عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

حميد عواد*

 

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية


 لهفة الغيارى على ديمومة سُؤدد الوطن

المهندس حميد عواد*

أبدع اللبنانيّيون بصياغة "حِلىً" ودبّجوها "جوهرة" أسموها لبنان.

في موئلٍ جَسّدَ أساطير الجنّة، رصّعوا فسيفساءهم النفيسة ضمن إطار عيش ميمون، رعاه نظام ديمقراطيّ ميّزه عن محيطه بحماية الحريّات العامّة، التي لا تنزلق إلى الفوضى ولا تستبيح كرامة وحقوق الإنسان لأيّ انتهاك، وبصيانة الحقوق المدنيّة وتحفيز الواجبات واحترام وقبول الخصوصيّات، إضافة إلى تأمين إنسياب سلس لتداول السلطة.

ثمانية عشر طائفة ارتجى أصحاب الطويّة الطيّبة منهم وئاماً نموذجيّاً يَبْهِتُ معه ألوان الفروقات لتذوب وتتبلور في بوتقة تجلٍّ وطنيّ صافي الولاء.

لكنّ تقيّةً هجينةً تسلّلت إلى أذهان جماعات، متلبّسةً ثوب التقوى وهتكت بِكر وبتوليّة ولائهم الوطنيّ.

هبّ هولاء يبشّرون بنشر وهيمنة ناموسهم جاعلينه محراثاً يفلح أرض الغير وطوفاً لا مردّ له وبديلاً للدستور والنظام القائمين.

ثمّ اتخذوا من شعار إلغاء الطائفيّة غطاءً لانغراسها في نفوسهم وماسحاً لِمَحْوِ من لا يشاركهم معتقدهم.

هذا الجموح الجيّاش يثيره تحريض "كفاح مَهِيْب" يتطلّب بروز أعجوبة، تدحض مُوقِديْه، لِتُهْمِده.

التزمّت يكلّس الدماغ ويعطّل العقل ويمنع التحليل المنطقي ويحوّل المدنيّة إلى بداوة والنعيم إلى جحيم، إذ يحجر الأذهان في طقوس ونزعات غرائز العصور الغابرة

التنكّر لأفضال الوطن ونبذ الولاء له هما عقوق وقطع ل"حبل السُّرَّة" الممتدّ من أعماق التاريخ وتشويه لصورته الحضارية وخنق للرأي الحر الرشيد وتفريط بتضحيات اللبنانيين وإجهاض لجهودهم الخيّرة المحفّزة لنهوض الوطن والداعمة لصموده.

مكافحة طاعون التزمّت الفتّاك والعداوة الغرائزيّة تكمن في تلقيح النفوس بإكسير المحبّة وترياق الأخوّة لشبك وشائج الأُلفة ودحض التلقين الملوّث بالجهل والمحقون بالكراهية

الوطن يُرفع على مناكب أبنائه الأبرار ويُعمَّر بجهد سواعدهم وشحذ مواهبهم وبذل تفانيهم.

الإنجازات المجيدة المتكاملة والمتطوّرة، التي بدلت السخام بالرخام، تشهد كَمْ يعشقونه ويعزّونه ويفخرون به ويتعلّقون بانتظام موسّساته أكثر من ساسته ويحرصون على عدم تنكيس رايته من جانب المناهضين لطبيعته.

الأحرار ينجذبون إلى القيادة الفذّة والفطِنة ويمحضونها التأييد والدعم طالما استنارت بالحكمة وطوّعت المصاعب واستنبطت الحلول وحفّزت النموّ وأصابت الأهداف وأثبتت جدارتها وحظيت بالثقة، لكنهم يمقتون المستبدّين وينفرون من العبوديّة وعبّاد الأصنام

ظننّا لبرهة أنّ الحداثة مَحَتْ عهود الذلّ الآفلة في غياهب التاريخ، لكنّ أرواح الطغاة الشرّرين وصانعي البدع المشعوذين نفضت غبار القبور وتناسخت في أحشاء حكّام معاصرين اشتقّّوا طبائعهم الشرسة ونصّبوا أنفسهم "قُدوة تُحتذى" لمتملّقيهم

ونكّلوا بمن تحدّى سلطانهم واستهلكوا مناوئيهم واستنفدوا الكنوز وأقحلوا مصادر الخصب وسبّبوا المجاعة والتشتّت ونشروا الأوبئة.

 صحيح أنّ التملل والغضب من الظلم والنهب والقحط أثار شعوباً أطاحت ببعض من هذه الرؤوس، مدعومة من دول وسطى وكبرى، لكنّ النهوض من ركام المعارك وفوضى التخبّط يتعثّر ويطول.

هناك من يمتطي صهوة الدين ليستقطب الأتباع ويختلس ولاء رعايا غيره جاذباً العصب العقائديّ ومتدجّجاً بالسلاح باثّاً شُهُب التخصيب الذرّي لينفخ عنفوان مشايعيه وليُروّع معارضيه البلديّين وليُرعب جيرانه.

في عتمة هذا الكسوف تتألّق عظمة نضال اللبنانيّين الشهماء الساعين لإنهاض وطنهم، مضيفين رصيداً إلى ودائع التضحيات الجليلة المبذولة لصيانة عزّة الكرامة وسيادة القرار الوطنيّ المستقلّ ترسيخاً للإستقرار ونفحاً للإزدهار.

التغيير هو هندسة المستقبل لا يؤتمن على تصميمها إلاّ خبراء موثوق بسعة معرفتهم وصدق دوافعهم وشبْك تعاونهم لقيادة مسيرة النمو والإرتقاء والإزدهار.

عندما تتناسق المواهب المتنوّعة وتتناغم كموسيقييّ أوركسترا يعزفون، بقيادة المايسترو، نوطات الولاء في لحن النشيد الوطنيّ، عندها ينمو الوطن و يزدهر.

إرتقاء سلّم التطوّر، يهديه الفكر النيّر والخلاّق، الذي يفرز عسل إبداعه من رحيق أزهار متعدّد النكهات، يرتشفه خلال مراودة نُخَبِها وتلقّيحها، بعد تحرٍّ دقيق، ليقدّمه غذاءً لذيذاً على مائدة الشراكة البشريّة.

الضمائر الحيّة تتخاطر للإئتلاف في وجه خطر وجوديّ تستشعره، فلنلبِّ النداء.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها