القرار
الإتهامي في ملف اغتيال الحريري: جولة على ما لم يذكر وقراءة في ما نشر
الأربعاء,
17 أغسطس 2011
نبهت المحكمة الخاصة
بلبنان إلى أنها تقدم للرأي العام نصا غير مكتمل للقرار الإتهامي، تاركة
الرواية الكاملة بأبطالها وأحداثها لمرحلة المحاكمة، وتاليا فإن ما نشر
يبقى "مبتورا" عن سابق تصور وتصميم.
إلا أن "البتر" لا يعفي من القيام بجولة على النواقص كما على المعطيات
المنشورة.
نبدأ بالنواقص.
أولا، دوافع الجريمة
لم يقدم القرار- بالجزء المنشور منه- أية دوافع للجريمة، أي أنه لم يشرح
سبب إقدام هذه المجموعة على اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وتعتبر الدوافع، في الجرائم الإرهابية كما في غيرها من الجرائم القاتلة ،
من الأجزاء المهمة من القرارات الظنية أو القرارات الإتهامية.
ولكن الجزء المنشور من القرار، ركز على "البروفيل" السياسي للرئيس رفيق
الحريري، ولم يتطرق الى نواح أخرى من شخصيته، الأمر الذي يسمح بالإعتقاد
بأن التحقيق يعتبر أن وراء اغتيال الحريري أهدافا سياسية.
وفي هذا السياق، كان لافتا لحظ القرار الإتهامي، لتاريخين متقاربين، تاريخ
إستقالة الحريري في 20 تشرين أول 2004 ( هناك خطأ مادي في القرار ، بحيث
اعتبر أن استقالة الحريري تمّت في 26 تشرين الثاني 2004)، وتاريخ المرحلة
الأولى من إخضاعه للمراقبة، في 11 تشرين الثاني 2004، مما يعني أن الاسباب
التي دفعت الحريري الى تقديم استقالته واعتذاره عن تشكيل حكومة التمديد
الأولى قد تكون هي السبب وراء الإنطلاق في عملية مراقبته تمهيدا لتنفيذ
جريمة اغتياله.
جدير ذكره ، أن الحريري دُفع دفعا الى تقديم استقالته، وقد أبلغه ، يومها
الرئيس نبيه بري، أنه في حال لم يقدم استقالته طوعا فإن حكومته سوف تقال
باستقالة وزراء الأكثرية السورية ( الأمر نفسه عاد فحصل مع الرئيس سعد
الحريري).
وقد تزامن بدء مراقبة رفيق الحريري مع جملة أحداث في لبنان والمنطقة، فعلى
مستوى لبنان، أنجزت حكومة الرئيس عمر كرامي التعيينات الأمنية وصدر مرسوم
تشكيلات قوى الأمن الداخلي، وأحكم عدنان عضوم سيطرته على النيابة العامة
التمييزية بتسليمها الى القاضية ربيعة عماش قدورة، وأعلنت وفاة الزعيم
الفلسطيني ياسر عرفات، واستقبل الرئيس السوري بشار الأسد وفدا من الكونغرس
الأميركي ، وأوهم الأمين العام لحزب الله اللبنانيين بأنه سيطر على الأجواء
الإسرائيلية من خلال إطلاق طائرة صغيرة الحجم ، وهي تطوير لطائرات لهو،
سماها مرصاد_ 1.
ثانيا، دور عماد مغية
أخفى القرار الإتهامي، ما يمكن أن يكون قد لعبه القائد العسكري لـ"حزب
الله" عماد مغنية من دور ريادي في الجريمة، على اعتبار أنه يحصر روايته بما
فعله المتهمون المطلوب توقيفهم، ولا يمدد نفسه، على قيادات توفيت، سابقا.
وكان لافتا أن القرار أتى على ذكر عماد مغنية ، مرة واحدة ، حين أصر على
ذكر صلة النسب التي تربطه بالمتهم مصطفى بدر الدين، مشيرا الى أن مغنية جرى
اغتياله.
وفيما اقتصر ذكر دور عماد مغنية على هذه المسألة، لوحظ أن الفقرة 59 حاولت
أن تحيّد "حزب الله" ككيان، مما يعني أن المحكمة لا تستهدف الحزب بل قتلة
هم مناصرون له.
ثالثا، العبث بمسرح الجريمة
غاب كليا الحديث عن مستويات أخرى في الجريمة، بحيث انحصر ببعض المنفذين،و
بقيت مواضيع خارج البحث، ومن بينهاعلى سبيل المثال لا الحصر، العبث بمسرح
الجريمة.
والعبث بمسرح الجريمة، متى كان المتهمون بهذه الأهمية ، لا يمكن فصله عن
فصول التضليل التي كانت جزءا لا يتجزّأ من مخطط الجريمة- المؤامرة ، بدليل
ما جرى كشفه في ملف أحمد أبو عدس، بحيث أميط اللثام عن "محمد" الذي أخذ
أحمد أبو عدس من لبنان وأبلغ ذويه أنه انتقل الى العراق للمشاركة في
"المقاومة" فيها، وعن "فبركة" شريط الإعترافات، وعن التواصل مع وكالة أخبار
عالمية ("رويترز" عبر مريم البسام) وقناة فضائية ("
الجزيرة، عبر غسان بن جدو) ، أي عبر وسيلتين إعلاميتين يعمل فيهما من يرتاح
إليهم "حزب الله".
ومع هذا الغياب، غاب البت بملفات الجنرالات الأربعة المخلى سبيلهم، حتى
مرحلة جديدة.
وموضوعا صناعة "القاتل المزوّر" وتزوير وقائع مسرح الجريمة، يمكنه أن يلقي
ظلالا كاشفة على ملف ما سمي بشهود الزور ومدى ارتباط هؤلاء أو بعضهم بحزب
الله، خصوصا بعدما ثبت بالوقائع التي نشرها "يقال.نت" بالتفصيل، مدى تورط
"حزب الله" بصناعة شرائط ونصب افخاخ لغيرهارد ليمان، بالإضافة الى دوره في
"سرقة" وثائق التحقيق التي جرى بثها على قناة "نيو.تي. في " الموالية لحزب
الله.
رابعا، الشهود
شدد القرار الإتهامي، في بداية سرده للوقائع، على أنه توصل الى تحديد هوية
بعض المتورطين باغتيال الحريري، من خلال عدة عناصر، من بينها إفادات
الشهود، إلا أن أي شاهد لم يظهر، لا إسما ولا قولا في القرار الإتهامي، في
حين برز دليل الإتصالات بقوة. وهذا يعني ، أن القرار أظهر الدليل غير
القابل للتهديد أو التصفية ليخفي بالمقابل الأدلة التي يمكن تهديدها أو
تصفيتها.
وهنا يبرز السؤال عن هوية هؤلاء الشهود، وعن إفاداتهم، وعن أهميتهم، وعن
صلاتهم الحقيقية بالحدث؟
خامسا، مستوى الأمرة
مع صدور هذا القرار الإتهامي ، يمكن القول أن التحقيق أنهى الجزء الأول
منه، ولا يزال العمل جاريا على الجزء الآخر، وهنا يمكن طرح أسئلة عن
المستويات "المساعدة" والمستويات "الآمرة".
وفي هذا السياق:
هل يمكن تنفيذ جريمة مماثلة ، حيث ثبت استعمال 2500 كلغ من مادة "تي.أن.تي"
، في أكثر نقطة محمية في لبنان، حيث مرفأ "سان جورج" الذي كان يستعمل
للقاءات أكبر الساسة اللبنانيين ، ومن بينها عشاء جمع رئيس الجمهورية آنذاك
أميل لحود بنائب رئيس الحكومة آنذاك عصام فارس في ليل 13 شباط 2005، وحيث
فندق فينيسيا ، حيث ينزل كبار ضيوف لبنان، وحيث المنطقة التي كانت تحميها
شركة أمنية لكل من شقيق مصطفى حمدان، ماجد، ولإبن أميل لحود، رالف، من دون
تنسيق مع جهاز أمني لبناني أو أكثر؟
وهل يعقل أن يكون مصطفى بدر الدين قد اتخذ، من عنده، قرار تصفية شخصية بحجم
رفيق الحريري؟
ولماذا جرى اغتيال شخصيتين على صلة وثيقة ، في وقت متزامن تقريبا، أي عماد
مغنية ، رئيس الفرقة المتهمة، والعميد السوري محمد سليمان "مغنية النظام
السوري"؟
أدلة القرار الإتهامي
على أي حال، لقد عرضنا في "يقال.نت" الشق التقني في القرار الإتهامي على
خبير دولي في الإتصالات وسألناه عن مدى قدرة التحقيق على التوصل الى أسماء
مرتكبي جريمة من خلال "مرافقة" الأجهزة التي تحتوي أرقاما لشبكة مغلقة
لأجهزة تحتوي على أرقام لشبكة مفتوحة، فأجاب بعد الإطلاع على نص القرار
الإتهامي: هذا بالتحديد ما تقوم به جميع أجهزة التحقيق في المجتمعات
الديموقراطية المتقدمة ، وهي بواسطة هذه الأدلة فككت شبكات إرهابية كثيرة.
ولفت هذا الخبير الى أن علوما عدة تجتمع لاستنباط الأدلة من هذه المرافقة ،
وهي توصل بالعادة الى نتائج مرضية ومطمئنة.
وقال: إن المرافقة بين الهواتف المسجلة وبين الهواتف المموهة، هي دليل قاطع
على صاحب الهاتف المموّه.
وقال خبير أمني لبناني إن هذه السلوكية بالذات سبق لها وأدت الى كشف جرائم
عدة في لبنان، نذكر منها جرائم التعامل مع العدو الإسرائيلي، ويمكن الإطلاع
عليها في قرارات إتهامية عدة صادرة عن المحكمة العسكرية في لبنان، ومن
بينها على سبيل المثال لا الحصر التحقيقات في ملف العميد "العوني" فايز
كرم.
وقال خبير قضائي لبناني إن آلية التوصل الى بعض المتهمين في اغتيال الرئيس
رفيق الحريري مماثلة ، من حيث الأدلة، الى طريقة توصل القرار الإتهامي
الصادر عن القضاء اللبناني، إلى حقائق في ملف تفجيرات عين علق.
وسأل مراقب لبناني ، في هذا السياق، عما إذا كانت المحكمة ، وهي تمعن النظر
في الأدلة المستخرجة من الإتصالات قد توقفت عند الآتي:
أولا، حقيقة اغتيال الرائد وسام عيد، وكان رائدا في كشف الخيط الأول في
إماطة اللثام عن المجموعة القاتلة.
ثانيا، سبب شن "حزب الله" لحملة "إسترداد" وزارة الإتصالات من قوى 14 آذار.
ثالثا، سبب شن قوى 8 آذار لحرب ضروس من أجل وقف التعاون بين وزارة
الإتصالات من جهة وبين التحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
إستنتاج
إن ما جرى كشفه من القرار الإتهامي له أهمية جنائية وعلمية، خصوصا ربط
الإستنتاجات القائمة على رصد تحرك المجموعة التنفيذية في مؤامرة اغتيال
الحريري بمجموعة فبركة أحمد أبو عدس.
هذا الترابط بين فعل القتل وفعل التضليل ، بالأدلة ، يقوي قرار الإتهام،
لأن الأدلة الظرفية هنا هي أدلة تتقاطع وتتكامل، وهي تظهر أقوى من الأدلة
المباشرة المبنية على الإعترافات، لأن الإعترافات يمكن الطعن بها وبجديتها
وبصدقيتها وباستقلاليتها، في حين أن ترابط الأدلة الصامتة الظرفية لا
يستطيع أحد المس به، إلا من خلال تقديم تفسيرات دفاعية، متناسقة ومترابطة.
هذا المس لم يحصل حتى الآن، فمعطيات الأمين العام لـ"حزب الله" هي معطيات
قد تكون صحيحة ولكن لأحداث لا علاقة لها مطلقا بقضية اغتيال الرئيس رفيق
الحريري.
youkal.net |