عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

حميد عواد*

 

*مهندس و أكاديمي باحث في الشؤون اللبنانية


كي نحيا من جديد

25.8.06

بعد بلورة إجماع لبناني على النقاط السبع و مخاض تطعيم قرار مجلس الأمن الدولي 1701 بها، صدر القرار ليلزم الجيش الإسرائيلي بانسحاب شامل من لبنان و ليوقف إعصار القتل و الدمار الذي نكب اللبنانيين بقدر هائل. و مع صدور هذا القرار استعاد اللبنانيون شيئاً من روعهم و انعتق المجتمع الدولي من دوّار المراوحة في حلقة "استكمال" وابل القصف الإسرائيلي "إصابة أهدافه". حصيلة كل قصف نقلته وسائل الإعلام بالصوت و الصورة، و وقائع القتال شهد لها طرفاه. لكن كما في كل حرب تضمحلّ حسابات الربح أمام جلل الخسارة البشرية. لقد انتزع القصف مئات الأرواح من حرمة مآويها و اقتنصها في مركباتها منتهكاً نداءات الضمير و حصانة القوانين و الإتفاقات الدولية. بعد زوال هيجان نشوة الإنتصارات و تبدد سراب الإنجازات يتفتح البصر على هول المآسي و بشاعة الخسارة و تنقشع أمام البصيرة عبثية الحرب و جدوى التفاوض لنشر الأمان و إرساء السلام. و يبدأ نقد الذات لإستخلاص العبر بدل التركيز على مراجعة أساليب و مهارات القتال إستعداداً لجولات لاحقة. لقد إتخذ مجلس الوزراء اللبناني قراراً حكيماً كان محظوراً بنشر الجيش جنوب نهر الليطاني إلتزاماً ببسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية. أقيمت ستون نقطة مراقبة للحدود اللبنانية-السورية و تمدد الإنتشار جنوباً وسط فرحة شعبية عامرة. و هناك مزيد من ألوية الجيش تنتظر جلاء الجيش الإسرائيلي من بقية المواقع الحدودية و قدوم قوات دولية سيتم تشكيلها على ضوء استيضاح مهامّها و استجلاء قواعد عملها و استحصال ضمان من القوى الإقليمية لعدم الغدر بها. تلحق هذه الفرق بقوات الطوارئ الدولية لتساند الجيش اللبناني في الإضطلاع بمهام حماية شعبه و رصد حدوده و منع حمل السلاح غير النظامي.
و يبدو أن انضمام كتائب دولية مزودة بمعدات متطورة، لا يمتلكها الجيش اللبناني تؤمن مراقبة فعّالة للحدود، لا تروق للنظام السوري. فها هي أفواه مسؤوليه تهدد بإقفال الحدود و لم تبرأ الآذان بعد من طنين ترّهات أطلقتها بالأمس. يستغرب اللبنانيون هذا الإعتراض لأنه يتناقض مع شكاوى سابقة إدعى فيها الجانب السوري أن سلاحاً يهرّب من لبنان إلى سوريا و عناصر متطرفة تتسلل عبر الحدود. تفسير واحد لهذا الإعتراض هو إبقاء الحدود سائبة لعبور السلاح و الذخيرة و تسلل مثيري القلاقل "المنتدبين لمهمات خاصة" إلى لبنان دون رقيب.
يتوق اللبنانيون إلى إستكمال تنفيذ بنود القرار 1701 و توصياته و يرجون أن تكون قد ترسخت قناعة دامغة لدى مكوّنات المجتمع اللبناني أن الدولة القوية السيدة الضابطة لإيقاع الحياة الوطنية، الحاضنة لكل مواطنيها و الحامية لحقوقهم هي المرجعية الأساسية لكل فرد و جماعة ضمن كنف الوطن. أن محك جدية أي مساهمة إيجابية تدعي تعزيز منعة الوطن و تزخير قدراته، هو مدى توافقها مع تطلعات كافة أبناء الوطن و مقدار نفعها و شمول مردودها و وثاقة إلتحامها بمؤسسات الدولة و انتظام أهدافها و أعمالها في سياق المصلحة الوطنية العليا. يزداد وضوحاً تجربة تلو أخرى أن الإصرار على زعزعة الإستقرار في لبنان هو خطة خبيثة متسلسلة المراحل تهدف إلى استنفاد طاقة اللبنانيين على الصبر و الصمود و إلى استنزاف مواردهم و قروضهم و تجريدهم من أملاكهم، و صولاً إلى تفريغ الوطن من أبنائه الذين لا "حظ" لهم و لا "نصيب" من المال "النظيف" أو "المنظّف". و آخر مثال ما زال حياً في خواطر اللبنانيون حيث شهدوا بداية "موسم الإصطياف" تناقضاً صاعقاً بين تدفق سيل أخوانهم الوافدين من بلاد المهجر، و كثيرون منهم قدموا ليستقروا في لبنان، و بين "انحسارهم" مصدومين عن حجيم القصف الإسرائيلي إلى سفن الإجلاء تاركين وراءهم إخوة إهتزّ إيمانهم بالوطن و تخلخل تشبثهم بالبقاء فيه. للأسف الشديد، مشاريع سياحية مهمة و توظيفات مالية باهظة الكلفة نُسفت على حين غرة و دون سابق إنذار. و طالما أن الوطن بأمسّ الحاجة لجرعات منشطة من رأس المال، المرهف التطير، لضخّه في شرايين الدورة الإقتصادية و إحياء أسواق التجارة و الإنتاج و توفير مجالات عمل، فلماذا الإنقياد بجموح تحفّز "وجداني" (رومانسي) وثاب إلى تمثيل " ملحمة أسطورية" في القتال؟
هل اكتفينا من فتح جبهات قتال في لبنان على "نيّة" فلسطين و سوريا و إيران أم علينا "استحداث" جبهة جديدة على "نيّة" كوريا الشمالية مثلاً؟
عندها نتحسب ببناء مساكن و جسور "مطاطة" فوق الأرض و نحفر مزيداً من شبكات الأنفاق تحتها.
مثلما لا نرضى بإغتصاب الحقوق و نحضّ المجتمع الدولي على تقويم ميزان العدالة، كذلك لا نتمنى أن يتفاقم الصراع في الشرق الأوسط و أن يتدهور إلى مزيد من الشحن الديني و المذهبي و العرقي مستنفراً المشاعر و الغرائز، و مغذياً بؤر الإرهاب، و فارزاً شعوب العالم قبائل متأهبة للتناحر.
العالم الحر يتوجس من شر الفكر المنغلق و المتزمت أينما كان منشؤه .
و لأن التنوع غنى، ما الحكمة من طمس ميزة التنوع الفكري و الديموغرافي، و تقويض اسس الديمقراطية بأطلاق العنان لإنجاب مسرف كارثي النتائج يهدف إلى ترجيح "غلبة عددية" تقلب المعادلات؟ لنلتفت إلى الصين و الهند و نتعظ.
لا يمكن معالجة تحديات القضايا المعاصرة البالغة التعقيد بفكر بدائي محدود المعرفة و ضعيف الطاقة و ضيّق الأفق.
الفكر يجفّ و يشحّ عطاؤه متى كُبح و حُرم الإستقاء من مناهل المعرفة الغنية التنوع ومنع من الإختلاط و التلاقح مع كل التيارات الفكرية.
لذا يتلاشى كل من ينساق على درب العزلة عن بقية أبناء مجتمعه لينطوي مع أقرانه في "سرب" إنفصالي منسلخ عن حبكة أضلاع الوطن.
إن أي شراكة سطحية متباينة الرؤى و الأهداف، يعتريها كثير من "التحفظ" لا تبني وطناً.
المطلوب هو صفاء النوايا و الإنسجام في التنوع كالموجات التي، رغم تمايز خصائصها و ألوانها منفردة، تتضافر متماهية في حزمة ضوء ناصع يشعّ من شمس الوطن.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها