحمة و الضوضاء لتتحوَّل فيما بعد إلى طريقٍ لِالعشاق، ( شارع العشَّاق)، بِالتأكيد كانت هناك شوارع عشَّاق عديدة في القامشلي، و بِالتأكيد كانت لكلٍّ منها أصولها و ثقافتها و جمالياتها، فَشارعنا نحن يا حجّ عزرا كان يبدأ من حارتكم( حارة اليهود) مارَّاً بشارع الحَمَّام و منعطفا يسارا إلى نهر الجغجغ حيث المياه و الخضرة و أشجار الحور و زقزقة الأطفال و تغريدة الصبايا و روائح العطور الفوَّاحة من الذكور و الإناث و تنهيدة قلوب العشَّاق و نظراتهم التي تتراوح بين التوسّل و الشبق و الانكسار، و أصوات المجموعات (من الشباب) التي كانت تتحلَّق حول مائدة طيَّارة على الأرض العشبي يمزمزون حليب السباع الذي يلوِّن الألوان ألواناً أزهى و أبهى، و يقرِّب صدور الفاتنات من أنظارهم أكثر، و يجسِّد الهواء المحيط بهنَّ بِ شكلٍ أوضح في صورة أنثى يرَوْنها في مخيالهم كما يشتهون.

كان طريق العشَّاق جميلا، و كانت للحياة في الأيام المقدسة المخصصة للعشاق طعما مختلفا عن باقي أيام الأسبوع، فَالسبت سبتكم حيث لا عمل و لا تجارة سوى الراحة الإلهية و العشق الإلهي، و كنت أراكم في مشاويركم/ الشباب و الصبايا/ في أجمل صورهم و أناقتهم، و في كثير من الأحيان كان كبار السن أيضا يستمتعون بهذه المشاوير، و كم كنتُ أفرح حين كان البعض منهم يلقي التحية علينا( على أهلنا) دلالة المعرفة و الجيرة، و كانت تنتابني مشاعر الغبطة حين كانت فتياتكم يقفن مع فتياتنا و يبدأن بِالحديث معاً و حين كنتُ أسمع ضحكاتهن سويا، كنتُ أرتجف فرحاً لهنَّ، و مع مرور الزمن قليلا و تعرّفي بكم أكثر، أصبحتُ أمتلك الشجاعة بِالسير وحيدا في حاراتكم باتجاه السوق، و أكثر من ذلك، تجرَّأتُ بِالدخول إلى بيوتكم ليلة السبت حيث كان يُطلبُ منَّا إشعال الضوء أو الفانوس أو البابور...إلخ، و كنَّا نُكافأ بِكثير من البزر و القضامة و الفستق و الزبيب، و في بعض الأحيان بِفرنك أو فرنكين، هذه المكافأة كانت تبعث في نفوسنا الأمان و الطمأنينة و المودَّة لكم في لا شعورنا و لا وعينا، طبعا هذا السلوك لم يكن مدروسا و مطبوخا في دوائر الصهيونية العالمية، إنما كان سلوكا إنسانيا لا أكثر و لا أقلَّ، و لم يكن لتحسين صورة اليهودي في أذهاننا، تلك الصورة التي انتقلت بفعل العطالة إلى حياتنا الاجتماعية؛ فَمثلا عندما كانت تجتاح الدوَّامات الصيفية و الخريفية أحياءنا، و المحمَّلة بِالغبار و الأوساخ، تلك الدوَّامات التي كنَّا نسميها العجاج، كنَّا نتقافز كَالقرود أمامها و خلفها مُطْلِقين الأهزوجة المعروفة و المعتادة آنذاك لإبعاد العجاج و مضاره عنَّا و عن منازلنا إلى جهة أخرى و قومٍ آخرين، و كنَّا نصرخ ملء حناجرنا موجهين كلامنا للعجاج:" عَلْ يهود، عَلْ يهود، عَلْ يهود..." أي لِيذهب هذا العجاج على اليهود، و أيضا كانت هناك بديهية نردِّدها حبن كان أحدنا يُصاب بِ جرْحٍ بسيط في عضوٍ من أعضاء جسده، و ذلك من باب التهويل و السخرية، إذْ كنَّا نقول:" آه.. واحد يهودي أصابه مثل هذا الجرح و مات"، و إذا كنَّا سَنُعيب على أحدٍ منَّا لِنهينه و نحقِّره و نعزله عن المجموعة، كنَّا نصفه بِاليهودي ( طبعا دون أن نعرف طبائعهم و صفاتهم)، بِالإضافة إلى هذه الصورة السلبية جدا و المكروهة التي زرعها أهلنا و مجتمعنا في مخيلتنا، كانت هناك أسطورة مرعبة تردِّدها أوساطنا الاجتماعية، بدءاً من العائلة و انتهاءاً بِالحارة، و جوهر تلك الأسطورة هي في أن اليهود يسرقون أو يخطفون الصغار و يضعونهم في مهدٍ هزَّاز أرضيته مزروعة بِصفوف من المسامير الفولاذية المسننة، و يجمعون دمه في دستٍ لِيصنعوا منه عجينهم و خبز الفطير!! لِيرحمكِ الله يا أمي العزيزة، أعرف بِأنَّكِ لم تكوني مقتنعة بهذه الخرافات، و أعرف بِأنَّكِ كنت ترمين من خلالها إلى إخافتنا كي لا نبقى طويلا خارج المنزل وحيدين و خاصة عند المساء، و أيضا كي لا نبتعد كثيرا عن المنزل منفردين؛ لكن يا أمي هل تعلمي بِأنني الآن أخاف المرور من حارة اليهود بعد أن فرغَت منهم، و  أنني أشعر بِالحزن و الأسى كلما أرى منازلهم أو بِالأحرى ما تبقَّى من منازلهم، و أنني أتذكَّرهم جيدا و خاصة أيام السبت حيث كانوا ينظِّفون أمام بيوتهم و يرشُّون الماء لتلطيف الجوِّ الحار و يجلسون مع بزوراتهم أمام أبوابهم، و في أغلب الأحيان، و من خلال هذه الذكريات تنتابني رعشات الحزن العميق عليهم و علينا. لماذا كنَّا نردِّد تلك الثقافة المقيتة الهمجية المقززة للعقل البشري؟ من أين أتت هذه الثقافة السوداء الداعية للحقد و الكراهية و رفض و تحقير اليهود؟ ماذا فعلوا بنا، ألم نكن جيرانا و أبناءَ بلدٍ واحد؟ ثم أنهم كانوا مؤدَّبين و مسالمين و لطفاء و مكدِّين و مجدِّين، و أنني وقفت أكثر من مرَّة أمام أطلال بيوتهم و اعتذرتُ من أرواحهم و أسمائهم الهائمة في الأثير المحيطبنا هَهنا في هذا المكان البائس، و أكثر من مرَّة صارت هذه الصورة تمتد إليَّ و تحفر نفقا في جمجمتي، فَاللون الواحد آتٍ بِإصرار، ففي وقفة استغفاري و تنظيف روحي، كانت تنتابني لحظات كآبة و حزن، و كنت أقول في نفسي، و الآن أيضا أقولها علناً، هل سيقف أحدهم أمام أطلالنا و يتذكَّر أسماءنا أم أنهم سيقتحمون أطلالنا و يغيِّرون معالمها و يبدِّلون أسماءنا كَعادتهم عبْر التاريخ؟؟ كم كنت أتمنى لو أنَّ أبويَّ الحبيبين اعتذرا منهم و هما على قيد الحياة، لكن لا بأس يا عزيزيَّ، صحيح أنا لا أعرف أين أنتما من ملكوت الله، و لا أعرف إنْ كنتما تلتقيان أم لأ، و المهم في الأمر هو ؛ أوَّلاً، إنْ رأيتما الله بلِّغاه تحياتي و محبتي له، و ثانيا، أريد منكما أن تبحثا عن ابن بلدنا عزرا اليهودي هناك في السماوات لتقدِّما له الاعتذار عن تلك الخرافات و الحكايات المغرضة التي تم ترويجها بيننا و التي كانت مليئة بِالحقد و الكراهية، أن تعتذرا له عن تلك الثقافة التي لا تمتُّ لأخلاقنا بِأيِّ صِلة لا من قريب أو بعيد، و ليسمع كلامي من خلالكما: أنهم خيرا فعلوا لِقومهم، و أنهم أكثر واقعية منَّا نحن، لكنهم بخلاصهم قد أضرُّوا بنا نحن المشتركين معهم في الإثم و الكفر في ديار الله و كتابه العزيز، ألم يكونوا يعلمون بأنهم خلَّفوا ورَقَة بن نوفل هناك ليكفِّرنا جميعا هنا في هذا الشرق المسحور الجميل، و الذي لم يبق لنا فيه مساحة شهقة من روح المحبة و التسامح و الإخاء؟!

ألم تلمس بنفسك يا عزرا استهدافنا نحن المخالفين لكتاب الصحراء من قِبَلِ جميع الإثنيات و الأعراق و القوميات المنضوية تحت لواء سيوف الرمال؟ ألم تتحقق بنفسك بِأننا مستباحون لجنود ربِّ الرعاة، أحفاد ابن العاص و صلاح الدين و ابن أبي سفيان...إلخ؟؟ و مع كلِّ ذلك يا حج عزرا أتمنى لكم حياة هادئة هانئة حيث أنتم، و لكم منَّا سلام البشر و الجيران و الوطن.


شالوم يا عزرا القامشلاوي... شالوم.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها