بعد استئصال الشعب اليهودي من الوطن
العراقي يبكون على ارشيفه
عنكاوا
في 17 / 05 / 11
يعتبر المكون اليهودي من الشعوب الأصيلة في بلاد ما بين النهرين وفي
حالة تأصيل هذا الوجود الى السبي اليهودي في الدولة الآشورية ومن ثم
الدولة الكلدانية ، فإن المسافة الزمنية ستمتد الى عشرات القرون ، وقد
ساهم اليهود في بناء الحضارت العراقية القديمة ، وكان لهم حضور في
مختلف العصور التاريخية منذ سحيق الأزمة ، حتى بعد ان خيّروا بعد العهد
الكلداني في العودة الى الى فلسطين فكان هناك شريحة كبيرة من هذا الشعب
فضلت البقاء في الوطن الجديد بلاد ما بين النهرين ، وكانت مساهماتهم في
شتى مجالات الحياة من الزراعة والصناعة والعلوم والتجارة وعرف عنهم اول
من وضع اسس بناء البنوك في بلاد ما بين النهرين بل في تاريخ البشرية .
في اعقاب سقوط الدولة الكلدانيــة الحديثة عام 539 ق. م. حصلت انعطافة
تاريخية في تاريخ بلاد ما بين النهرين حيث ان افول نجم هذه الدولة كان
إيذاناً لبداية غزوات وحروب لأجل احتلال هذه البقعة الغنية بثرواتها
المائية والبشرية، إنها ارض الرافدين الخالدين دجلة وفرات ارض
الحضارات المشرقة في وقت كانت الأنسانية في شتى الأمصار غارقة في لجة
الظلام الدامس، كانت هذه الأرض المعطاء ساحة استباحها الميديون ومن
والفرثيون والسلوقيون ، وجاء الساسانيون ليبدأ الأضطهاد على الأقوام
القاطنة في تلك الربوع لاسيما على المسيحيين ، وأخيراً العرب المسلمون
الذين استمر نهج الأضطهاد على الأقوام الأصيلة بفرض احكام اهل الذمة
التي تنتقص من كرامة الأنسان إذا نظر اليها تحت أضواء لوائح حقوق
الأنسان والأقليات في العصر الراهن.
في الحكم العربي الإسلامي استمرت جهود إلغاء هوية السكان الأصليين من
اسلمة عباد الله وتعريبهم بمسح لغتهم من الوجود والأبقاء على اللغة
العربية لأنها مقدسة وبها نزل القرآن وهكذا بقية اللغات ينبغي ان
تتوارى امام اللغة العربية، وهذا ما كان فعلاً في بلاد الرافدين ومصر
وسورية . فقد اختفت اللغات الأصلية (الآرامية بلهجاتها، القبطية ،
العبرية)، وبالنسبة الى الديانة توارت مع الزمن الكنائس والأديرة
والمعابد لتنتصب المآذن فوق الجوامع والمساجد الأسلامية .
في مختلف الحقب التاريخية بعد الأسلام كان هناك مساحة من الحرية
الدينية المحدودة ، التي لا ترتقي ابداً الى مستوى الحرية الدينية في
اوروبا المعاصرة ، لكن تلك المساحة الخضراء من الحرية غالباً ما كان
يطالها الجفاف لتخيم عوامل الأضطهاد وذلك حينما يلجأ الحاكم الى تطبيق
الشريعة الأسلامية بحق من اوقعهم حظهم العاثر في دائرة اتباع الديانات
الأخرى غير الأسلامية ، كاليهود والأيزيدية والصابئة المندائيون
والمسيحيون الذين على ارضهم نشأ الدين الأسلامي وتوسع .
إن السكان الأصليين في بلاد الرافدين رغم تلك الموجات العارمة من
الأضطهادات ومن محاولات مسح الهوية الدينية والعمل على صهر الهوية
القومية واللغوية فإن اصحاب تلك الهويات صمدوا في وجه تلك المحاولات
وتحملوا الكثير من اجل الأحتفاظ بأوابدهم وتاريخهم وبثقافتهم الدينية
واللغوية ، وفي مقالنا هذا كان لليهود حضور دائم على مسرح الحياة في
دنيا المال والأقتصاد والسياسة .
إن الدولة العراقية الحديثة حين تأسيسها كانت واحة يقطنها طيف واسع من
التركيبات الأجتماعية والطائفية والدينية واللغوية والأثنية ناهيك عن
التقسيم المديني والريفي وعشائر البدو الرحل .. إن من بين هذه التنوعات
كان اليهود يمثلون في بغداد نفسها حوالي 20% من السكان (تشارلز تريب :
صفحات من تاريخ العراق ص43)، حين تشكيل الحكومة العراقية عام 1920
برئاسة النقيب ، كان معظم اعضائها من السنة ، إضافة الى بعض الشيعة
والمسيحيين فضلاً عن عدد هام من اليهود (السابق ص85) وكان اول وزير
للمالية يهودي .
لكن هذا المنحى لم يجري دون مطبات فنمو الأفكار القومية النازية
الهتلرية وهبوب رياحها على المنطقة العربية وبضمنها العراق كان لها
تأثير على الوجود اليهودي التاريخي في الوطن العراقي ، فتحت طائلة
الفكر القومي العربي تنامى العمل المعادي ضد الحركة الصهيونية ، وكانت
هذه نقطة تحول في علاقة اليهود مع المكونات العراقية الأخرى لاسيما
غلاة الفكر القومي العروبي الذي طفق ينمو مع نمو الحركة القومية
الهتلرية في حقبة الثلاثينات من القرن الماضي التي شكلت الحرب العالمية
الثانية ابرز مقوماتها البنيوية في مسالة تفوق هذا العنصر على غيره من
العناصر البشرية.
في التاريخ العراقي المعاصر كان سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني
المعادية للحكم البريطاني والمؤيدة لألمانيا الهتلرية، بتأثير شعارت
قومية، كان سقوط هذه الحكومة وفرار قادتها قد خلق فراغاً امنياً، والذي
اتاح بدوره لقطاعات من الشعب ومن قوات الأمن بصب جام غضبها على المكون
اليهودي في بغداد فحصدت تلك الأحداث التي عرفت بالفرهود، اي النهب
والسلب ، أرواح حوالي 200 يهودي عراقي وصاحبها سلب ونهب وتدمير لمتاجر
يهودية (السابق ص157).
إن المضايقات ضد المكون اليهودي تطورت مع نمو الفكر العروبي وكانت
التهمة الموجهة لهذا القوم هو مساعدة الدولة العبرية الناشئة فقيدت
حركتهم ومنعت عنهم الوظائف الحكومية وصدرت احكام إعدام على شخصيات
بارزة منهم، وهكذا حينما كان تعدادهم عام 1947 يبلغ 117,000 يهودي تقلص
هذا العدد مع مرور الأيام والسنين ليجري استئصال هذا المكون من الأرض
العراقية ، والتي شكلت موطنهم الأصلي منذ عصور سحيقة في القدم .
إنه حقاً من من المفارقات اليوم ان نقرأ في جريدة الشرق الأوسط
اللندنية بتاريخ 02 / 05 / 11 ان السياحة والآثار العراقية تخشى على
هذا الأرشيف ( الأرشيف اليهودي ) حيث جاء في الخبر
ينتاب الحكومة العراقية القلق من أن تقوم الإدارة الأميركية بتسليم
أرشيف يهود العراق، الذي تم العثور عليه في بغداد إبان الاحتلال
الأميركي عام 2003 ونقل إلى أميركا لغرض صيانته، إلى إسرائيل.
ولا يخفي عبد الزهرة الطالقاني المتحدث الرسمي باسم وزارة السياحة
والآثار قلقه على مصير الأرشيف اليهودي العراقي على الرغم من قوله إن
«وزارتنا تتابع باهتمام مصير هذا الأرشيف؛ إذ كان وزير الدولة لشؤون
السياحة السابق، قحطان الجبوري قد قام بزيارة إلى واشنطن وبحث مع
المسؤولين هناك موضوع إعادة الأرشيف وكانت الإجابة أن هذا الأرشيف
بحاجة إلى الصيانة كونه كان قد تعرض للتلف نتيجة تسلل المياه إليه».
وعلقت إحدى القارئات على الخبر:
بما أنني يهودية عراقية هُجرت من
العراق عام 1973 أوافق وأميل الى رأيه بالسؤال
عن سبب الاهتمام بالارشيف اليهودي اليوم في حين لم يهتم أحد باليهود
لعراقيين
أنفسهم
.
اجل بالأمس كانت هجرة وتهجير المكون اليهودي وتوسعت دائرة التهجير في
السنين الأخيرة لتمتد الى المندائيين والكلدانيين وبقية مسيحي العراق ،
فهل سنواصل البكاء عن الأرشيف ام يجري معالجة شأن القوميات العراقية
الصغيرة بمنطق المواطنة والوطنية العراقية وحقوق الأنسان التي يشكل
حقوق الأقليات القسم الهام من تلك الحقوق ، فشعبنا الكلداني في وطنه
العراقي لا زال يعامل وكأنه شعب هبط على هذا البلد من المريخ حيث يجري
سلب حقوقه القومية في واضحة النهار ، فمتى يجري احترام تلك الأطياف
العراقية الأصيلة وشعبنا الكلداني بالذات ؟ |