لم تكن دوائر القرار الدولية في حاجة الى وصول بعثة المفتشين
الدوليين الى سوريا والبدء بمهامها لتقويم مدى الالتزام بتنفيذ
خطة كوفي أنان. فصوَر الأقمار الصناعية، ومنها التي عرضتها
وزارة الخارجية الأميركية، أظهرت ان الجيش السوري لم ينسحب من
المناطق السكنية، بل أعاد التموضع في محيطها.
ومن أهم أسباب عدم الانسحاب الذي يشكّل أول مخالفة لتنفيذ
النقطة الثانية في خطة أنان، يبرز عاملان استراتيجيان رئيسيان
من شأنهما أن يؤثرا في شكل كبير في مسار الازمة السورية، وهما:
اولاً: ميدانيا، اذا
انسحبت قوات الجيش، سيصبح في متناول المناوئين للنظام، حرية
الحركة والوقت الكافي لتنظيم صفوفهم، وتحصين مواقعهم، والتواصل
والربط بين مدينة وأخرى، استعداداً لجولة جديدة أكثر ضراوة في
المرحلة المقبلة، مع الاشارة الى ان قوى المعارضة على الأرض
الان، تسيطر على الأحياء في شكل أو آخر. فمثلاً: تستأثر
"المجالس الثورية" بالسلطة في حمص، بينما تسيطر العائلات
المتنفذة في درعا. كما انّ ادلب، وهي منطقة فقيرة ومحافظة،
يقودها شيخ سلفي على رأس قوة مؤلفة من نحو الف رجل مسلح...
ثانياً: استحالة القبول
بتنفيذ النقطة السادسة من خطة أنان، والتي تنصّ على "احترام
حرية التجمّع والحق في التظاهر السلمي حسبما يكفله القانون"،
وهذا يعني انه اذا انسحب الجيش وانتشر المراقبون الدوليون
والاعلاميون العرب والاجانب، فإنّ المحتجين المسالمين الذين
اضطروا الى الانكفاء تحت القصف والمواجهات الدموية، سيملأون
الساحات الرئيسة في سوريا ويطالبون بإسقاط النظام وتنحّي
الرئيس.
ولهذا السبب يتم الاستعداد لكل حالات الطوارىء:
1 - يتردد ان تركيا وضعت
خطة لإقامة ملاذات آمنة للاجئين على الحدود داخل الأراضي
السورية بضوء اخضر من حلف شمال الاطلسي الذي ابلغ الى انقرة
استعداده التدخل العسكري لحماية تركيا اذا ما تعرّضت لأي هجوم
عسكري (من روسيا أو إيران) رداً على تدخّلها في سوريا.
2 - بدأت المساعدات
المالية من بعض دول الخليج الوصول الى المعارضين السوريين فيما
المساعدات العسكرية هي على الطريق. وهذا العامل المادي سيؤدي
دوراً بالغ الاهمية إذ انه سيؤمن مدخولاً لعائلات المعارضين
والمنشقين عن الجيش، كما انه سيشجّع على المزيد من الانشقاقات،
ليس في القوات المسلحة فقط وانما في ادارات أخرى، خصوصا انه في
غضون ستة أشهر ستصبح سوريا أسوأ اقتصاديا في شكل أكبر بكثير،
ولن تجد الحكومة ما يكفي من المال لتمويل القوات المسلحة
وكوادر الاستخبارات العسكرية.
3 - تدرس واشنطن تزويد المعارضة
السورية معلومات استخباراتية محدودة حول نَشر القوات العسكرية
والامنية و"الشبيحة" وتحرّكها داخل سوريا، وخصوصا عندما تقترب
من المراكز السكنية لشَنّ هجوم.
كما تدرس توسيع خياراتها نحو احتمال دعم عسكري مباشر تقوم به
كجزء من تدابير "وقف الكارثة الانسانية"، ويشمل ذلك إنشاء
ملاذات آمنة داخل سوريا بمساعدة حلفاء مثل تركيا.
4 - بدأت موسكو الضغط على
الحكومة السورية في محاولة لإنجاح المفاوضات التي يجريها أنان،
لانها تعتبر ان مهمة المبعوث المشترك للأمم المتحدة والجامعة
العربية، تشكّل آخر فرصة لحلّ الأزمة السورية بطريقة سلمية.
وأبلغت موسكو الى دمشق ان عدداً من المسؤولين الأوروبيين
اقترحوا على القيادة الروسية أفكاراً مختلفة، منها إحالة ملف
الرئيس السوري الى المحكمة الجنائية الدولية، الّا ان الكرملين
رفضها، لكنه لا يستطيع الاستمرار في موقفه اذا تطورت الاوضاع
في سوريا سلباً الى مزيد من الدم.
من هنا يظهر جليّاً حدود الديبلوماسية في هذه المرحلة،
واستحالة انتاج حل سياسي للأزمة السورية، وبالتالي اعتبار جهود
أنان مضيعة للوقت.