أنتظر على ضفة
النهر
الأربعاء,
11 أبريل 2012
تغيّر سعد الحريري !
لم يعد شخصية نرسم مزاياها عن بعد، أو ننقل مواقفها من خلال شعارات
"معلّبة"!
تغيّر سعد الحريري!
لم يعد بطلا شكسبيريا مجرّحا بمعايير التراجيديا: يرث دماء مسفوكة، ثم يضطر
إلى مصافحة سافك هذه الدماء، قبل أن يعود هو فيصبح مستهدفا بالقتل!
تغيّر سعد الحريري !
كبار المتخصصين في العلوم الإنسانية يؤكدون أن الأشياء الأكثر أهمية، غالبا
ما تحصل، من دون أن ينتبه إليها أحد. وهذه هي الحال مع سعد الحريري !
ليست خامة سعد الحريري هي التي تغيّرت، بل هي التي تعزّزت!
ليس في خامة الرجل ما يحتاج الى تغيير. حلمه اللبناني نقيّ. إنتفاء الطبقية
في محيطه محمود. إستعداداته الإيجابية التي تفوق إمكاناته في بعض الأحيان،
جاذبة. تأثره بالمآثر الإنسانية، بدمعة هنا وبابتسامة هناك، مرغوب. مزج
إيمانه العميق بتقبل اختلاف الآخر، مدرسة.
ليس بهذه الخامة حصل التغيير، بل من أجلها!
السياسي المنطوي على فضائله، لم يعد كذلك!
لم تعد الدقائق العشرة كافية للقاء معه، بل بتّ تستهلك الساعات وتطلب أخرى!
لم يعد مجلسه صامتا أو موزعا على مواضيع " هامشية"، بل أصبح مجلسا منتجا،
تخسر الكثير إن فاتك!
لم يعد " المندس" يفرض قواعد التحفظ على أي نقاش، فعند سعد الحريري لم يعد
هناك ما يحتاج الى تستّر وإلى مهر بختم السري للغاية!
أفكار " دولته" لم تعد بحاجة الى حرارة الخيم البلاستيكية، فشمس الربيع
فتّحت البراعم وأذابت الثلوج التي بدأت تتدفق ماء في الأنهر!
يبقى سعد الحريري رجل الأحلام الكبيرة، ولكنه لم يعد رجلا يبني خطة تحقيقها
على التمنيات السعيدة.
بات يدرك الصعوبات ويعترف بالعوائق ويقبل بالمخاطر، ليبني على أساسها
المقتضى. لم يعد رجل السيناريو الزهري . أصبح رجل السيناريو الأسوأ!
ولكن...
ترقب السيناريو الأسوأ، لدى سعد الحريري، لا يستدعي الشلل ولا يستقطب
التخاذل ولا يتطلب التوقيع على صك إذعان، بل هو يفترض مقاومة ونضالا وعملا
وصمودا!
لم يعد سعد الحريري رجل السلطة بأي ثمن، بل أصبح الثمن لديه أهم من أي
سلطة!
ثائر سوري بالنسبة إليه، أنفع من كل آل الأسد. يحفظ أسماء هؤلاء الثوار
واحدا واحدا. يتابعهم أينما أطلوا واحدا واحدا. صحيح أنه لا يفتح داره لمن
يرغب بالتدفق عليه ممّن يمثلهم، ولكن الأكيد أنه يفتح لهم أبواب عقله
وقلبه، ونكاد نقول، لولا الأزمة المالية، حساباته المصرفية!
لا يُخفي هذا التعلّق بالثورة السورية. كأنه يرى، في كل شهيد سوري، رفيق
الحريري وباسل فليحان وجبران تويني وجورج حاوي وسمير قصير ووليد عيدو وبيار
الجميل وأنطوان غانم وسامر حنّا ، ويأمل لو ترى فيهم قيادة الجيش فرانسوا
الحاج وسامر حنّا. كأنه يرى في كل جريح سوري مروان حماده ومي شدياق والياس
المر. كانّه يرى في كل ناج سوري من قنّاص أو قنبلة ..سمير جعجع. كأنّه يرى
في كل متظاهر ذاك الرابع عشر من آذار 2005!
لا يُخفي ذلك، لإيمانه بأنه لن يعود الى سلطة على جناحي بشار الأسد.
فالسلطة، هي كالجنة، يستحيل دخولها على حضن إبليس!
وحده التخلّي عن مكسب مشروط باقتراف خطيئة، يُحرّر. وحده الوصول الى الهدف
بنقاوة الوسيلة، له طعم الإنتصار!
الإجازة القسرية التي دُفع دفعا إليها، أغرقته في تأمل عميق خرج منه بعيون
" تشرقط" تصميما!
خرج من السلطة بهزيمة سياسية، ولكن العقول قبل القلوب حملته عاليا، لأنه لم
يوقّع على صك استسلام كان مطلوبا بقوة!
أدرك أن " الصح" الذي كان يتمسك به في فترة المناورة، سهّل سقوط بشار الأسد
العربي والدولي، بعد فترة وجيزة على اندلاع الثورة في سوريا. بفضل هذا "
الصح" الذي كان يحرص عليه في اتصالاته "السرية" بالدول " المغشوشة "ببشار
الأسد، أدركت قيادات فرنسا وقطر وتركيا والسعودية وغيرها أن الإنصات لوعود
بشّار الأسد، ليس سوى مشاركة بجريمة ذبح شعب شجاع!
أدرك أن السلطة كانت معقودة له بتنازل ما ارتضاه، وهو لن يرتضيه للعودة
إليها مجددا. السلطة ليست مركزا بروتوكوليا، بل قرار يستحيل تجييره، وهي
خطة إنقاذ يستحيل التخلّي عنها! هي كالحلم الذي لا يتحقق بروايته، بل في
السير باتجاهه، بشغف وتصميم!
ولم تبتعد فترة التأمل العميق التي عاشها سعد الحريري عن "حزب الله". أعاد
قراءة صلاته بالسيّد حسن نصرالله. أعاد قراءتها في ضوء لقائه بمرشد الثورة
الإسلامية في إيران. وبانت النتيجة، بأنه، حين يطل " السيّد" على الشاشة،
يبقي تلفزيوناته الكثيرة على قنوات تُعنى، حصرا، بتغطية الثورة في سورية،
وإن حثّه احد على متابعة نصرالله يدير له أذنه الصمّاء.
رؤيته للاعبين السياسيين على الساحة اللبنانية تتميّز بالوضوح، ولكن الأهم
يبقى إدراكه لما يعانيه جمهور 14 آذار من " إحباطات" بعضها يفرضها غيابه
الإضطراري عن " ساحة القنص" اللبنانية، وبعضها ينتجه " التضعضع" على مستوى
قيادة 14 آذار وتركيبتها الحزبية، وبعضها تصطنعه الدعاية السوداء التي
يمطره بها إعلام 8 آذار.
طموحه أن يحتضن قريبا جمهوره. أن يعود إليه. أن يتفاعل معه. أن يشاركه
أحلامه وتطلعاته ومخاوفه.
ولكن دون طموحه هذا، صوت يعصف فيه كل دقيقة: إقبل بفراق ظرفي لئلا تفرض
علينا غيابا دائما. إرتض بخسائر مؤقتة لئلا نصاب بخسائر دائمة.
على عتبة سنته الثانية والأربعين يعبر سعد الحريري الى آفاق جديدة. وبهذه
الصفات يمكن للمرء أن يأمل بتفتح الأفق على إيجابيات كثيرة بسعد الحريري،
لأنه لم يعد يحمل مشروع سلطة ، بل أضحى يحمل حلما.
سعد الحريري " الجديد" أصبح أشبه برفيق الحريري في زمن العبور الذي قطعته
حفرة السان جورج!
أضحى " مؤامرة" على نظام الأسد، و"شريكا" بصناعة مستقبل سلاح "حزب الله"
المتفلّت، ورائدا في حلف عريض لصناعة دولة مركزية قوية!
في أيام رعاية ساقه المكسورة، إكتشفت في سعد الحريري قدرة هائلة على رعاية
كل ضعيف وكل "مكسور خاطر". وهو اكتشف، بالتجربة، حاجة كل " مكسور" الى
عناية فائقة. الأوطان المكسورة. الخواطر المكسورة. الكرامات المكسورة.
الطمأنينة المكسورة. الجماهير المكسورة و...القيم المسكورة.
إكتشف أن رعايتها لا تكون بإهمالها أو بتجاوز حقيقتها، بل بحمايتها من كل
صدمة، وتوفير ما تحتاجه من " تدليك" – ولو مؤلم- ومن راحة – ولو مملّة- ومن
استشفاء – ولو مكلف- ومن تضحيات- ولو مرهقة-!
حاليا، يمضي سعد الحريري فترة النقاهة الطبية في منزله في باريس. هذا
المنزل القابع على الضفة اليمنى من نهر الـ"سين".
بالأمس تأملت فيه كثيرا، لأنني كنتُ قد صمّمت أن أكتب عنه، فقلمي اشتاق
إليه، بعدما كنتُ لفترة قد استبدلته بشفرة تتخفى بقطنة.
نظر إليّ وسألني عن سبب هذه النظرات المستقرّة عليه، فقلتُ له :" أحاول أن
أفهم ماذا تفعل"، فعلّق ضاحكا:" إنني أنتظر على ضفّة ...النهر!"
|