عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

حميد عواد*

 

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية


إستدعاء الحاوي لسحب الأفعى

201301
 

معيار النجاح والنموّ والإرتقاء في المجتمع هو حيويّة ونشاط ومهارات أفراده وقدرته على تأمين تنشئة صافية المشارب منزّهة الأهداف مستقيمة المسار.

هذه الإستقامة وذاك الصفاء ينطلقان من عهد الوفاء للوطن وإستلهام نفائس التراث والتذخّر بالقيم الإنسانيّة السامية المفتوحة الآفاق والسعي الدؤوب لتحصيل العلم والمعرفة والثقافة والعمل والتنعّم بحقّ إستغلال الطاقات والمصادر المتاحة والفرص العادلة لتأمين عيش موفور الكرامة والعزّة.

أي خلل أو نقص في هذه المقوّمات أو حرمان منها يسبّب تململاً وسخطاً وتمرّداً في صفوف المغبونين ويوقد في نفوسهم جذوة الحريّة شعلة ثورة.

ْفي سورية تمادى النظام بتسخير قوّته لإستنزاف صبر المواطن الحرّ تنكيلاً وقمعاً وإستنفاد أنفاس وسفك دماء حتى طفح كيل الإحتمال فإنتفض معارضوه سلمياً، لكنّ عنف ردع الإنتفاض دفعهم إلى الحصول على سلاح لصدّ ضربات عسكره وصبّ وتكثيف الجهود لإسقاطه رغم الكلفة الباهظة بشراً وخراباً وبؤساً إضافةً إلى مأساة تشرّد هائلة نجمت عن إتّساع نطاق المواجهات.

.أركان النظام السوري والمرتبطون عضويّاً بهم يحاولون لجم الإنزلاق نحو هاوية الإنهيار لذلك يستمدّون الدعم وحاجات البقاء من حلفائهم الملهوفين لحماية مصالحهم المشبوكة والمقترنة بصمودهم في مواقعهم على رأس النظام.

إنّهم يستجيرون بعرّابهم الإيراني النشّاب لتوسيع نفوذه المستوطن في سوريا والممتد عبرها إلى رعيّته داخل لبنان مستعيناً بسطوة المرجعيّة المذهبيّة والتسلّح التقليدي والخبرة القتاليّة والتخصيب النووي وريع الثروة النفطيّة.

كما يتحصّنون بدرع المظلّة الروسيّة المنصوبة لخدمتهم في المحافل الدوليّة والشاحنة لهم السلاح المسدّد ثمنه من "الخزانة" الإيرانيّة والضمانة لمصالح روسيا ببقاء قاعدتها البحريّة في طرطوس و"موطئ قدمها" في المنطقة ليحول دون توسّع سيطرة ونفوذ حلف شمالي الأطلسي.

المربك لرصيد الثورة السوريّة هو إختراق صفوفها بإقتحام "جهاديّين" لميادين القتال وسيطرتهم على مواقع وظهورهم في وسائل الإعلام معلنين هدفهم في بسط "ملكهم الخاصّ".

تعدّد هذه الفصائل إستوقف إنتباه الدول الغربيّة الداعمة للثورة السوريّة ودفعها لإستكشاف السبل لإقصائها ومساعدة السوريّين على توحيد نضالهم لبلوغ محطّة التغيير الآيلة إلى صيغة حكم ديمقراطي طُرحت هدفاً للإنتفاضة والتمرّد الشعبيين.

فهكذا إختراق نمّى قلق هذه الدول وأرّق مضاجع شعوب المنطقة المحبّة للسلام والوئام والحريّة وأوقد توجّسها من جنوح المسار نحو تحوّلات هجينة غير متلائمة مع معايير الديمقراطيّة وحقوق الإنسان "شفطها" وأسفر عنها سقوط بعض الأنظمة الجائرة والمستبدّة والفاسدة في المنطقة.

تصاعد منسوب القلق مع تفشّي الفصائل المسلّحة المتوأمة مع عقيدة "القاعدة" إنطلاقاً من مراقد حضانتها داخل دول مترنّحة أو متداعية كباكستان وأفغانستان مروراً باليمن والعراق وصولاً إلى ليبيا وموريتانيا والصومال ونيجيريا ومالي.

تقاطب هكذا مقاتلون داخل مالي طامحين إلى إقامة "إمارتهم الفاضلة" وتمدّدوا من الشمال دافعين القوّات النظاميّة نحو الجنوب ممّا جعلهم تهديداً خطراً يبثّ تموّجاته عبر أفريقيا ويعبر المتوسّط ليدقّ أبواب أوروبا.

إستشعر الأوروبيّون خطورة هذا الزحف ونظراً لخبرة فرنسا التاريخيّة في إفريقيا وتواصلها ووثوق العلاقات مع دولها إستجاب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند لطلب مالي مساندة جيشها وأرسل فرقاً من الجيش الفرنسي لتنفيذ هذه المهمّة مشفوعاً بنجدة قوّات أفريقيّة ودعم لوجستي من إنكلترا وألمانيا وكندا والولايات المتّحدة الأمريكيّة مع جهوزيّة إيطاليّة للمشاركة رغم النزعة القويّة والعامّة للإحجام عن التدخّل.

وبما أنّ الهذيان وباء سريع العدوى بين العليلين إلتهبت الحمّى في قلوب "مصابين" بلوثة التعصّب ف"إنتخوا" ل"كسر مزراب" يسلّط الضوء على "مجد" أدوارهم في "تلقين الأجانب دروساً" غطّوها هذه المرّة بالمطالبة بتحرير "زميلين" لهم من السجن في أمريكا و بمساندة "إخوانهم المجاهدين " في مالي محتجزين العاملين في معمل" أميناس" لإنتاج الغاز في الجزائر حيث حسمت الحكومة الموقف بمداهمة قوّاتها الخاصّة الموقع وتحرير معظم الرهائن بعد مقتل ثلاثة وعشرين ضحيّة منهم برصاص الإرهابيّين الإثنين والثلاثين الذين سقطوا قتلى خلال الإشتباك .

هذه المعضلة المتشعّبة والمفرّخة في بؤر متعدّدة إذا إعتبرت دوّامة بالنسبة لدول الغرب ودول الشرق الأوسط فإنّها إعصار يقتلع أحشاء الدول المنكوبة به.

وهذا يشكّل تحدّياً شرساً للرشيدين التوّاقين لنور المعرفة واليقين والعاشقين الحريّة والإنفتاح والثقافة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان إذ أنّ إنتشال المنغلقين من عزلتهم وتفكيك "عبوات"

تعصّبهم وحقدهم لتأهيلهم عمل شاقّ وطويل النفس ويقتضي إجتثاث جذور المشكلة بدءاً من التربية والإعداد السليمين وإنتهاءً بمصداقيّة إلتزام المعايير العادلة والنزيهة في معالجة المشاكل الدوليّة.

الحاجة ماسّة لتنشيط جهود هذه النخب الطيّبة لحماية مجتمعاتهم من النزعات المتطرّفة والمتخلّفة التي يروّج لها دجّالون يعتصمون بإنتحالهم صفة "سفراء للجنّة".

طالما أنّ الدّين لا يجيز إتّخاذه ذريعة للتطرّف والعنف والإكراه فواجب المراجع المختصّة تسفيه أولائك المنحرفين عن السراط المستقيم وإقصاؤهم عن منابر الوعظ وتحريم تمويلهم وإثبات صدق نوايا الإنفتاح وإحترام كرامة الإنسان بالشهادة والتطبيق وجعلها جزءاً من ثقافة وعلم وفقه المرشدين المعتمدين.

هذه الحاجة تبرز بإلحاح ليس فقط في الدول الموبوءة ببؤر التعصّب والإرهاب بل أيضاً في تلك التي تشكّل هدفاً جذّاباً لهذا الجنون كلبنان الذي تبوّأ موقعاً مرموقاً كونه ملتقى الحضارات وموئل حريّة الرأي الرصين والممارسة المسؤولة ومهد الديمقراطيّة المميّزة المحاصرة للأسف في بؤرة الرماية ومرْبع جنّة مبتلية بالكثير من الجاحدين لكنّها مباركة أيضاً بأبناء أوفياء ومجلّين.


في غمرة هذا الغليان يكظم اللبنانيون غيظهم ومرارتهم من الضّيق وضياع الحقوق وتفشّي الفساد وشرود الولاء عن بوصلة الوطن نحو بورصة البيع والشراء والنخاسة السياسيّة.

كما يرهبهم ويجفّل زوّارهم والمستثمرين شيوع فوضى زعزعة الأمن وإرتهان السلامة العامة والثقة بالمستقبل لرحمة المتصرّفين بالسلاح الفئويّ المسخّر لترجيح نفوذ حامليه ورعاتهم.

والطامة الجارفة هي تكرار إحباط جهود المخلصين المكرّسة لإعادة ترسيخ أسس ونهج وسياق النظام الديمقراطي وإلى النهوض بمؤسّسات الدولة لتنشيطها وتنقيتها من العيوب التي تعيق تعافيها.

وإزاء تقصير إصحاب المواقف المعتدلة والرزينة والمرجعيّات النافذة عن وضع حدّ لجسارة المتطرّفين الطفيليّين وكبح جماحهم النازع إلى كبت حرّية وحقوق المواطنين الديمقراطيّين الرافضين لإيّ إكراه، إستُحضر مشروع الأنتخاب المكنّى بالأرثوذكسي لكسر طوق إحتكار وحصريّة التمثيل والإنعتاق ممّا يقيّد ويهمّش حريّة الإختيار مع أخذ العلم بنوايا "المتبرّعين بدعمه حتى وأده" لغاية زرع الشقاق بين أفرقاء تكتّل 14آذار .

حقّ للذين يرغبون أن يقترعوا على أساسس غير طائفي أن تفرز لهم الطائفة 19 ويُخصّص لهم عدد من الممثلين (شرط الحؤول دون إغراقهم المتعمّد بطوف من "الدخلاء" المدفوعين لإنتزاع وإختطاف قرارهم وحصّتهم) .

هذا المشروع يُعتبر "أبغض الحلال" وأجدى بالمحاضرين عن إلغاء الطائفيّة المبادرة إلى فرط عَقْد وعِقَد "غيتوياتهم" ودويلاتهم المذهبيّة والبدء بغسل هذه اللوثة من نفوس أنصارهم فمتى تحقّق ذلك لا مبرّر لطرح هكذا مشروع قانون.

رغم قساوة الظروف وتواتر الصدمات التي أنهكت العديد من اللبنانيّين وإستهلكت آمالهم، إلّا أنّ المقدودين من صلب الوطن يظلّون أقوياء الشكيمة وعاصين على منال البؤس واليأس.

*أكاديمي مواظب على الإلمام والتمحيص في الشؤون اللبنانيّة

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها